تقــديــم

بقلم: ندى حدّاد*  -  12 آب 2024


"حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هي حالةٌ كنسيّة تنوجد، بأصالةِ هويّتها، وقتَ نَعِيَ نحن، الجماعة الحركيّة، أنّ "الله أحبّنا أولاً" هذا الحبّ الّلامحدود، وأننا مولودون من حبّه، منه، من كنيسته، من جسده ودمه الذَين بهما نتغذّى. فتصير قِبلتنا وغايتنا أن نقبل حبّه الخلاصيّ ونبادله التزامًا إيّاه في حالةٍ تعاضديّةٍ شِركويّة تُنمّينا أشخاصًا وجماعةً في معرفته وعيش حياة كنيسته، والانجيل، والصلاة، وتقوّينا في مواجهة الضّعفات الشخصيّة ومحاربة الخطيئة وتساعدنا على أن نقتني فكره ورؤيته في كلّ شأن حياتيّ لنلتصق به ونلتزم  كلّ ما يخصّه في الحياة والكون بدءً من حياة كنيسته، ولا شيء لا يخصّه. هذا لنجعل من الموت عتبة عبورٍ الى وجهه، عتبة خلاص".

بهذه الكلمات يعرّف رينيه أنطون الحركة، وهو الأمين العام السابق الذي خدم، وهوَ في هذه المسؤوليّة، لمدّة إثنتيّ عشرة سنة هذا التيّار النهضويّ الذي استحوذ على فكره وقلبه منذ طفولته. فعرفَ الجيل الأوّل من المؤسّسين أمثال جورج خضر والياس مرقس وتعلّم منهم، وسألهم، وحاورهم وقرأهم حتى ارتشف منهم الأصالةَ الحركيّة وتشرّب مبادىء الحركة ورؤيتها، ولم ينفصل عن الجيل الثاني أمثال بولس بندلي وكوستي بندلي الى أن تتلمذ على الوفاء "للمحبّة الأولى".

ومِن وجوه الوفاء لهذه المحبّة، يرى الأخ رينيه "أن يفيَ الإنسانُ الرؤية التي حَمَلَته الى أحضانها ما لها عليه"، "فعمل وعلّم" باستمرار على "إبراز قضيّة الله"، أي على أن ينموَ الأبناء في بنوّتهم للرب وحبّه والتزامه والشهادة له. وها هو اليوم، وبناء على خبرته الطويلة في العمل الحركيّ، يضع في هذه الصفحات كلماتٍ جمّةً خاطب فيها الحركيّين، ونصوصًا عديدة كَتَبها على مرّ السنين وفي ظروف متنوّعة، جوهرها الحركة في فكرها وعملها وحياتها ومسيرتها.

إنّ الحركة هي محاولةٌ لعيش حياة الكنيسة الأولى "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل، وعلى حياة الشركة، وكسر الخبز والصلوات" (أع 2: 42)، نواتُها الفرقة الحركيّة "مختَبَرًا للحياة في المسيح" حيث يعيش كلّ عضو المحبّة الأخويّة ويكتسب فكر المسيح ويترجم تعاليمه خدمةً وشهادةً. لذلك يشدّد الكاتب على أن الحركة ليست تعليمًا دينيًّا أو جمعيّةً طائفيّةً أو مؤسّسةً كنسيّة إنّما هي تيّارٌ نهضويّ  في الكنيسة، مهمّتُها غير محصورة في زمان أو مكان معيّن، وليس ضمن أطر جامدة أو هيكليّة إداريّة متحجّرة، إنما هي حركة تسير بأعضائها نحو الوحدة بإله المحبّة. تبدأ هذه النهضة بنهضة الشخص الحركيّ بنفسه أوّلاً من خلال نهضة الفكر والقلب معًا، تتبعها نهضة الجماعة وبالتالي نهضة الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة التي هي جسد المسيح الممتدّ في الكون. فالحركة كما يقول الأخ رينيه "هي هذا الصوت النبويّ الذي وُجِد بفعل الروح القدس لإعلان إرادةِ اللهِ في الكنيسة والعالم ليمسيَ العالم كنيسةً ويمنعَ تسرّب مفاهيم العالم الى الكنيسة".

يطرح الأمين العام السّابق في العديد من كتاباته كيفيّة صون الهدف الذي على أساسه أُنشئت الحركة. ففي مجال التربية والإرشاد، وهو العمود الفِقري للحركة، يقول "الغاية من الإرشاد، ارتقاء كلّ الكيان الإنسانيّ للشخص، ارتكازًا على الإيمان، ليترجم هذا الإرتقاء صلاةً ومعرفةً ومشاركةً وحضورًا فاعلاً في شتّى مجالات الحياة ليعكس هذا الحضور شيئاً من حضور المسيح في العالم". هذه الغاية تتحقّق فقط في حسن اختيار المرشد، محور العمليّة الإرشاديّة في الحركة. ومن أُسُس الإرشاد الحركيّ أن يدرك المرشِد أنه واحد ضمن جماعة أخوة يحرّكهم نحو التزام الحقّ بسهرٍ دائم، وأنّه جسرٌ ينقل الأخوة الى الله والى الحياة فيه. وإن حصلَ وأضاع الحركيّون الهدف، يصوّب ألحاظهم في كلّ مرة الى وعي هويّتهم الحركيّة ومبتغى التربية الحركيّة ألا وهي بناء الأعضاء في التزام المسيح بالكليّة في حياتهم.

يتأمّل، كاتب هذه الصّفحة، في امتداد الحركة في المدى الإنطاكيّ. فيشاهد أننا مجموعة بشر نحمل كنز الرب في "أواني خزفيّة" معرّضون للأخطاء والإختلاف، فيوجّه أنظارنا الى المحافظة على الوحدة الحركيّة بالسّهر على أن يكون هذا الجسم الحركيّ شاهدًا ليسوع بتعاضد أعضائه ومحبّة بعضهم البعض "لكي يؤمن العالم به"، وبأن نكون "على قلب واحد وفي نفس واحدة" لنستمطر نِعَم الروح القدس لنمسح بها الجروح التي نلحظها في وجوه مسيرتنا كما يقول.

في أماكن عديدة، يلحظ الأخ رينيه دور الحركة في الكنيسة اليوم ويبيّن السبيل الواجب على الحركيّين اتّباعه بدءًا من التواصل مع الرّعاة والرئاسات الكنسيّة الى المساهمة مع باقي المؤمنين والتّعاون مع كلّ الطاقات الكنسيّة لتغدوَ كنيسة المسيح "كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا وسخ ولا شيء مثل ذلك، بل تكون مقدّسة بلا عيب" (أفسس 5: 27). هذه الكنيسة المجيدة هي "قلب العالم ورجاؤه". يقول كوستي بندلي "الكنيسة جُعِلت في قلب الكون، مشارِكة لمأساته وباكورة لخلاصه بآن، ولكنّها لن تخلص لوحدها، لن تنجو من الفساد والتمزّق إلّا إذا سعت جاهدةً لإنقاذ المجتمع الواسع من فساده وتمزّقه". وبالتالي مسؤوليّة الكنيسة المجيدة أن تشهد للمسيح القائم من بين الأموات وتجد الأساليب الرعائيّة التي تمكّنها من احتضان العالم فتشدّه الى الله من جهةٍ وتُبقيه على فرادته من جهة أخرى. شهادة الكنيسة في العالم خصّها أنطون ضمن عناوين حركيّة شهاديّة مفادها أن ترجمة الرؤية الحركيّة تتلخّص في قول المطران جورج خضر ".. مساهمة الكنسيّين في بناء الإنسانيّة تطعيمًا للكون بنكهة المسيح، والتزامهم حياة الأمّة التزاماً كليًّا ارتقابًا للملكوت الآتي، فلا تبقى حياة الأمّة خارج تأثير المسيح". وهكذا "لكي يبقى العالم مصلوباً على شرّ الكون" كما يقول أوليفيه كليمان، يُظهِر الأخ رينه كيف يمكن أن يتعاطى الحركيّ النهضويّ على مدّ حضور الله في العالم في مختلف المجالات من الإعلام والنشر الى العمل الرعائيّ والإجتماعي، الى التزام شؤون الأرض، الى العمل المسكوني...

وكثمار لهذه الحياة الحركيّة الكنسيّة الحقّة، يعرّج رينيه أنطون على كوكبة من الأخوة، الإكليريكيّين والعلمانيّين، الظافرين والمجاهدين، ليُظهِر من خلالهم ما يمكن أن تثمره حريّة أبناء الله في الأشخاص وفِعل الروح القدس فيهم. هو يوضح كيف كانت تلك القامات هياكلَ للروح القدس، متّحدة بالله وملتصقة بإرادته تعلنها في كلّ زمان ومكان، وأشار إليهم كأيقونات حيّة ليكونوا قدوة ومثالاً حيًّا معاصرًا للمؤمنين.

وعملاً بما سعى الى تعليمه في كلّ كتاباته وتقاريره ومقالاته ورسائله، يسجّل الأخ رينيه في زاوية من هذه الصفحات بعض الخواطر الإيمانيّة والمواقف الشخصيّة تجاه بعض الأحداث الكنسيّة والوطنيّة والسياسيّة والإجتماعيّة والمجتمعيّة معلنًا موقفه الايمانيّ منها ومُظهرًا المحبّة الإنجيليّة.

لقد شاء الله منذ 82 عاماً أن يفتقد كنيسته برحمته ليصبح أعضاؤها له وحده ولحقّه شهوداً، وقادهم سنة بعد سنة الى نوره العجيب ليكونوا " كالخمير وسط العجين". فقضيّة الحركة هي قضيّة كلّ عصر، وكلّ جيل، وكلّ شريحة إنسانيّة مؤمنة بيسوع المسيح. إنّ العمل في سبيل النهضة المنشودة ليس وقفًا على فئة عمريّة دون أخرى، لا بل هذه النهضة ستقوم فقط بفِعل ومجهود كل فرد من الأفراد وبالتالي كلّ إنسان مسؤول عن هذه النهضة. فكلّ من أراد حقًّا أن يبقى هذا النفس الرسولي مشرقاً ومضيئاً ومشعًّا مدعوٌ إلى أن يقرأ الحركة ليساهم في أن تبقى "تغيّير يمين العلي".

أرجو أن تشجّع هذه السطور على مطالعة دقيقة وعميقة لهذه الصفحات لأنّها تنير درب من أراد أن يعالج بجدّية كلّ ما يمكن أن يعيق إبراز وجه يسوع في الحركة والكنيسة. ونسأل الله أن يحفظ الأخ الحبيب رينيه أنطون الى سنين عديدة مرجعًا كبيرًا قيّمًا للحركة، عاملاً مع الله بتفانِ وإخلاص كما عهدناه لعقودٍ خوالي. 

 


___________

* أستاذة ثانويّة، رئيسة سابقة لمركز طرابلس في حركة  الشبيبة الأرثوذكسيّة، ومسؤولة التربية والارشاد في أمانتها العامّة