"في كتابِ شفيق حيدر: "أنطاكيّة بين أزماتها وشعبها الحيّ 1958 – 2012"
رينيه أنطون - 5 نيسان 2025
كنتُ
من الذين يتردّدون إلى تلك الغرفة في مدرسة مار الياس – الميناء. كانّ الشوقُ إلى
الدردشاتِ المفتوحةِ، هناك، على الأمْداءِ الأنطاكيّة يَغلُب كلَّ شوقٍ وأولويّةٍ
واهتمامٍ لديّ.
كُنت
قد أدمنتُ ذلكَ الانفعال المُتصاعدِ منها، وأدْمَنَت أذُناي الصوتَ، فيها، بما
يبثُّه مِن تعليمٍ ويُطلِقُه من مواقف. كانت الغرفةُ، بما تختزنُه من أنفاسٍ
كنسيّة، الرئةَ التي بها نتنشّق همومَ أنطاكية وقضاياها، لتجاورَ الهواءَ في
أجسادنا والدمَ في عروقنا، وتمتزجَ بما تُبَحُّ به أصواتُنا.
أمّا
شفيق حيدر، صاحبُ الصوت وسيّدُ الغرفة آنذاك، فكانَ سفيرَ تلك الهموم والقضايا
إلينا. عرفناه قائدًا، أخًا كبيرًا، إبنًا، يُحوِّشُ همومَ العائلةِ الكُبرى، عائلةِ
المسيح، لا ليأسرَها فيه، بل ليفحصَها ببصيرتِه الكتابيّة، ويصهَرَها بنارِ غيرتِه
البَنَويّةِ، ويناولَنا إيّاها صرخةً من فمِ كاهنٍ ملوكيّ مُسامٍ بيدِ الروح في
جرن المعموديّة.
علّمَتنا
حركةُ الشبيبة الأرثوذكسيّة أنّ ما مِن عناية بيسوع بغيرِ العناية بما يخصّه في
الأرض. والكنيسةُ، في تعليمِ بولس، جسدُه، وفي تعليمِ يوحنّا جماعةٌ خاصّتُه، وفي
كلمات متّى مِعبرُ الناس إلى ملكوت أبيه. وفي ما تستخلصُه ممّا استوحاه المؤلِّف
في كتابه، مِن تعليمِ الرسول، فهيَ مطرحُ التناغم بينَ عطايا الروح الموزَّعة على
الأبناء.
وعلّمتنا
الحركةُ ما به تستقيمُ كلُّ ترجمةٍ في المسيحيّة ويكمُل التعليم. فما من قبولٍ
لحبِّ السيّد وفدائه لنا، وما مِن وفاءٍ له، بغيرِ أن ننصُبَ في عيونِ الناس
مجّانيّةً تَمهُر عنايتِنا بكنيسته، منسلّةً إلينا من تلك الأخّاذةِ المطبوعَة في
وجهه المعلّق على الصليب. لذلك ترانا لم نستسِغ يومًا ما يعلو مِن حناجرَ هواةِ النفوذ
والطوائفِ، بين حينٍ وآخَر، مِن منطِق حقوقٍ فيها وواجبات.
فنحنُ
منحازون إلى منطِق الكنيسةِ الدُرّة، الجسدِ المتحرّك بيسوع، على إيقاعِ نبضِ
أعضائِه، إلى قلوبِ الناس وقلبِ التاريخ، الكنيسةِ التي مدَّها بولس بندلي بجسدِه
عرشًا يعتليه البُسطاء، والتي، بكلمات الأستاذ شفيق، "الأحديَّةُ فيها غريبةٌ
بالكُليّةِ عن ضميرِها وروح ِكتابِ سيّدها، ولا يحتَكِر أحدٌ، فيها، الروحُ، ولا
يهمِّش رئيسٌ مرؤوسًا ولا وجيهٌ مؤمنًا".
خلاصتُه، نحن مُنحازون إلى الكنيسةِ التي الكلُّ فيها واحد لأنّ الجميعَ يأتي من واحد هو المسيح، "والكلّ فيها مسؤولٌ عن كلّ" حسبَ تعبير البطريرك هزيم. كنيسةُ المزهوّين بالفداء، الباحثين ليسَ عن حصصٍ ومواقِع، فيها وباسمها، بل عن سبلِ وفاء.
مطبوعًا بتلك المجانيّة، موسومًا بهذه المسؤوليّة، عاشَ شفيق حيدَر "أنطاكية بين أزماتها وشعبها الحيّ". عاشَها، فكَتبها بالعُمرِ وليس بالحِبر وحسب. أمّا ما كُتِب، فيُضافُ له، إلى ما ذكرَه هوَ من أسباب، ما تقودُكَ إليه حروفُ الكتاب، وهوَ لئلّا ننشَدَّ في كنيستنا، بعدَ اليوم، إلى إغراءات الانقسام الدنيويّة بَدلَ أن نستذوقَ ثمارَ الوحدةِ الخلاصيّة، ولئلّا يَدفُن غُبارُ الزمن حيويّةً إنجيليّةً طبعَت حياةَ كنيستِنا في الأمس، فيصيرُ ما جنحَنا بها إليه، اليوم، هو تقليدُها في الغد. وأعني به ما ذكرَه المؤلِّف مِن اعلاءِ شأن الفرديّة والتسلّط والأمزجة الشخصيّة على الشركويّة والقوانين فيها. فهوَ الأمر الذي لا يعكِس، في قناعتي، تسلّطَ موهَبةٍ ووظيفةٍ في الكنيسةِ على أخرى، وإنّما تسلّطَها على الأخوّة فيها. فكلّنا يعلم أنّ في كنيسة يسوع، ليسَت هناك وظيفةٌ، أيةً كانت خصوصيّتُها، ترفَع صاحبَها فوقَ جماعة الأخوة لأنها مُستمَدّةٌ من كونه أخًا، عضوًا، في هذه الجماعة، أوّلًا.
في
كتابِه، لا يحكِي شفيق حيدر أحداثًا وتاريخ بل هذا الهمّ. يحكيه تعليمًا وتحذيرًا وأبعادًا
وترجَماتٍ وأزمات، مذكرًا أنّ القوانينَ، ضابطَةَ الليّاقة والترتيب في الخدمة، هي
مطارحُ حوارٍ ونقاشٍ وتواضع أيضًا، مُستَشهِدًا بقدّيسين وآباءٍ ومجامِع، شارحًا،
خطوةً خطوة، وبمشاهدٍ تجسيديّة حيّة، أحرفَ "الكهنوت الملوكيّ".
مشاهدٌ
فيها ما يقول إنَّ أنطاكيّة، إنْ استساغَت الشركويّةَ والتواضعَ مرّةً، كانَ أنْ
لفظتهما مرّات ومرّات، وأنّ القوانين، نصًّا وتنفيذًا، لطالما كانَت أزمتُها الشائكة.
وهذا ما يذكّرني بقولٍ للصديق الدكتور جورج غندور "بأنّ كلّ القوانين، ما
بعدَ تعريب الكُرسيّ الأنطاكيّ، كانَت إمّا لحلّ أزمة وإمّا لتلافي أزمة وانقسام".
وهوَ ما أُضيف إليه أنّها كثيرًا ما تراوَحت بين الفِعلِ وردّ الفِعل.
فمثالاً،
وبحجّةِ معالجة الفَصلِ في قوانينٍ سابقة بين الزمنيّات والروحيّات، ووجوهِ السطوة
العلمانيّة فيها، نرى، عبر الكتاب، أنّ الشركة والشورى في أنطاكية انحدرتا مِمّا منحته
قوانينُ الأعوام 1928 و1929 و 1955 للمجالس
المليّة مِن صلاحياتٍ كالمراقبة المالية، والمشاركة في إيجاد الأشخاص المؤهّلين
للكهنوت، وترشيح البطريرك والأساقفة، والتشريع في معظم الأصعدة، وتعديل أبرشيّات وإنشاء
أبرشيّات، والغاء اتّفاقات يعقدها البطريرك والمطارنة في حال مخالفتها للقوانين،
إلى ما لا يتعدّى، بعدَ التعديلات في قانون 1972، الحاليّ، معاونةَ الكاهن والأسقف،
ويَحجُب كلَّ بُعدٍ تشاركيّ، ومدى وحدويّ،
حقيقيّ في الكنيسة، ويُبطِل ما ارتجاه مؤلِّفُ الكتاب، وغيرُه، من هذا القانون،
مِن معالجاتٍ واصلاحات.
إنّه
واقع مؤلم يلفتنا، في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة خصوصًا، إلى أهميّةِ تقييمِ دورِنا
ومسؤوليّتنا، على هذا الصعيد، بمنظارٍ نقديّ جريء، والتفكيرِ، مع غيرنا، بأسسٍ نقترحُها
لنظامٍ جديد.
نظامٌ يعالج السببَ العميق لقضمِ الحال الشركويّة في حياة كنيستنا والذي حقيقتُه هي ما نقلَه المؤلّف عن إجابةِ بعض السادة الأحبار من "أنهم لا يخضعون إلا للانجيل الذي ينحنون تحته لمّا يُسامون، ولا يعرفون إلّا الروح القدس قائدًا وآمرًا".
فإلى الجواب الشافي للمؤلِّف والقائل "أن الانسانّ، أيًا كان، خطّاء، وأنّ الخطيئة، حين ارتكابِها، تعطّل فعل الروح القدس"، وإلى كونِ أنّ الاصغاء للجماعة هوَ، في يقيني، وجهٌ من وجوه الاصغاء للروح، وأنّ في كلّ ومضةِ وداعةٍ انحناءةٌ أجمل للانجيل، أستحضرُ اجابةَ كوستي بندلي لي، يومًا، عن سؤالٍ بهذا الخصوص "بأنّ الرؤساء، في الكنيسة، مهما بلغوا من الاخلاص والطُهر، يحتاجون إلى صوتِ جماعة يبثّ في آذانهم أثيرَ نبوّةٍ يصونُهم من الضعفات والأخطاء والانجذاب الى سحر السلطة ليبقوا راسخين في ولعِهم بالانجيل".
ويبقى
الأجمل في جولةِ شفيق حيدر بنا في أنطاكيّة التاريخِ والشعبِ والمجامعِ والأزمات، شعبٌ،
كلّما تحرّكت أزمةٌ في كنيسته، تحرّكَت أحشاؤه معها. بادرَ، اجتمعَ، صرخَ، اعتصمَ
متضرّعًا، وأطاع. جورج خضر، كاهنٌ مفقود، ينقطع إلى الصلاة في كنيسة الصيّادين
حراسةً للحقّ والسلام في كنيسته. الياس معوّض (البطريرك لاحقًا) شمّاسٌ يلوي
الحديد السميك ويقتلعُه إنقاذًا لتلاميذ المدرسة الأرثوذكسيّة في حمص من حريقٍ
مُفتَعل.
ورسلٌ
رحالة، ينتقلون، وسطَ الأزمات، من بعيدٍ إلى بعيد، في زمنٍ يصعُب فيه، ولا يَسهُل، الانتقال. تراهم سفراء،
ليس لحركةٍ، أو لمرجعٍ وإدارةٍ، إلى مكان، وإنّما للإنجيل إلى كلّ مكان. مُرسَلون،
هم، مِن مؤمنيـن بالحقّ، هنا، نُصرةً لمؤمنين بالحقّ هناك، مِن الأمانة للمسيح إلى
حيث قد تكونُ، في الكنيسة، مساوَمة، مِنَ الوحدة إلى حيث قد يكون انسلاخ، من
المحبّة إلى حيث قد تكون أحقاد، من سلامة التعليم إلى حيث قد يكون شَطط، ومِن عُلّيات
الصلاة والصوم إلى حيث قد يقوى شرٌّ ويسودُ يأس. يتقوّون في ترحالهم ممّن يقوى
عليهم في الايمان، ويُقَوّون مَن يَضعُف. يتعلّمون ويُعلّمون، ويعودون بخبرة الكنيسةِ
هناك تحصينًا للكنيسة هنا من الأزمات.
في
عودته، يروي شفيق حيدر، المُرسَل إلى اللاذقيّة وقتَ ذروة الأزمات: "قضيت
النهار كلّه في اجتماعات وصلوات، ومنّ الله عليّ أن أعيش، بفضل المعتصمين، خبرةً
علّمتني الكثير وشدّدت إيماني وأذكت حبّي لأنطاكيّة... ونقلتُ للأخوة في لبنان ما
رأيت وسمعت واختبرت. فرحوا واطمأنّوا وبدورهم كثّفوا التضرّعات ليدومَ الوجدُ
ويسلمَ القطيع".
فأيضًا،
في هذا الكتاب، نقلتَ لنا أيهّا الأخ شفيق، ما زادَنا معرفةً، ورَسّخَنا في
الشخوصِ، فقط، إلى وجهه في كنيسته، وأذكى ولعنَا بها، وأعادَنا، بعدَ غياب، إلى
تلك الغرفةِ مُنتَشين بعُطرِ الروح في تاريخٍ عزيز، مستمدّين الزخمَ من كبارٍ فيه لنَصرُخَ،
وتصرخَ الأجيال، بأنطاكية جديدة، اليوم، مِن جديد. أنطاكية "لا تطغى فيها
علمنة دنيويّة دخيلة ولا سلطويّة إكليريكيّة دخيلة" على قول المطران جورج خضر،
أنطاكية لا أزمات فيها، بل ما يُفرح المسيح من شعبٍ ووحدةٍ ونهوضٍ وحيويّةٍ وحبّ. وهذا،
على الرجاء.
_______________
نصّ كلمة أُلقيت في ندوة حول الكتاب في كاتدرائية القدّيس جاورجيوس - طرابلس