مرجوّات في الذكرى

رينيه أنطون 

مجلّة النور - العدد الثاني 2007


مسيرة الحركة

لعلّ أجمل ما أطلقه المطران جورج خضر، يوماً، لمناسبة ذكرى انطلاقة حركتنا هي تلك الرؤية - الرجاء التي نطق بها في العام 1986 بشكل شبه وصية: "أيها القطيع الصغير لا تخف، فإن كنيسة المسيح باقية الى الأبد. ولكنها تبقى بك. الكنيسة على الأرض. هي في لحومكم ودمائكم وعظامكم". ولأننا فهمنا الذكرى مناسبة تُسهم بتجدّدنا وترسّخنا في الالتزام فكإنيّ بالمؤسس الملهم يوصي القطيع، الذي سُحر بعشقه وعشق رفاقه ليسوع المسيح، بألا يتنكّر بسبب جمود أو تجدّد لهذا الرجاء. رجاء أن يُعجن، أبداً، بحياة الكنيسة وهمومها  ويَعجن الكنيسة بالأرض وهموم ناسها لتبقى الكنيسة، به، على الأرض والى الأبد. كأني به يلفت إلى أن  استقامة الحياة الحركية، مهما تعددت وجوهها، لا تقاس بمقدار ثباتها في تقليديتها أو سعيها للتحرّر منها بل بمقدار ثبات المسيح  الحيّ وكنيسته فيها. كأني به يصرخ أن المقولات والاجتهادات تبطل إن لم تصب الى هذه التطلّعات لأن هذه الآفاق هي ما ارتجته من الجمع الحركيّ، بالأمس، "المحبةُ الأولى" التي أطلقته في رحاب السيّد وترتجيه منه اليوم وسترتجيه منه غداً.

عشية الذكرى الخامسة والستين لانطلاقة حركتنا، ورغم كلّ ما يحوط بنا ولأجله، ما زالت شبه الوصيّة هذه دليل مسيرتنا وضابطها اكثر من ايّ يوم مضى. فلا نستهن بما نشهده، على صعيد حياتنا الداخلية، من حال برودة في الالتزام تعصف ببعض شبابنا نتيجة انهماكه بشؤون أخرى متصاعدة، ومن اتجاهات تقليدية تحاول أن تعيق حيوية الشهادة بمتطلّباتها اليوم، ومن مساعٍ "تجدّدية" تحاول ان تُبرز ذاتها مجيبة عن التساؤلات الشائكة متخطّية ثوابت فكرية كرّستها تضحيات حركيين منّا قبل أن تسطّرها الأوراق الحركية بكلمات. كذلك على الصعيد الكنسيّ  حيث معاناة  مزمنة  من  غياب أجوبة كنسية عن إشكالات عميقة ذات أبعاد انسانية اجتماعية تنصبها في وجهنا أحوال مجتمعاتنا ومن حال  مراوحة ثقيلة  على أصعدة الوحدة والرعاية والشهادة.  

تدفعنا المصارحة إلى القول إن واقعنا، عشية هذه الذكرى، يعجّ بالصعوبات، وقد كثر سعينا إلى تخطّيها  دون أن ننال، حتى اليوم، ما يُشفي.  ولربّما لن نناله، يوماً، ما لم نحجّ الى ما تُلهمنا اليه  شبه الوصية- الرؤية - كأولى المرجوّات وأهمّها، وهو أن نعمّد حياتنا الحركية، كلّما صعب الزمن، بمزيد من تلك البساطة الانجيلية التي سادت الزمن الحركيّ الأول والتي أضفت على الحياة الحركية في مسراها عمقاً مفعماً بحيوية إيمانية كنسيّة تجلّت في أكثر من وجه وعلى أكثر من صعيد. إنها ليست دعوة الى مقاربة أمورنا بأشكال سابقة بل إلى مقاربتها بالنفس الانجيلي ذاته. وهذا ما نترجمه مزيداً من الالتصاق بمحبة الله وتنميتها بعشرة الكتاب والانخراط النافر في الحياة الكنسيّة بكلّ وجوهها دون ان يلهينا شأن عن هذا، وكلّنا يعلم أن هذه الشؤون قد كثرت اليوم. 
وما يوازي هذا المرجوّ أهمّية هو أن تنبع كلّ اطلالة لنا على أي شأن كان من هذه العشرة الالهية التي  بها نتحسّس قبلة التزامنا الحركيّ لنعرف الحركة  اتحاداً  يشخص إلى بحث عيشيّ عن المسيح لا ينتهي. بهذه العشرة ندرك، أيضاً، أن كلّ التزام لا حاجة له أو معنى دون التزام هموم الكنيسة جسد المسيح، أولاً، الذي ما تحرّكت أحشاء المؤسسين الا لأجلها. من هنا رجاؤنا، في الذكرى، ألا تُحصر اهتماماتنا بشؤوننا إذ لا شأن خاصّ بنا دون شؤون الكنيسة وبمداها الكونيّ. فلا ندعها، ايّاً كانت المعوقات، تحت وطأة وجه التاريخ السائد بكثافة فيها اليوم والمغيّب وجه الملكوت عنها، وندرك أن مقاربة شؤونها ومعالجة ضعفاتها لا تشابه، بشكل من الأشكال، مقاربة شؤون العالم وضعفاته. الكنيسة ليست مجموعة بشر يلتقون حول أهداف وغايات مشتركة تحكم في ما بينهم الحقوق والواجبات، الكنيسة مشروع خلاص، جماعة مؤمنين قائمة في شركـة محبّة، كلّ منهم مسؤول، بحسب مواهبه، تجاه الربّ، أولاً، وتجاه الآخر في الجماعة وعنه. رجاؤنا أيضاً  ألا يغب عنّا، لحظة، أننا وليدو تلمذة على الحياة في المسيح وأن رجاء الربّ منا أن نتلمذ عليها، فنعي أن الكلمة، إن أدرجها من سبقنا في التراث الحركيّ أو خطّيناها نحن، فإن الغاية منها لا أن تعكس فراغاً ولغواً بل أن تخطّ تلك الحياة. رجاؤنا ألا نجرّد انكبابنا على المعارف والعلوم من بُعده الشهادي، قتبقى معرفة المسيح، مهما سمونا في الابداع الفكريّ وغيره، معبرنا الأوحد لولوج أيّ معرفة أخرى لتكون غاية سعينا الابداعي واحدة وهي خدمة الله في الانسان عكساً لحضور كنيسته في الأرض. والرجاء الرجاء أن ندرك رحابة المسيح ورحابة السبل الايلة اليه ونقدم على مقاربة أي شأن من شؤون هذا العالم والانخراط في أيّ من ميادين الخدمة فيه سعياً الى تعميدها بنور المسيح فحسب. لنثق، هنا، أن لا نهوض لوجوه الخدمة هذه بغير الحضور الايماني في صلبها، وهو ، وحده، ما يرفعها الى حيث المبتغى. رجاؤنا، في الذكرى، أن نتلقّى بالنفس الكتابيّ ذاته الذي صنع وهج الانطلاقة الأولى دعوة المناسبة لانطلاقة متجدّدة مستمّرة . هذا بعض ما نرتجيه من ذواتنا. يبقى واحد نرتجيه من الراعي، أينما كان، وهو أن يتلطّف بضعفاتنا ويُشعرنا بمحبتّه لنحبّ، بها، أكثر.                                            

المشاركات الشائعة