نحن وشؤون الأرض

رينيه أنطون

نشرة صوت المركز 1998


طرحت علينا الانتخابات البلدية والاختيارية بعضا من التحديات حول كيفية التعاطي معها، فكانت حوارات، واجتهادات وترجمات مختلفة بدءاً” من المشاركة في الترشيح وصولاً الى اللامبالاة المطلقة. هذا ما يعكس الغموض الذي نعيش كلّما واجهنا امرا على مستوى التعاطي بالشأن العام كون العمل البلدي والاختياري هو وجه اساسي من وجوهه. و ما يعبّر عن المأزق أيضاً البرودة التي نواجه بها كل بحث في الاجتماعات والمؤتمرات الحركية يتناول موضوع التزام شؤون الأرض و التساؤلات المستمرة حول سبل ترجمتنا لهذا الالتزام.

هذا ما دفعني الى محاولة متواضعة لتقويم واقعنا على صعيد الالتزام الاجتماعي والسياسي و التذكير بثوابت ايمانية وتوضيح بعض الرؤى، أضف اليه حاجة الأخوة المهتمّين بالوضع السياسي الى أن يوضح لهم منطلقات الالتزام السياسي و غاياته، اذا وجد، و ذلك منعا لتقزيم الأبعاد الاجتماعية للحياة في المسيح الى مستويات ضيّقة.

في تحديدنا لمنطلقات الالتزام، لا بد من التذكير بالثوابت التالية:

أ- اننا معنيون أولاً بالمصير الانساني، لأن الانسان صورة الله (تكوين1 : 26-29) ، فلا أحد أولى منا بهذه المسؤولية البشرية.

ب- ان التزامنا نهضة كنيسة الله لا يكتمل ما لم يترجم التزاماً بقضية اللانسان في الارض، فالصلاة لا تستقيم ما لم تحمل هاجس الآخر بآلامه و مآسيه (راجع ك. ب. الايمان و التحرير ص 12 – سرً المذبح و سرً الأخ).

ج- ان التزامنا قضية الانسان هو التزام كياني يهدف الى خلاص كل انسان و كل الانسان (جسداً و روحاً).

د- ان المنطلق الأساسي لنا في التزامنا شؤون الأرض، و أعني به توضيحاً للمعنى، التزام الشأن العام أو الالتزام السياسي بمفهومه الجذري العريض، البعيد كل البعد عن التحذب و الفئوية، هو الايمان بالله وحده. و لذا نشدد على أهمية أن يرافق كلّ تعبير عن التزام شؤون الارض، التزام بحياة الجماعة في الكنيسة، و حياة الصلاة و الليتورجيا، واكتساب للفكر الكتابي. فكل التزام لا ينطلق من الايمان بيسوع المسيح الاله و الانسان معا و لا يتغذى بالكلام و السيرة الالهيتين هو التزام ناقص معرض أن يصبح وسيلة تمجيد للذات تعكس حالة السقوط الانساني بدل ان يكون طريق خلاص للبشر .

أما اذا تأملنا في واقعنا اليوم و في مدى ترجمتنا لهذه الثوابت، فيمكننا أن نلحظ ما يلي:

ان البعد الاجتماعي للحياة الروحية قد حجّم في تعليمنا و ممارساتنا الرعائية الى حدود أعمال الخير و الاحسان التي توقف عندها الضمير الكنسي. فالعظات و التعليم يركزان على تنمية حب العطاء و مساعدة الفقراء. هذه أمور لا ينفي أحد أهميتها و ضرورتها، غير أنها تتوقف فقط عند حدود معالجة متواضعة جدا لنتائج الفقر و القهر و انعكاساته على الحياة الانسانية، دون أن تتخطى ذالك الى تبيين دور الجماعة المسيحية في التصدي لمسبباتهما.

هذا يقودنا الى التساؤل التالي: ما الذي يعيق أن يتخذ التعليم حول البعد الاجتماعي للحياة في المسيح منحاه الجذري كما في بقية المواضيع الأخرى؟ (أي التأكيد على المنطلقات الايمانية لمسؤوليتنا عن المصير الانساني). هل يعقل أن تبقى الجماعة المؤمنة شاهدة على ثبات و استقرار المجتمعات المنتجة للظلم الانساني و العنف و الفقر و القهر و المنتهكة للكرامات البشرية، أم عليها أن تكون “كنيسة شاهدة لربها حتى الشهادة” كما يقول الأخ جورج نحاس في كتابه “التربية وعي و حياة”؟ و هل لدينا مفهوم للشهادة يختلف عن كوننا جماعة شاهدة لحضور الله في الأرض؟ و هل يكون حضور الله حضوراً لامباليا تجاه ما يهدد مصير الانسان  برمته؟

هل اللامبالاة هي الحالة الايمانية المرجوة في عالم تفتقد فيه معالم المحبة و ينتج ما نراه من ظلم، في حين لا أبالغ اذا قلت اننا ننظر الى الحالة التغييرية الملتزمة كحالة ساقطة؟ أعتقد أن الحياد و اللامبالاة تجاه الظلم هما كالمشاركة في صنعه. فهل يجوز أن يشارك المسيحيون بصمتهم صانعي القهر و الموت؟

 ثمة ضعف يعترينا على هذا الصعيد يؤدي بنا الى منزلق خطر و هو أن نصير جماعة متلهية بذاتها، متغنية بجمال طقوسها و محتكرة الاله لذاتها، تحدّه بحدود الجدران فلا يتذوق أحد جماله و لا ينعكس هذا الجمال حضوراً مميزا له في العالم. لربما ضعفنا ناتج عن الأسباب الآتية:

1-    الطهرية التي تطبع ايماننا بشكل عام حتى اليوم،  و هذا يعود الى ما نعاين من مساوىء و أقذار تطبع العمل بالشأن العام، فنلجأ، لحماية أنفسنا من “وحول هذا العالم”، الى التطهّر و الترفع عن كل ما ندعي أنه “أرضيات” لا تعنينا و نتجاهل أن الملكوت من الارض يبدأ. يقول الأخ كوستي بندلي: “فالكنيسة جعلت في قلب الكون، مشاركة لمأساته و باكورة لخلاصه بآن. و لكنها لن تخلص وحدها، لن تنجو من الفساد و التمزق الا اذا سعت جاهدة لانقاذ المجتمع الواسع من فساده و تمزقه”. (الايمان و التحرير ص98). فلا خلاص لنا وحدنا، ما لم نساهم في خلاص العالم. و”لا سماء منفصلة عن الأرض و لا أرض منفصلة عن السماء” كما يقول المطران جورج في حديث تلفزيوني. (مقابلة مع برنامج حوار العمر في المؤسسة اللبنانية للارسال –  الأحد 27-4-97).

2-    خوفنا الكبير من كلمة “السياسة” و موجباتها و حتى من كل ما يمت اليها بصلة. و برأيي أن هذا واقع مرضي ناتج عن تحجيمنا لمفهوم السياسة و دورها، فباتت بالنسبة الينا اطارا لممارسة الألاعيب الصغيرة و التحزبات الفئوية، في حين أن السياسة، و بمفهومها الأصح، هي الاطار الذي يسوس، أي ينظم و يدير، العلاقات بين البشر بفئاتهم المتعددة في المجتمع الواحد و العالم الواحد.

لست ادعو هنا الى أيديولوجية تحلً مكان الطهرية. لكن، و في ما يخص تعاطي الانسان المسيحي بالشأن العام أقول: يجب أن يعي المسيحي أنه دائما، و بحكم ايمانه، في موقع نقدي لكل حكم أو نظام أرضي لأن الملكوت وحده غايته. فيجب ألا يرتاح الى مجتمع أو واقع أو حالة أو نظام ما، بل عليه أن يسعى، بحضوره الفاعل، تجسيداً لتطلعاته، ومن موقعه حيثما وجد، الى النضال الدائم من أجل تغيير البنى الاجتماعية نحو ألأفضل لتمسي شاهدة أكثر فأكثر للمحبة، و ذلك من دون الدخول في منزلقات التحزب و الفئوية كي لا يفقد المؤمن خصوصيته الايمانية من جهة و يقزًم حضور لله في الارض الى حجم الأهواء البشرية من جهة أخرى. علينا أن نعي، في مسيرة التزامنا، أن حصر الخلاص بعقيدة أو جماعة أو تنظيم أو شخص ما، يتناقض تماما مع منطلقات التزامنا كون لله وحده هو مصدر كل خلاص. الغاية الوحيدة التي نرجوها من أي التزام سياسي هي سيادة المحبة على الأرض لتحكم وحدها العلاقات بين البشر، و هذا ما يترجم عدلا.

فانسجاماً مع ما سبق قوله و من أجل شهادة جديدة اليوم أقول بضرورة:

1-    حث المؤمنين عموما و الحركيين خصوصاً على الانخراط الفاعل في النقابات المهنية و الأطر البلدية و الاجتماعية التي تسمح لهم بابراز خصوصيتهم الايمانية و شهادتهم للمحبة الانجيلية. و تربية  الشباب على كون التزام الشأن العام بعدا أساسياً من أبعاد الايمان المسيحي، سعياً لجعله حالة كنسية عامة.

2-    دفع الاعلام الحركي، على تواضعه، كي يكون شاهداً على حضور المسيح وسط التحديات اليومية، فيناصر قضايا العدل و الحرية و حقوق الانسان.

3-    اطلاق حوار جدي و مفتوح حول “وثيقة التزام شؤون الأرض” يطال جميع الفروع و جميع المراكز الحركية، على أن ينطلق هذا الحوار من مشروع صياغة جديدة لهذه الوثيقة تحافظ على منطلقاتها، من جهة، و تسعى لمواجهة  التحديات التي تواجه انسان اليوم من جهة اخرى. و أذكر منها مثالا باختصار شديد:

أ – حق الانسان في الحرية و التعبير: و ذلك من خلال التأكيد على كون الديمقراطية الى اليوم، هي الاطار الأفضل لتعبير الشعوب عن خيارها السياسي، و رفض ما نشهده من تشويه و افراغ لها من مضامينها، فتمسي في بعض الأحوال وسيلة تنفيس لاحتقان الناس و تذمرهم.

ب – حق الشعوب في العدالة و تقرير المصير: بما يعني التعبير عن رفضنا كجماعة مؤمنة لسيطرة القوة، المتجسدة بالدول الكبرى، على الدول الصغرى و الشعوب المناضلة من أجل حريتها و استقلالها، و التشديد على حق الجميع، أفرادا، مؤسسات و دولا، في التنعم العادل بخيرات الأرض دون احتكار أو استئثار من أي جهة كان.

ج – دعوة المسيحيين لوعي الأخطار الصهيونية على الانسانية عامة و تبيان التناقضات الجذرية القائمة أبدا بينها و بين الأديان السماوية. 

المشاركات الشائعة