الزمن الجديد

رينيه أنطون

مجلّة النور - افتتاحيّة العدد السابع  2009 


ليس في الأمر سرّ، فقد طربنا فرحاً، في حركة الشبيبة الأرثوذكسية، بانتخاب الارشمندريت أفرام كرياكوس راعياً لأبرشية طرابلس والكورة وتوابعهما. وليس في الأمر عيب أو خجل، فقد احتشدنا في كلّ المناسبات التي تلت هذا الحدث، وكما يجدر بأبناء الله أن يحتشدوا في كلّ مناسبة كنسية، تعبيراً عن هذا الفرح وتجسيداً له. أما سبب فرحنا فواحد،  وهو، باختصار ووضوح، أننا أبناءٌ للكنيسة نفرح بما يُفرح الربّ في كنيسته ونتألّم لما يؤلمه فيها. نعم لقد فرِحنا في ذلك اليوم المُضيء لأن ربّنا ارتكض حين أصغى مجمعنا الأنطاكيّ المقدّس الى صوت روحه القدوس وأتى الى سدّة رئاسة الكهنوت بأسقف "لا لوم فيه". 

ربّ مُشكّك في أسباب الفرح قائلٍ أن هذا الطرح لا يُغيّر في واقع الأمر شيئاً. صحيح أن الأسقف الجديد ولد، في كنسيته، من رحم ما ولدنا منه. وصحيح أيضاً أننا قد ألفنا وجهه ووداعته وطهره وحضوره المعلّم والمربّي والموجّه في مناسبات وحالات متعدّدة. كما هو صحيح أن كلاً منّا يحفظ له مساهمته الغزيرة في بناء نفوس العديد والعديد من شاباتنا وشبابنا في الايمان بالمسيح يسوع. لكنّ ما يجدر بالمشكّكين إدراكه أن الحدث سمى بنا فوق أن نشخص إليه بمنظار ما يخدم، فقط، رسالتنا النهضوية وموهبتنا الخاصّة ويغذّيها. لأن كل من يعايش كنيسة أنطاكية، اليوم، وهمومها يعي أن اعتلاء الرجال "الذين لا لوم فيهم" عروشها الأسقفية، وتعطير هذه العروش بعطر المسيح، هي مناسبةٌ أعظم من أن تخصّ هذه الكوكبة من الأبناء أو تلك لأن مفاعيلها الآتية، ولا ريب، تخصّ كلّ ما يخصّ الله ويعنيه وتخدمه. وإذ كنّا أهل الفرح، بهذه المناسبة، وأبناؤه، كما سنكون دائماً، فلأننا ما وجدنا في حركيتنا ونهضويتنا إلا لأجل الله وما يخصّه ويخدمه.

لعلّ سرّ هذه الحركة أنها لم تستحل يوماً، بطبيعتها ووجودها و"لاهوتها"، غاية أحد من أبنائها، هذا لأن أحداً من هؤلاء الأبناء لم يعرفها غير ملقّح له بمحبة الله، وقاذف به الى رحاب هذه المحبّة وآفاقها اللامتناهية، وجسر تطأه قدماه في سبيله الى حيث ينتظره الآب. سرّ الحركة أنها لم تنمّ عشقاً في أبنائها غير عشق الله ولم تشجّع ولعاً لديهم غير الولع بكنيسته. أمّا سرّ الذين يخافونها، ويبقون في ما هم عليه إخوة لنا دائماً، أن كلّ حالة من حالات السعي الى إخلاء الذات محبّةً بالله تبلبل محبتّهم للذات وتقضّ سعيهم الى مزيد من التعلّق بالدنيا. 

فأن ينسب بعض هواة الدنيا هؤلاء، أياًّ كان الزيّ الذي يرتدوه، حبورنا الى غير أسبابه الحقّة فلعمري إنه العجز عن التفاعل مع جمال ما أنجزه الروح في عائلة الله. إنّه القصور عن التربّع في مقام البنوّة في الكنيسة لإدراك سرّ الفرح فيها وفهم لغة "الزمن الجديد" المنطوق بها من فم أسقف. إنّه الجهل بما يعنيه انتصار الله في كنيسته وامتدادات هذا الانتصار في حياة الأبناء وطريقهم الى الملكوت. صدقّوا، جميعاً، أن لا سبيل أمام عبد ليسعد بهذا العشق لكنيسة المسيح وما يختصّ بها بغير أن يفرغ ذاته من الحقد والنميمة والهوى والأنـا ليحتلّها الله ويستحل إبناً. ولا سبيل أمام أمرؤ ليرتقي هذا المقام بغير أن ينزع عن عينيه غشاوة منظار الدنيا ويمسحهما بتراب "الطريق المستقيم". حينها يُشفى نظرُه وينجلي له نور  دعوة الله إليه ليكون شريك يد الله  والجماعـة بإعادة رصف حجارة "الزمن الجديد". 

ففي مجمعنا المقدّس الأخير أعاد الله تذكير الأنطاكيين بالزمن الذي يبتغيه قبل أن يحلّ ملكوته الأخير والجدّة التي طالما ارتجاها منهم بعد أن خصّهم، لعقود خلت، بنهضة كشفت لهم جمال وجهه وسبل الخلاص به. وفي هذا المجمع دلّ الله شعبه، مجدّداً، الى سمات هذا الزمن التي أبهاها أن يتربّع على عرش قيادته أساقفة مولودون في مناسك الحبّ الالهي، زارعون لفرح الخلاص في النفوس والقلوب، "قريبون من الكلّ، خادمون كلّ إنسان، زاهدون بمُغريات الحياة وملذّاتها وشكلياتها، ملتزمون رعاية الشعب وتجسيد حنان الله تجاه الفقراء، يعيشون توافق القول والفعل وغير معنيّين بما لا يخدم رسالة الكنيسة".

 وبعد هذا، هل من إخلاص لقضية المسيح لدى من يُشكّك بأسباب فرحنا ويقزّمها ويخافها؟ نترك الجواب لربّنا فاحص القلوب والكلى. لكنّ وفي أيّ حال قررّنا، نحن الحركيّون، أن نبقى، كعادتنا، خلف علامات الزمن الكنسيّ الآتي ثابتين في مسيرة التوبة الى الله والنهوض بذواتنا وكنيستنا، دون الحاجة الى من يذكّرنا بضعفات بعضنا البعض وسقطاته، هذا إن صدق تذكيره. فبقدر ما نحن ساعون الى أن نكون كالعشار، نحن واثقون أن كلّ محبّ للربّ ومختصّ به لا  يُمكنه أن ينظر إلينا بعين فئوية ومن خلال هذه الضعفات، بل من خلال سعينا، كجماعة، الى الالتصاق بالله قدر ما يسكب علينا الله من نعمٍ وقوّة. أما غير محبّي الله فلن نعيرهم أذناً وندعهم لشؤون دنياهم وما يرتجون منها دون أن يعنينا من شأنهم أمراً غير الصلاة لينير الله ظلمة قلوبهم ويزيح عن عيونهم الغشاوة.