الحُلمُ في الزمن الصعب

رينيه أنطون

مجلّة النور - العدد الثامن 2010


علّمنا التاريخ وشواهده أن الأزمنة الصعبة تُذيّل بالثورات، هذا يوم تُحصر أحلام الحكّام بحاجات مصالحهم وتصير ضمائرهم عروشاً للظلم والاستبداد. وعلّمتنا المسيحية أننا في التاريخ لنقلب العروش الى مزاود خدمة وحبّ، ونصير بالنفوس، في الأزمنة الصعبة، كواكب تدلّ الناس إلى حيث يسكن الحقّ، ومعه الفقراء والمظلومون والقدّيسون. هذا يوم نولد، حقّاً، من نسيج الميلاد، من ذاك المشهد الالهيّ الممتدّ من مغارة بيت لحم إلى آخر الكون، وحتّى ذلك اليوم العظيم.

قد لا تكون ولادتنا، نحن الحركيين، من هذا النسيج الميلاديّ قد اكتملت بعد. لكنّ ما طُعمّنا به يكفي لنعمّد الألم، المولود من هذا الزمن الكنسيّ الصعب، بالحبّ ونستحيل بثورتنا عليه، ليلة الميلاد، حلماً. فنحلم بزمن آخر أكثر شبهاً بوجه يسوع، وكنيسة وديعةٍ بقامة طفولته، وجماعة تفيض براءةً حتّى دُعيت، بحقّ، باسمه.

فنحلم بكنيسة لا ينهض فيها إبنٌ، راعياً كان أم مؤمناً، إلا من رحم حبّه للاله، ولا يدّع أحدٌ هويّتها دون أن تتوحّد بهويّته الحقّة. كنيسةٌ تعج بأبناء يُسحرون بفضائل مسيحها فيفخرون وينشدون السلوك بها.

نحلم بكنيسةٍ مزودٍ للناس، تحضر وتحضن وترعى حيث يصرخ شعبها ألماً أو قلقاً أو حاجةً أو برداً أو فرح. كنيسةٌ  يدوي صدى صلاتها حبّاً ونوراً في ظلمة القلوب لترتسم فيها إيقونة الله وتُشعّ.

نحلم بكنيسة تعشق هوّيتها المواهبية الواحدة التي شاءها لها الربّ، وتُغذّيها من مواهب أبنائها المُختلفة. فلا موهبّة، فيها، تدوس أخرى، ولا احتكارٌ للمسؤولية والقداسة حيث القداسة هي مشروع الله في الكلّ. كنيسةٌ تسمو العلاقات فيها بإدراك كلّ عضو حاجته إلى الآخر ليكمُل. كنيسة تعي وتربّي أن التكريس الكلّي لله يجوز ويستقيم في مُحبّي الربّ  أياً كانت المواهب والوظائف واللبوس. 

نحلم بكنيسة واحدة بحقّ، تلفظ التجزئة وتروي شريان وحدتها تخلّياً وعطاء. كنيسةٌ لا تُحدّ المحبّة فيها بنظام أو حدود، ولا تستأثر رعية، فيها، أو أبرشية بما تحتاجه أخرى وتشتهيه. كنيسةٌ  تنشد  الشركة المجمعية ممدودًة  نابضةً في عروق جسدها كلّه لا في نطاق الكلام وحسب.

نحلم بكنيسة مؤثّرة في الأغنياء والساسة وليس متأثّرة بهم. كنيسة تُكتسب مكانة الناس فيها من مكانة الله فيهم لا من مكانة المال والموقع. حتّى إن تميّز فيها أحدٌ  كان من أحب سيّدها والتزمه مرمياً في مزود وليس من ساد على أحبّائه  بما وُهب أو اقتنص من الدنيا.

نحلم بكنيسة تمتدّ مؤسّساتها في العالم حبّاً بمن وُجدت من أجله وشهادة دون أن يمتدّ العالم فيها خدمةً لسلطة ونفوذ. كنيسة تُعرف في الدنيا بثمارها المؤسسّاتية المتلألئة ببساطة الانجيل وفكره دون أن يدلّ أحدٌ الى وطأة الدنيا في هذه الثمار.

نحلم بكنيسة حالمة بالعالم كنيسة. كنيسة حاضرة بعدل السيّد حيث يغيب العدل، وسلام الاله حيث تكثر الحروب، ونور المغارة حيث تعمّ الظلمة، وكثافة الصلاة حيث يعمّ الموت. كنيسة تتألّم كلّما ابتعدت الأرض عن الملكوت وتفرح كلّما اقترب الملكوت من حيث تقيم.

أهي كنيسة الحلم؟ هي الكنيسة الكنيسة، كنيسة الربّ التي لا كنيسة غيرها، ونجاح كلّ منّا، أياً هي مواهبه ووظائفه، مرهونٌ بقدر ما يقرّب الواقع من الحلم. هذا قائم في اليقظة. يبقى أن يعمّ.

  

المشاركات الشائعة