حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة : هويّة وأبعاد مُرتجاة
رينيه أنطون - 22 شباط 2025
للحوار في لقاءٍ لرؤساء فروع وأعضاء مجلس مركز جبل لبنان يُعقَد السبت 1 آذار 2025
في ضياءِ الذكرى الثالثة والثمانين لتأسيسها
في الذكرى
إنّ ذكرى انطلاقة الحركة مناسبةٌ لشكر
الله على ما يَسكُننا، عبرَ هذه الجماعة التي أوجدَنا فيها، مِن فرحِ الأخوّة
ورجاءِ الخلاص، وما نتذوّقه فيها من محبّته، ومناسبةٌ لتأكيدِ يقيننا أنّ مَن أوجدَ الحركة في كنيسةِ هذه "النقطة" من العالَم هو الروح، وأنّ المؤسّسين
هم مطارح ُ فِعله وقنواته. وأنَّ هذا كانَ لأجلِ أن يزيحَ الربّ بنا عن طريق الموتِ
بكشفِ "ملء قامة المسيح" وخلاصِه وسُبلِ النهوض به، أمامنا، ليصيرَ هذا
النهوض قُبلَةَ سعينا وموضوعَ دعوَتِنا في الكنيسة والعالم. ولا تغيب عنّا في كلّ
ذكرى دعوةُ المطران جورج: "كلّ من هو غير مقتنع بأنّ الحركةَ هي مِن فِعل
الروح فليتركها الآن".
هذا يُفهِمُنا أنّ لا استمرارَ للحركة في
تحقيق ما قصدَه الله من وجودها بغيرِ استمرارِ فِعل الروح فيها، أيّ فينا. والسبيل
هو أن نتناغَم مع شخوصِ الله إلينا عبرَ سعينا
إلى التأهّل، هياكلًا وقلوبًا ونفوسًا وعقول، لما يُريح روحَه فينا،
فيَفعَل.
إلى هذا، تنبع مكانةُ الذكرى في ضمائرنا منَ كونِها دعوةً إلى استذكار هذا القصدِ الذي مِن أجله كانَت الحركة، والتأمّلِ في هذه الشركة التي تجمعنا ومَدى خدمتها لتجلّي الأمانة لقصدِ الله فينا. فتكليفُنا هو أن نستمرَّ بها، وتستمرَّ فينا، بأصالةِ هويّتها وليسَ بما اعتدناها فيه مِن فَحوى قادتها إليه السِنون. تكليفُنا أن نستمرَّ بها متجّذرةً في "الرؤية الأولى"، المسطَّرة في تراثنا المكتوب والمتناقَلة، بشكلٍ حيّ، عبر مَن سبقَنا من أجيال، "مستمرّين على ما تعلّمناه...عارفين ممّن تعلّمناه" (2 تيموثاوس 3: 14)، ليُقاسَ نجاحُ كلّ منّا في مسؤوليّته بِكَم حفِظت إدارتُه هذه الجماعة في أصالتِها، وإرشادُه الارشادَ في أهدافه، وصانَ، بشخصه، التوارثَ الحيّ للوديعة بكونِه هيكلًا حافظًا لها، وجسرَ عبور، بها الى الغد. وهي وديعةُ الشُخوص إلى يسوع والتلمذة على محبّـته والعيشِ في ضياء إنجيله، والحضورِ، المنادي بما يُفرحه، في كنيسته ويُهديه خلاصًا للمحيط.
في وعي الأصالة والمرجوّات
يُدرك كلُّ من تكوَّن شخصًا وإيمانًا في
رحمِها أنّ أوّل ما يلفت في حياة الحركة هي الصخرةُ الثابتة فيها. أعني المحبّة
التي ترشَح إليه من الوجوه الحيّة لتحجُبَ عنه مواقعَ الضعف فيها وتغلُبَ أيَّ
وجهٍ ومشهدٍ آخَر لها فيه، فتتخلّدُ في عينيه لوحةَ احتضانٍ وخدمةٍ وحسب. هي وجوهٌ
تعكس شدّة الاخلاصِ لقضيّة المسيح، ومجانيّة خدمةٍ، وتخلٍّ، تمثّلًا بما تلقَّحت
به، في الحركة، من تلك المحبّة التي أخلَت ذاتها مرتفعةً على الصليب.
هذا الاخلاص المشهود في كلّ زمانٍ حركيّ ومكان
هو أساسٌ تُبنى عليه ضرورةُ وجود الحركة. فهوَ تجسيدٌ لوعيِنا "أنّ المسيحَ
أحبّنا أوّلًا"،
وجوابٌ للربّ، وإنْ بالأحرف الأولى، على هذا الحبّ. ومَن قرأ الحركةَ في كتابات
مؤسّسيها ومَن سبقوه وأرشدوه، وعايَشها فيهم، أدرَكَ أنّ دعوةَ هؤلاء، وسعيَ الروح
فيهم، كان إلى هذا الوعي والجواب للربّ، والتأسيس عليهما أوّلًا.
فما يلخّص إنتماءَنا إلى الحركة هو أنّه يقظةٌ
في محبّة المسيح، هذه، وانتماءٌ إلى قضيّتها. والحركةُ، وهنا أكرّر ما قلتُه
سابقًا، هي "ورشةٌ نُجبَل فيها بهذه المحبّة لنجسّدَها شركةَ إخوة في هذا
المختبر الحياتيّ الصغير ونمدَّهـا على مدى الكنيسة، ونبني بأجسادنا وعقولنا
وضمائرنا وقلوبنا، أي بكياننا الانساني كلّه، مَطرحًا لها في العالم، فنخلُص نَحن
ويخلص العالم". بمعنى آخر، الحركة ورشةٌ تَملأ ذواتنا بالرّب لتُشِعَّ بفضائله
ورؤيته وإرادته حيث نحلّ في الكنيسة والمَدى المشمولِ بخلاصه. والحركيّ هو مَن فهِمَ
مركزيّة هذه اليقظة في حياته وتلقَّف هذا التكليف، وكانَ الساعي إلى أن يكون هذا
المبنيّ والبانيّ، في الورشة، والشاهد خارجها في آن.
"فقضيّةُ الحركة قضيّةُ مصير الله" يقول المطران جورج. أيّ، بتفسيري، هي قضيّةُ مصيرِ محبّته فينا. وقضيّتُها "أن نتخّذ المسيح بين أيدينا ونُعطيه للدنيا"، أيضًا يقولُ المطران. أيّ، بتفسيري، هي، والتعبير له "أن نأكلَ انجيله"، وإنّما لا لنحجُبَه فينا، بل لنَرشحَ به في ترحالنا إلى مطّلات الدنيا كلّها لننثر فيها السلام والضياء ونهدَّ مِن أمام محبّة مسيحِنا السدود.
استمرارُ وعيِنا لهويّة الحركة بقضيّتها،
هذه، مُترجَمًا بوجوهِ التزامنا اليوميّ فيها، هو أمرٌ أساس. هذا، خصوصًا، بعدَ ثمانين
سنة، من عمرها، أفرَزت ما أفرَزت من يوميّات وهيكليات وعادات ومألوفات باتت ثوابت أطاحَ
بعضُها بهذا الوعي وغايةَ الانتماء. ودليلُ هذا الأمر هو ما نحن عليه في أماكن
عدّة من انحسارٍ بالداخل الحركيّ وانحصارٍ به، وتَقلُّصِ نتائج تربيتنا ومشهد
حياتنا الحركيّة، في أكثر من مكان، إلى مشهدِ تعليمٍ وتعلّم دينيّ وبعضِ ما هوَ في مشهدِ الأخويّات
الدينيّة ليس إلّا.
وإن أضَفنا إلى هذا توسُّعَ الانتشار
الجغرافيّ للحركة بما فيه من اختلاف الظروف والهموم والأولويات في مكانٍ عن مكان،
وما يُصعّب، يومًا بعد يوم، اللقاءات الموحِّدَة للرؤى والناقلة للخُبرُات، وأيضًا،
التعقيدات في تركيبة الحركة الاداريّة وما فيها من تشابكات شائكة، خصوصًا منها ما يربط
الانتماء المحلّي إليها بالانتماءِ العام، وكمالِ هذا بذاك، يصيرُ الحذر من خطرِ
أن تتشلّعَ يوميّاتنا الحركيّة وتضيعَ عن أهدافها مشروعًا.
هذا ما يُبرز حاجتنا إلى وقفات وقراءات تقييميّة، دوريّة، تذكّر بما يَجعل من ترجمةِ الحركة لذاتها في يومّياتها أكثرَ أمانةً لهويّتها وأشدَّ تأثيرًا وقُدرةً تغييريّة في الأشخاص وخدمةً للأهداف. وهذا عبر التذكير بالمسارات التي لا تدَع التنظيم يخنقُ، فيها، الروح، والمألوف فيها يُبَهّت الغايات، والتعقيدات تحجُب عن حياتها بساطة الانجيل، والغرق في المحلّيات يضيّق الآفاق، ليكمنَ في مثل هذه القراءات، الهادفة إلى تثمير الاخلاص في الحركة، الاحترامُ الحقيقيّ لتَعبِ الأخوة المسؤولين والانحناء أمامه.
في بعضِ الواقع
ليس سرَّا ما يتردّد، في بعضِ أوساط
الكنيسة ولدى بعض الرعاة، من "أنّ الحركة فقدت الكثير من الهويّة والأهداف
التي تأسسّت عليها، واستحالَت كعملٍ مؤسّساتيّ جمعيّاتيّ، أو مدرسيّ، ما يدعو
الادارة الحركيّة الى الالتفات لتصحيح المسار الالتزاميّ فيها قبل الاهتمام بالقضايا
الرعائيّة والشهاديّة".
أصحّت هذه القناعات جزئيًّا أم لم تصحّ، إلا أنّ في مشهد الحركة العام، اليوم، ما يوحي بها. وعناوينه الكُبرى هي ضُعف لا بل غياب التربية على الحسّ الرعائيّ والبُعد الوحدويّ والتوجّه الشهاديّ، وما يؤدّي إليه هذا الغياب من حدٍّ لاهتمامات الحركيّين الالتزاميّة وافتقادِهم لسماتٍ شخصيّة هي من صلب الهويّة النهضويّة. لكن ما لا يصحّ، مُطلقًا، هو أنّ من وجهٍ التزاميّ داخليّ في الحركة يُفصَل عن آخرٍ رعائيّ أو شهاديّ، أو العكس، وأنّ من وجهٍ التزاميّ في المسيح يسبُق الآخر. فوجوهُ التزامنا الربّ يتغذّى بعضُها من بعض، ويُسهِم كلّ منها بإعلاء مكانة الآخر في ضميرِ المؤمن وتنميته في حياته. هذا إن وعَينا، بحقّ، أبعادَ إيماننا وتكرّسنا للمسيح. وممّا ينقُص، ويُرتجى، في حياتنا الحركيّة اليوم من مسارات تُعالِج، وتساعد في هذا الوعي هوَ:
أ-الهويّةُ المنشودة للفرقة الحركيّة. الفرقة، الإطار الأساس لبناء الشخص على رؤى وآفاق الهويّة المرتجاة. الفرقة الواحة الصغيرة لسعيٍ صلاتيّ معرفيّ للربّ وتجلّي الاتحاد به باتّحاد الأعضاءِ فيما بينهم، مكانُ صياغةِ الوعيِ الواحد لمركزيّة الشهادة في إيماننا ووسعِ مطلاّتها. الحالةُ الشركويّة المتمحورة حولَ إرشادٍ متعهّد، مرافِق لاعضائها في حياتهم، مفتوحٍ بالزمن، لا تبدأ مفاعيلُه ببدء اجتماعٍ وتُختَم بانتهائه. وجهُه مرشدٌ تتجلّى فيه أهمّ السمات المُرتجى تجليّها في حياة الفرقة قبلَ تحلّيه بأيّ مؤهّلات اختصاصيّة أخرى. خلاصةُ القول عودة استنادنا إلى التأثير الشخصيّ في الارشاد ليكون هو الأساس التربويّ في الحركة، والتجرّوء على معالجة موانع هذه العودة وإن نقَضنا بها أشكالًا موروثة.
ب-التأسيسِ على البُعد الوحدويّ الأنطاكيّ للحركة. وهوَ البُعدُ الذي لا استقامة، ولا كمال، لهويّتنا دونه، والذي يوضح أنّ انتماءنا الى الحركة لا يبدأ بالمحلّة التي نحن فيها وينتهي بها. هو انتماءٌ إلى الحركة ببُعدها الانطاكيّ الأشمل معَبَّرٌ عنه بالحضورِ والترجمة المحلّية، بحيث لا يكمل هذا الحضور ما لم يُعجَن بالهواجس الأنطاكيّة العامّة، ولا يكمل الانتماء إلى البُعد الانطاكيّ للحركة ما لم يُعجن بما في المحليّات من هموم. من هذا المنطلق كانَ تشديدنا، المزمن، على أولويّة كلّ عامٍّ في الحركة على الخاصّ. بمعنى أولويّة ما يختصّ بالأمانة العامّة، مثلًا، على ما يعني المركز، لأنّه يعني الأشمل مِن الأخوة وفيه يتجلّى البُعد الأوضح، والأوسع، للجماعة ووحدتها، وما قد يفوتنا، محلّيًا، من آفاق. وللسبب ذاته ما يختصّ بالمركز على ما يعني الفرع، والفرع على ما يعني الأسرة، والأسرة على ما يعني الفرقة، والفرقة على ما يعني الشخص. إنّ تجاهل هذا البُعد في تربيتنا هو، في يقيني، سببُ ما نشكو منه من جَهل الحركيّين بمواضيع ومقرّرات واهتمامات المؤتمرات الحركيّة والأمانة العامّة، وربّما أيضًا المراكز، وامتدادات هذه إلى حياة الفروع. وغيابُه عن تربيتنا هو واحدٌ من نتاج غيابِ التربية على الحركة وماهيّتها، وعدم الحثّ الارشادي لشبابنا على أن يقرأوا الحركة ليعرفوها. مئات الصفحات التي تعرّف بها وبخبراتها مجهولة لديهم، ومعها افتقاد خبرة التفافهم حول إخوة مُختبرين ينقلون، لهم، تقليدَ الحركة بشكلٍ حيّ. فهذه التربية هي الطريق الأقصر لمعالجة معظم ثغرات حياتنا الحركيّة إذ أنّ أخطر ما يواجه الحركة اليوم هو أن تُقاد مِن قبل أخوةٍ مسؤولين لم يتسنّى لهم تسلّمها أو معرفتها ومعايشتها كما هي في حقيقة هويّتها وإن بلغَوا من الإخلاص الكثير، خصوصًا وأنّه يندر بين مَن ترسّخ في الحركة ولُحِظ لقيادةٍ، وأدوارٍ، عامّة فاعلة فيها مَن لم يكن لهذا الالتفاف (للتلمذة) دورًا أساس في بنائه، وهذه حقيقة مشهودة.
ج-التربية على الهمّ الكنسيّ بأبعاده
الشاملة، الرعائيّة المحلّية والمجمعيّة والأرثوذكسيّة العامّة. فندفع، على
الصعيد الرعائيّ، باتّجاه الحضور الناشط في حياة الرعايا، ونُعنى بما يعني رعاية
الكهنة والبُعد التشاركيّ في الحياة الرعائيّة وما يرتكز إليه من المواهبيّة والقوانين
في الكنيسة، ووعي مكانتها فيها. وهذا لا يصحّ بغير أن يمرّ بمعرفة القانون المعمول
به اليوم وأسباب عدم تنفيذه بالكامل، والدور الأهمّ الذي كان للحركة والحركيّين في
إصداره والدوافع إلى هذا الدور. وهذا ليس بغاية استعراض انجازات، إذ أنّ هذا القانون
لم يعد اليوم انجازًا، وإنّما بغاية توضيح مفهوم عضويّتنا في الكنيسة وترابطه مع
هويّتنا الحركيّة، والتربية على ما يمدّه فينا من هموم. ومن هذه الهموم الشأن
الغائب عنّا اليوم وهو ما يعني حياة كنيستنا الأنطاكيّة بشكلٍ عام، كحالِ المجمعيّة
والشركويّة والوحدة والأولويّات فيها، وما يعكس الأمانة للربّ في وجوهها، وما يعني
كنيستنا الأرثوذكسيّة العالميّة. ولنلحَظ مدى تراجع آفاقِ التزامنا على الصعيد
الكنسيّ أذكر الآتي:
-إلى الدور الأساسيّ، الذي أشرت إليه،
لمجموعات حركيّة بوضع الخطوط العامة لقانون المجالس الرعائيّة، بادر الأب بولس بندلي والأخ كوستي بندلي، مع
مجموعة صغيرة من الأخوة، وطوال ما يقارب العام ونصف إلى شرح قانون المجالس
الرعائيّة عبر سهرات رعائيّة للمؤمنين، ومن ثمّ الضغط على الرئاسة
الكنسيّة، لأجل تنفيذ القانون بكامله وبروحيّته، بسهرات مماثلة، وبحيث شكّلت
مداخلات الأخ كوستي في هذه السهرات مكوّنات كتيّبه "مجالس الرعايا ومتطلّبات
النهضة الأنطاكيّة".
-وإلى أدوار
هامّة في مفاصل كنسيّة كثيرة، كانت مساهمة كُبرى للحركة في إسقاط مشروع الهيئة
المدنيّة الذي كان مطروحًا العام 2012 من قبل غبطة البطريرك وبعض الأشخاص، والذي
رأينا فيه ما ينقض المفاهيم الانجيليّة في الكنيسة.
-وعلى الصعيد الأرثوذكسيّ العام، وفي حين كان للحركة والحركييّن أدوارًا تاريخيّة منها في تأسيس وادارة رابطة الشباب الأرثوذكسيّة في العالم، واتحاد الطلبة المسيحيّين، وتمثيل الكنيسة في مجالس وهيئات مسكونيّة، وبرغم من تردادنا لقول المطران جورج "أنّ كلاًّ من المؤسّسين كان يشعر بمسؤوليّته عن الكنيسة كلّها"، ترانا اليوم نغيّب عن اهتماماتنا أوضاعَ كنيستنا الأرثوذكسيّة وما تتعرّض له من أقسى الأزمات والاختلافات فيها، وأشدّ ما يهدّد وحدتها، ومعه ما يُرتجى من دورٍ لكنيستنا، ولنا عبرها، في معالجة هذه الأزمات.
د-إعادة البُعد
الشهادي "لحركيّتنا" إلى مكانته الصحيحة في تربيتنا. ومن دلائل الخلل
الكبير على هذا الصعيد الخفوت الفكريّ لدى شبابنا واحتجابه عن الحراكات الفكريّة الثقافية
والمجتمعيّة، وحتّى السياسيّة منها، وغياب لمّا يجسّد اهتمامًا إيمانيًّا لديه بما
يمرّ به الوطن والمجتمع من ظروف مصيريّة، ولما يعكس التمايز عن غيرنا في تظهير
انتمائنا السياسيّ، إن وُجد. ولعلّ من مظاهر هذا الخلل ما نعاينه من نُدرة الأقلام الشبابيّة الجديدة
في مجلّة النور، وغيرها من مواقع النشر، رغم أنّ الحركة تزخر بآلاف الشباب
والشابات الملحوظة مؤهلاتهم العلميّة.
إلى الأساس الإيمانيّ، فإنّ ارتكازنا العمليّ في إعادة التأسيس على هذا البُعد الشهادي هو في التوقّف أمام خُبرات ومقاربات فكريّة إيمانيّة قدّمها حركيّون، مؤسّسون وغيرهم، لعشرات العناوين الدينيّة تمتلئ بها كُتبٌ ومواقع نشر، ومواقف لهم من قضايا الظلم واللاعدالة والطائفيّة، وأدوار لهم في تأسيس نقابات ومجالس ثقافية وحوارية وغيرها. وأيضًا إلى ما كان للمؤتمرات الحركيّة العامّة من إصدارات لوثائق بهذا الخصوص وإلى مبادرات منها إصدارنا لعدد خاصّ، من مجلّة النور، بحرب تمّوز العام 2006 وتظهير الموقف منها.
يقيني أنّ جرأة مقاربتنا لموضوع الفرقة الحركيّة، وتوبتنا إلى هذه الأبعاد، أعلاه، لهويّتنا الحركيّة تستقيم بهذه الهويّة فينا وتعالج الانحصار الداخليّ الذي نعيش وخفوت تأثير الحركة حيث يجب. فدون هذه الأبعاد، التي ترتكز إلى الالتزام الشخصيّ لوجوه الحياة في المسيح والعيش بموجب إنجيله، ليسَ من سمةٍ نهضوية فينا نشدتها الحركة في الشخص، ولا تكرّس سليم، ولا لون للحركة بنا ولا نكهة. ولعلّ ما علينا أن نُدركه، في السياق، أنّ وجوهَ العمل الداخلي في الحركة، وسائرَ الأنشطة، إنّما وُجدت كمسارات وساحات ترجمةٍ أوّلية لبُعديّ البشارة والشهادة في التزام الشخص الحركيّ تُسهِم في نموّه الالتزاميّ وترسيخ هذين البُعدين فيه، وليس كمسارات وحيدة له تُنهِك التزامَه وتحصُر ترجماتِه وآفاقَه بها. وهذا ما يلفتنا إلى كم من المهمّ أن ن حلحل الشدّة المؤسّساتية في حياة الحركة ونعود بها الى بساطة الانجيل ونزيح عن كاهل شبابنا ثِقلَ العديد من الانهماكات الداخليّة لتتاح لهم فسحات جهدٍ واطّلاع وتثقيفٍ ذاتيّ، وحضورٍ التزاميّ شخصيّ في ما يحوطنا يُسهِم في كمال الهويّة فيهم.
ما في الحركة لم
ينوجد ليكونَ الوجهةَ النهائيّة للحركيّين، وإنّما ساحةَ نشوءٍ بالربّ تكون
معبرًا لهم، به، إلى ما في الكنيسة والعالم
مِن ساحات. الحركة تبني الشخص في المسيح،
تُحصِّنه بصدارة الجماعة وبُعدِ الشركة في ضميره، تسلّحُه بقِيَم وفضائل وفكر
الانجيل، تزوّده بآفاق الفداء في كلّ وجهٍ وصعيدٍ من الحياة، تدرّجه في تجسيد ما
بُني به، وتُطلقه، مرافَقًا بعيونها، إلى المدى مبشِّرًا بما هو مبنيّ به ومغذّيًا
لهذا البناء، شاهدًا به لسيّده، ودالًّا الى حيث الخلاص. فالنهضة، لتعمّ، تُطلَق
ولا تُأسَر. هذا على الرجاء.