مقالـة "الصرخة" - "النشرة" البطريركيّة
رينيه أنطون - 2018
يطنّ
جرسُ كنيسة المينـاء في غير وقته المُعتاد. يضجّ الأهل وينشغلون. يدفعون فتى
الثالثة عشر من العمر الى باحة الكنيسة لاستقصاء السبب. فكانَ أن الكاهن الجميلَ
المحيا، المتأبّط الكتب، مُزعج السيدّات بعظاته "الصعبة" الطويلة،
المؤنِّب لتبرّجهنّ، الذي استحالَ صراخُه صخرةً تُرصَف عليها حجارة الكنيسة،
ووطأةُ قدميه خِتمًا لشوارع المدينة وأزقّتها القديمة، قد اختاره الروح أسقُفًا.
كان
الفتى يجهل أنّه، وهذا الرجل، ستُكتَب له حكاية. أنّ وجهَه سيستحيل قناةَ عبوره
المتلألئة الى جمالِ المصلوب. أنّ يمينه، التي خطّت قولَ الله في شؤون الدنيا،
ستحفر فيه كلمةَ السماء. أنّ قصائدَه على منبَر الهيكل ستصير عُشقَه المُنتَظر،
وأنَّ بدمعِ عيونه سيُخبَر بأنَّ لا موت بعد حياة.
كان
الفتى يجهل أنَّ هذا الأسقف أعدَّ له كرسيّ خدمة ليَفرش له مسلَك توبةٍ، وأنّ مرآة
السماء في وجهه ستشدّه الى قامة عشّار جديد، عشّارٍ مُنحَنٍ من ثقل خطاياه، شاخصٍ
للارتقاء الى عرش البنوّة ليرى رأسَ الجسد، المذبوح، الممتدّ في الأرض حبًّا
وفداءً. كان يجهل أن هذا الأسقف سيُرسَم، يومًا، نبيّا يصرخ بيسوع "دمًا يقول
الحبَّ"، ومُبدِعًا يهندس كنيستَه في العيون أجمَل المُشتهى. فصارَ أن بَسط
جورج خضر الكنيسة، في عيوننا، جُرنًا نغوص فيه الى عمق الوجود، إلى غاية الله من
الخلق، الى حيث الوصال مع هذا الدم يبعثُنا أهلَ فداءٍ في الأرض. لهذا إن جازَ أن
يُختَصَر تكليفَ الله له، منذ أن استباح الروح كيانه وحتّى اللحظة، لكانَ أنّ
الرجلَ هو سفير خلاص الى النفوس، وجهُ الأنبياء فيها، ليجعلَ منها أبناءً من نسيج
السماء، أبناءً يستذوقون الحبّ في وجه سيّدهم المُدمّى، يشتهون عالمًا مُنحنيًا
الى الأرجل، يُعرضون عمّا تشدّهم اليه الدنيا ليغوصوا في حروف الكتاب الى أن
يصيروا هُم الكتاب.
بهذا
التكليف مدَّ جورج خضر نفسه أمامَنا كيانًا عاشقًا مولعًا بالمسيح الكلمة،
المحبّة. جسَّد أنَ لا وزنَ لشأنٍ لديه، ولا مكانة، لغير هذا الكلمة ومَن يشاركُه
الولَعَ به. بإعراضه عن كلّ أمرٍ غير الارتقاء، ابداعًا، الى الله، أفهَمنا أننّا
من هذه المحبّة في وجه مسيحنا نأتي. إن كنّا منه كانَ لنا كلّ شيء، وإن لم نكن
فنحن، مهما بلَغنا، لا شي. إن كنّا منه فهذا معناه أنّنا من لدنه نُنسَج، من بخور
كنيسته نتنشّق، وفيها وبهَمّها في العالم نعيش. شغلُه الأوحد كانَ أن يُفهَمنا
أننا، دون الله، عَدَمٌ. فاللاهوت والأدب والفكر والفلسفة والجمالات والاهتمامات
والاطلالات تِبنٌ، هي، ما لم تكن في خدمة مدّ الضياء الالهيّ في الأرض والناس.
لذلك ما أُغدِقَت هذه النِعَم عليه لغير أن يُبرز الربَّ لنا بجمال. لغير أن
يشدّنا، بحريّة الأبناء، الى فتح القلوب للواقف على أبوابها فنتلمّس أنّ دونَ هذا
الجمال فيها ما نحن مملوئين بغير البشاعة والفراغ.
لذلك
سعى "المطران" الى أن يَكشف لنا الربَ قدرَ ما كُشِف له. عاشَ
بساطةً لينقلَ لنا أنَّ بساطة الانجيل هي العرش الذي يشتهينا عليه الربّ. حملَ في
جيبه الكتاب ليُخبرَنا أنّ لا رؤية لنا ولا طريق غيرَ منه وإليه. أحاط نفسه
بالكُتبَ ليُخبر أنّ كلّ معرفة عتبةٌ في الطريق الى ابداع الله في الناس، الى
الاتحّاد به في الكتاب. نثَر، أمامنا، يسوع في كلّ مطلات الحياة ليصرخ بأنّ الله
أوسع من محدودية عقولنا وجدران كنائسنا. قال بالفقراء والمظلومين لُينادي بالأرض
حقًّا لله وليستعجلَها سماء. تفّهَ الغنى والمال ليُذكّرنا بما سحر الله به
الصيّادين. عاش طُهرًا لينادي بجماعة الأبناء وجهَ طُهرٍ في الأرض. حاربَ العُصبة،
الطائفة، فيها ليصرخ بالمسيح غايةَ وجود وليس وسيلة نفوذ. أهداها حرّيةً تُذهل
ليقول أن كلّ تسلّط يُكسَر بخشبة الصليب. إنحنى بقامته أمامها، أمام الله فيها،
ليُعلّمَ أنَّ كلَّ ما يُسحِر، إن وُجد فينا، فانما هو "للربّ ومّما
له"، وكلّ ما يُشكّك فانّما هو من ضعفنا وخزفيتنا، "أتيناك لنقلّدك
الوسام، فوجدناه فيك... فخَجِل وانحنى..."
سرّ
الكبار في الكنيسة أن مكانتهم تُستَمَدّ من موقعهم في عينيّ الربّ، من هذا
الانحناء الذي وعَظ به غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، وليس من تربّع ونجاح وتألّق
في أيّ من أصعدة الحياة. سرّهم أنهم من شخوصهم الى هذا الموقع ينطلقون في تألّقهم
حياةً. جورج خضر سعى، حتّى بذل الدماء، الى هذا الموقع. سعى بدمع العيون، ووجع
السجود، وتَعب العقل الى هذا الارتقاء.
كنتُ
أرافقه يومًا، مطلع شبابيّ، الى لقاء شبابّي خُصّص للحوار معه. سألته أن يُبسّط
لغة حواره مع الشباب وكتابته في "النهار"، فأجابني ليسَ واجبي أن أنحدر
الى جهلكم، بل عليكم أن تتعبوا وترتقوا الى المعرفة لنلتقي، معًا، فوق.
كانَ
يحدّثني، مرّةً، عن زيارة قام بها للأردن، وفيما هو يُخبرني عن انسحاره بالاطلالة
على بحيرة طبريّا، انسكب دمعه تأثّرًا. سألته عن السبب، فأجاب لأنني عاينت المكانَ
حيث وطِأت قدما سيّدي.
شاركته،
يومًا، حلقة حوارٍ كنسيّة موضوعها خلافٌ تعليميّ كتابيّ. أذهلني فيما وهو يتحدّث
أن كاهنًا مُشاركًا، من أبرشيته، قاطَعه مخالفًا إيّاه بالرأي مُسترسلًا في
الكلام، فصَمتَ المطران وأصغى بانتباه.
سألته،
مؤخّرًا، ماذا أنتَ فاعلٌ اليوم، وماذا تنتظر، فنظَر الى فوق وأجابني، بدموع،
وجَهَ ربّي.
أمّا
سؤاله، الخاتمة، لي فكان: لماذا يُخطئ بعض الناس، في الكنيسة، الى الربّ؟
لا
أذكر هذه وتلك لأسردَ حكايات، بل لأشهدَ لنبيّ لم يلتفت الى شأنٍ في الأرض غير
الاضاءة على رُكن سيّده وأثره فيها، والشخوص منها الى السماء. جورج خضر ليسَ أسقف
محلّة، وليس مفكّرًا وأديبًا وواعظًا وفيلسوفًا. هو إبنٌ، أسقف نفوسٍ. هكذا رسمَه
الله، والى هذا، وهو على العتبة، ما زال يشخص.
شكرًا
ربّي لأنّك أعطيتني أن أفرحَ بوَهجك فيه.