غزّة "المُستعادة"

 

رينيه أنطون - 27 تشرين الأوّل 2023


ليسَ الموضوع أن نَنصر، كمسيحيّين، غزّة، التي أمست اليوم ما يختصر قضيّة فلسطين في كلّ ضمير، أو لا نَنصر. فهذا الانجيل. ومَن هو خارج سياق الكتاب في نُصرة الحقّ والمظلوم، في أيّ مكان وظرف وزمان، هو خارجٌ، دون التباس، عن إرادةّ ربّه ومرجوّاته من الإنسان. فكيف بمَن هو، إلى ذلك، خارجٌ عن كلّ إحساسٍ إنسانيّ أمامَ مشهد القتل والتدمير الوحشي المترجِم لانحياز العالم الى منطق اللاعدالة المتحكّم بمسار البشر اليوم، وعبر التاريخ.

وليسَ الموضوع هو عدم جواز الخلط بين الموقف المبدئيّ الإيمانيّ من قضيّة فلسطين وبين الانتماء، أو الموقف، السياسيّ الداخلي وتشبيك الموقفين ببعض. فكلّ واعٍ يُدرك أنّ كلّ أزمات البلد والمنطقة، بما فيها ما أُرتُكِب من حروب داخلية وأخطاء وخطايا باسم هذه القضيّة أو تلك، إنّما منبعه، وليس مبرّره، هو ذلك الظلم الكبير الذي حلّ في العام 1948 بانشاء "دولة اسرائيل" وما تلاه من مجازر متلاحقة وغرَسَه في النفوس والأجيال من توثّبٍ الى إحقاق الحقّ من جهة، وأحقادٍ وخصومات، من جهة أخرى.

الموضوع هو كيف نَنصر، كأبناء للربّ، قضيّة غزّة وفلسطين وكلّ قضيّة حقّ بما يعكس تمايزنا بجدّية الانجيل. لا شكّ بأنّ التظهير الاعلاميّ للموقف الايمانيّ المسيحيّ اليوم، في ذروة القتل الصهيونيّ للانسان في فلسطين وتدمير النزعة الى العدالة لديه، هو مرجوٌ جدًّا، أكانَ على الصعيد الفرديّ أم على الصعيد الجماعيّ حيث يصحّ ذلك، خصوصًا وأنّ المشهدَ المسيحيّ العام لا يوحيّ بما يليق بالمصلوب. ففي منطقتنا مثالاً، وعدا المواقف الجذريّة التي أعلنها البطريرك يوحنّا العاشر والمجمع المقدّس الأسبوع الماضي في البلمند، المكمِّلة لمواقف كنيستنا وممارستها الثابتة، وبعض إطلالات فرديّة اعلاميّة أخرى، يكاد يغيب أيّ موقف. هذا ناهيك عن مواقف الغرب المُخجِلة عمومًا.

أمّا الأهمّ فيبقى، دائمًا، أن نُدرك، الشباب المؤمن خصوصًا، أنّ هذا ليسَ بكافٍ، وأنّ ليس بكلماتٍ على الورق، وبعض مبادراتٍ تضامنيّة موسميّة، يتجلّى الانجيل فينا. فنُصرة كلّ منّا، كمسيحيّ، للعدالة لا تستقِم ولا تفعَل بغير أن تكون وجهَ ترجمةٍ لهويّة التزامية ننطبع بها عُمرًا. أيّ بأن تكون مسارًا حياتيًّا، لدينا، يتخطّى كونها ردَّ فعلٍ لتكون فعلاً مستمرًّا مشهودًا في مفاصل حياة كلّ منّا. مسارٌ يطبَع حياته بالجدّية لا باللهو واللامبالاة، وبتخطّي الهموم الفردية والأنانيات الشخصيّة الى التزامِ هموم الناس والأوطان، وإيلائها ما يكفي من التوجّه والاهتمام. التزامٌ يرتكز الى قِيَم إنجيليّة ثابتة، لا تتغيّر بتغيّر القضايا والأماكن والظروف، تولي "الصورة الالهيّة" في الانسان، أينما كان وأيًّا كان، الكرامَة المرجوّة في الضمير. التزامٌ يتأسّس على مرافقةٍ صلاتيّة يوميّة طلبًا للعدالة للمظلومين، لأنّ الصلاة تفعَل وتفعَل، ويُستتبع بكلّ ما يقتضيه من متابعة حياتيّة شهاديّة هادفة، غير موسميّة، وفق ما أُنعِم عليه به من مواهب ووزنات وما يرتأيه من سُبل، إنجيليّة، وشركاء. ولنا في هذا السياق أكثر من نموذج ومثال. كوستي بندلي واحدٌ منها. كوستي الغارق في صلاته ومكتبته وأوراقه، المولي كرامة الانسان الصدارة اللازمة في حياته والجزء الهامّ من منشوراته، المُسارِع الى الشوارع تضامنًا مع من يلزم واعلاءً لشأن هذه الكرامة. وجورج مسّوح واحدٌ منها. الأب جورج، الكاهن، الحاضر إعلاميًا، الصارخ بالانجيل في رؤوس "طُغاة العالم"، والسوط الجالد بالكلمة، يوميًا، لكلّ قهرٍ وظلم ولا عدلٍ، ولكلّ قاهر وظالم. وآباء واخوة، غيرهما، عرفَتهم الكنيسة والحركة سلَكوا هذا النهج، هم نماذج، أيضًا، ومُثل.

فإلى هذا الادراك، إلى هذا الالتزام المنهجيّ وفعاليته، تدعونا فلسطين وغزّة، أوّلًا، اليوم، وتدعونا دماءُ أطفالها ونسائها ورجالها. فيقيني أنّ الشهداء، ولأنّهم عاينوا الحقّ، يدركون أنّ تفاقم الظلم والعنف في العالم ليس وليد قرارٍ ولحظة ومكان، بل وليد تفاقم الخطيئة في البشر، وفي كلّ مكان، وأنّ ما من سبيل لكسرِ الخطيئة، وإبادةٍ حقيقيّة للظلم وإحقاقٍ للحقّ، بغير مسار الأبناء، وأنّ لا الهزالة، ولا اللامبالاة، ولا الاطلالات الموسميّة، هي معالم البنوّة التي يشهدوها حيث هم في ملكوت المظلومين، وإنّما الجدّية، والجدّة، الدائمة في الانجيل.

ويقيني أنّ الشهداء، ولأنّهم عاينوا الحقّ، يُدركون أن نُصرة الأبناء لكلّ قضيّة حقّ هي نُصرة لله، وبالتالي لهم، وأنّ انتصارَ كلّ مظلومٍ في الأرض هو قربٌ بالملكوت منها، وبالتالي قربٌ، أيضًا، من تحرّر أبنائهم وأحفادهم من مظلوميّتهم، وإلى الأبد. وإلى حين أن تكتمل توبتنا إلى هذه الجديّة، ستبقى فلسطين، وغزّة، في ضمائرنا، ركيزة قضايا الحقّ في دنيانا، وعلى قدر سعينا. ستبقى الوجه الذي منه يُطلّ علينا وجهُ كلّ مظلوم، والوجهُ الذي يطلّ علينا من وجه كلّ مظلوم. وسيبقى سعينا الى الحقّ، فيها، بابًا، من تلك الأبواب، التي تفتح علينا طريق الملكوت. هذا وعدنا للشهداء، وهذه تعزيتنا لأمّهات غزّة الأحياء. أمّا "إسرائيل" فلا إسم لها فينا ولا مكان، ولن يكون.

__________
* نُشر في موقع الأمانة العامّة للحركة

المشاركات الشائعة