"الرعاية في أنطاكية"، ولادة ومضمون

 

رينيه أنطون 

نشرة صوت المركز- العدد الثاني أيّار 2001


ناقش المؤتمر الحركيّ الحادي والثلاثون ورقة عمل حول الرّعاية في أنطاكية اليوم، أعدّها الأخ جورج نحّاس. وقد اتّخذ المؤتمر قرارًا باعتبار هذه الورقة ورقة عمل للفترة المقبلة داعيًا إلى إطلاق النقاش حولها في الرعايا والبحث في السبل الآيلة إلى إيجاد الأطر التنفيذيّة للتعمّق بدراستها، على أن تواكب الأمانة العامّة هذا الأمر بشكل دائم.

أتت هذه الورقة خلاصة لقاءات حرّة واكبت صدور مقالات "المأسسة في الكنيسة" في مجلّة "النّور" للأخ جورج نحّاس والتي شكّلت خلاصة مبوّبة للفكر النهضويّ على مختلف الأصعدة بالرّغم من قبول بعض الطروحات فيها للنقاش. وقد عقدت هذه اللقاءات، بمبادرة من بعض الشباب، بهدف الإجابة عن عدّة تساؤلات تراودهم: أيّ استكانة، إلى هذا الواقع الرعائيّ، نعيش؟ ما سرّ غياب أيّ فعل أو ردّ فعل، من قبل الحركيّين، تجاه الكثير من الطروحات المهمّة؟ (أهو يأس البعض؟) وما سرّ أن يمسي بعض شبابنا ممّن يعيقون تجسيد كلّ فكر نهضويّ؟ وأين فاعليّة بعض أعضائنا في المجالس؟ ولماذا نفتقد أثرًا لكثير من المكرّسين الذين خرجوا من صفوفنا في ساحة الواقع الرعائيّ المرير؟

سعت هذه اللّقاءات إلى البحث في السبل العمليّة لترجمة الفكر الحركيّ حياةً في الخطوات العمليّة التي يمكن الإنطلاق بها على الأصعدة المحلّيّة. وكانت خلاصة اللّقاءات الأولى التي عقدت للتفاعل مع موضوع "المأسسة في الكنيسة: أن نخدم"، والتي ركّزت على الجانب الأكثر حدّة في هذه المقالة. هذه الورقة التي وضعت بين أيديكم، والتي يمكن القول عنها أنّها نتيجة أفكار متعدّدة تداولها الإخوة في هذا الإطار وسكبها الأخ جورج نحّاس في صياغة دون أن يُخفي، كما أيّ كاتب، الكثير من خصوصيّته.

حاولت الورقة الإجابة على سؤال محوريّ في حياتنا الكنسيّة، كيف نترجم، اليوم وبلغة اليوم، مفهومنا الرعائيّ القائم على جعل "اجتماع الكلّ إلى واحد" حالة حيّة في جسم الرعيّة على كلّ الأصعدة، فنعيد للرعاية مفهومها الأصيل بكونها "مشروعًا متكاملًا يسخّر كافّة المواهب الموجودة في الجماعة حتّى ينمو كلّ من أفرادها في المسيح"، ونحرّرها من واقعها المؤلم الذي حدّها بحدود الإفتقاد الدوريّ، إذا وُجِد، وفي المناسبات فقط.

تمحورَت الإجابة حول عناوين أساس تشكّل مدخلًا لا بدّ منه لولوج المفهوم الرعائيّ المطلوب هي: أساس الرعيّة، الأطر والأشكال الرعائيّة، المواهب والخدمات.

في أساس الرعيّة رأت الورقة أنّ الرعاية هي البُعد الحيّ للسرّ الأفخارستيّ. وقد تلمّست الحاجة، من أجل استقامة هذا المفهوم، إلى السعي لطرح نصوص طقسيّة جديدة، تكون أقرب إلى إنساننا اليوم، بهدف إزالة البُعد الحاصل بين الكلام اللاهوتيّ وحياة المؤمنين. كما تلمّست الحاجة إلى ترتيب الطقوس وتنظيم الخِدَم بما يعيد لسرّ الشكر مركزيّته في الحياة الأسراريّة ويسمح بمشاركة شعبيّة أوسَع في الحياة الليتورجيّة في ظلّ المتغيّرات الزمنيّة والعمليّة اليوم.

في الأطر والأشكال الرعائيّة: شدّدت الورقة أوّلًا على أنّ الأساس هو في مدى خدمة الشكل للفاعليّة الرعائيّة. ومن هنا تبرز أهمّيّة حجم الرعيّة وضرورة توضيح إطارها الجغرافيّ ممّا يقتضي، إضافةً إلى ضرورة تقويم الوضع الرعائيّ في أنطاكية اليوم وتحديد حاجاته، تصغير حجم الرعايا (بهدف حصر عدد العائلات المرعيّة تسهيلًا للتفاعل المرجوّ) وتلبية متطلّبات ذلك بما يستدعيه من تغيير في الرؤية لنوعيّة تفرّغ الكاهن للخدمة كذلك في النظرة لأحجام وأشكال دُور العبادة.

إستكمالًا لهذا الطرح تبرز أهمّيّة تعدّد المواهب في سياق الخدمة الرعائيّة، فلا أحد يحتكر الخِدَم كلّها، ولو تعدّدت مواهبه، بل يتكامل الكلّ في الخدمة تفعيلًا لسرّ الميرون في حياتنا الكنسيّة. هنا يبرز دور الأسقف كـ"راعٍ للرعاة". يميّز ويفرز للخدمة ويراقب التعليم ويحمل هواجس شعبه وتطلّعاته، ولذلك لا بدّ للأسقف من استيفاء شروط وصفات أهمّها تعدّد المواهب والخبرة والثقافة الواسعة إضافةً إلى كونه معروفًا من قبل أبرشيّته ومقبولًا فيها.

إضافةً إلى هذا، طرحت الورقة توصيفًا للخِدَم المواهبيّة، نتوقّف عند بعضها:

الكاهن الذي يجب أن يتميّز بموهبة الإدارة والتدبير، لأنّ عليه أن يلتقط المواهب ويوظّفها في الخدمة، فلا يحلّ محلّها. ولا بدّ من أن يكون غالبًا متزوّجًا وأكمل الخامسة والثلاثين من العمر.

الشمّاس أو (الشمامسة) يساعد الكاهن في المهام الرعائيّة الخاصّة بالفقراء والمقهورين، فليس هو في مرتبة مرحليّة بانتظار مرتبة كهنوتيّة أخرى.

الواعظ الذي ليس بالضرورة كاهن الرعيّة. هو مسؤول عن نقل الإيمان ولذا هو بالضرورة عارف، ملمّ باللّغة، مثقّف، مطّلع على الفكر الحديث.

المعلّم العارف لفكر المسيح والملمّ بالشّأن التربويّ والمثقّف المطّلع على الفكر الحديث. هو المسؤول عن نقل الإيمان من خلال قنوات تعليميّة إلى أعضاء الرعيّة بكافة أعمارهم.

المدبّر الرّاعي والموجِّه للشأن الماليّ. هو المسؤول عن استقامة التعامل والمال وفق الرؤية الكنسيّة (وظيفته ليست التعاطي الحصريّ المباشر بالمحاسبة وأمانة الصندوق).

كما نرى، أنّ الورقة لا تقفل الأبواب أمام إمكانيّة ابتداع بعض الخدمات الأخرى التي يتطلّبها العمل في عالمنا الحديث، كالإعلاميّ المختصّ ذي الخبرات. وهو المبشّر اليوم، وكالمفكّر الذي تسمح له خبرته وموقعه بنقل الفكر المستقيم الرّأي للعالم.

أمّا على صعيد الخدمات الجماعيّة فتدعو الورقة إلى المباشرة بوضع أُطر رعائيّة مختصّة للإشراف على الإرشاد العائليّ، الطبّيّ، التربويّ، الإجتماعيّ نظرًا للحاجة الملحّة إليه، ولكون الإنعكاسات السلبيّة لغيابه واضحة المعالم.

هذا، باختصار، أهمّ ما ورد في سياق مشروع رؤية رعائيّة عمليّة. لم يدّعِ أحد أنّها رؤية متكاملة. لكنّ أهمّيّتها، اليوم، أنّها أطلب بهاجس عمليّ وتحمّل مضامين عمليّة، علّنا نساهم جميعًا في تغذية هذا الجانب منها، مبعدين عنها كأس الغرق في الأطر كي لا تلقى مصير الكثير من الأوراق الحركيّة التي سبقتها.

 

المشاركات الشائعة