هــل مــن مُجيب؟

رينيه أنطون 

مجلّة النور - افتتاحيّة العدد الخامس 2009 


ليمتلك أحد من أهل القوم الجرأة وليُجبنا بماذا يخدم قضية كنيسة المسيح ما نلحظه، اليوم، من ممارسات رعائية.  

بماذا يخدم القضية، مثلاً، أن يصعب على الأبناء التواصل الحيّ مع راعيهم؟ بماذا يخدمها أن تتمأسس العلاقات الانسانية في الكنيسة الى حدّ أن يحلّ التواصل مع الالات الالكترونيـة المُجيبة بديلاً عن التواصل مع وجه الأب وصوته؟ بماذا يخدمها أن يُشغَل الأبناء، عند الحاجة، بالبحث عن بعض الرعاة وأمكنة وجودهم دون فلاح؟ بماذا يخدمها مشهد انتفاخ البعض بكهنوته وأسقفيته وعلومه اللاهوتية العليا؟ بماذا تخدمها هذه العلوم إن قُنّنت وحابت وسُخّرت لخدمة الرؤساء وغذّت تسلّط الضعفاء؟ بماذا يخدمهـا مشهد تأنيب أسقف لكاهن أمام العامّة، بحقّ أو بغير حقّ، أو مشهد تأنيب كاهن لشمّاس وعلماني؟ بماذا يخدمهـا الازدراء "بسرّ" الحريـة في الكنيسة وعُشق التربية على العبودية وبلائها؟ بماذا يخدمهـا شغف الراعي بأن تكون الرعية في خدمة وقته وراحته وحاجاته بدل عشقه "أن يموت لتقوم الرعية"؟ بماذا يخدمهـا أن يكون له آذان لا تعير هواجس أبناء الايمان إهتماماً وعيون لا تُبصر حاجاتهم؟ بماذا يخدمها أن يوحي حضوره للناس أنّه سلطان زمانه لا مسيح مجتمعه؟ 

 بسؤال أكثر وضوحاً، بماذا يخدم قضية كنيسة المسيح والرعايـة فيهـا أن يحزن المؤمنون لشعورهم بأفول عصر الكبار بوداعتهم وحلول عصر الصغار "بكبرهم"؟ بماذا يخدمها أن يُسقِطَ الواقع البائس أحلام الجماعة ومشاريعها؟ بماذا يخدمها أن تحَجُب المصالح والطموحات الشخصية صوتها في ضمائر الرعاة؟ ألا يكفي المؤسّسة الكنسية ما تعانيه من غربة الناس عنها وغربتها عنهم؟ ألا يكفها ما تعانيه من غياب حضور وشهادة؟ ألا يكفها قحط الرعايـة والشركة؟ ألا يكفها التفرّد والعلل والمزاجيات وضيق الآفاق المتحكّمة بهـا؟ ألا يكفها الارتياح الى أحضان الغنى والنفوذ والانزعاج من عبء الالتزام والفقر والبساطة والفضائل؟ ألا يكفها الاهتمام الجارح بالحجر والامعان بإهمال البشر؟ ألا تكفها بشاعة الممارسة في معظم محاكمها الروحية؟ ألا يكفها اللامبالاة بالقوانين وبما يستبيح التاريخ والتراث؟ ليتجاهل "المُصلحون" هذا كلّه ويلهون بذواتهم ويساهمون في ازدياد البلاء؟

 فكفانا صمتاً و تستيراً بحجّة عدم المساهمة في تشكيك المؤمنين. المؤمنون باتوا مشكَّكين أصلاً، والصمت بات محاباةً تغذّي التسلّط وخراب الهيكل. ودليلنا الدامغ هو مشهد الكنائس المفرّغة من حيوية جيل الشاب ما عدا تلك المنسوبة لمن رماه الله، من هذا الجيل، في حضن النهضة وتربيتها. لذلك دعونا نتصارح. ليس صحيحاً، البتّة، انتفاء الحاجة الى "الأنبياء" في يومنا، وليس أميناً للحقيقة تغنّي البعض بكون رعاة اليوم متميّزين عن رعاة الأمس. فللتمايز مفاعيل وتأثيرات عادت شحيحة منذ عقود. قد نحظى، اليوم، براعٍ مميّز كما حظي به آباؤنا بالأمس. وقد نُبلى، اليوم، براع لا تخدم ممارساته قضية المسيح كما ابتلى آباؤنا به بالأمس. فالميزة في كنيسة الناصري لا تُكتسب من قدر اقتناء المعلومة وتراكم الشهادات العلمية وتراصّ المؤلّفات والتشدّق بها، بل تُكتسب، انطلاقاً وأساسًا، من "إعطاء القلب لله". من غاية كلّ موهبة وسعيها الى إكتساب صورة المعلّم وامتشاق قامته الوديعة الفادية. الميزة في الكنيسة هي لمن تميّز في عينيّ الربّ بشهادة الدم والخدمـة والرعايـة والعطاء والمحبّة والوداعة والتعليم المعاش. هي لمن تأسره سير القديسين لا سير سلاطين العالم، لمن تخضّه استباحة الحقّ لا استباحة موقعه. لمن يجعل من قلبه عرشاً لوداعة المسيح لا لمن يبحث في كنيسة المسيح عن مطلٍّ لعَظَمة لحمه ودمه. دعونا نضيف أيضاً، المؤمنون، في كنيسة الاله المتجسّد، لا يشدّهم الواعظون المعلّمون بكلامهم، لا يعنيهم اللغو. المؤمنون يسحرهم الودعاء العاشقون للربّ المعلّمون بحياتهم، المؤمنون يُأخَذون، فقط، بمن أُخذ بالمسيح، والباقي يأتي ليكمّل. 

فأعطنا ربّي أن يرث المتلمَذون، بصدق، على وداعتك، الحالمون بالقداسة، عرش الكبار في كنيستك لنفرح بكنيسة مُفعَمة بشباب ملتزم مسيحك، حالم بملكوته، مبدع، ناهض، معمّد للعالم. أعطنا أن تسود علينا وجوه مُحبة، فرحة، وديعة، محتضِنة تُجيب تساؤلاتنا وتُفرغ حناجرنا من الصراخ وتحرّر ضمائرنا من الغضب وتمسح من قلوبنا القلق ليبرز منها سلامك  ويزيد في كنيستك. 

 

المشاركات الشائعة