لماذا كوستي بندلي، اليوم؟

رينيه أنطون 

مجلّة النور - العدد الرابع 2007


ربّ أنّ السؤال مشروع، ومنبع مشروعيّته أنّنا قد ألفنا، نحن الشرقيّين، أن نلتفت إلى كبارنا متأخّرين. لكنّ جوابنا مردّه إلى أنّ هويّة قياميّة، نلبسها، تدفعنا إلى خلع رداء العقم ونقض ما أمسى مألوفًا عندنا لنبني على أطلاله ملكوتًا عرفنا سماته في رجال لم يحبّوا شأنًا في الدنيا قدر ما أحبّوا المسيح. هذا لا يُبطل أحقّيّة الدعوة إلى الحذر من شطط الخلط بين المشاعر والموضوعيّة. فالانتباه واجب، وخصوصًا حين يتعلّق الأمر بمن استحالت أيقونته، المنحنية أمامك صلاة، نصبًا ثابتًا في آفاق مرجوّاتك الإيمانيّة. ذلك ليقينك بأنّك، إن كنت على ذرّة من محبّة الله، فلأنّك حملت في صلاته ومواكبته إلى حيث تحسّست هذه المحبّة حياة. غير أنّ الحذر واجب ليس فقط كيلا يغلب بُعد التكريم الشخصيّ بُعد البشارة الذي نتطلّع إليه من هذه المقاربة، بل أساسًا، كي نكون أُمناء لفكر الرّجل وقناعاته. فكوستي بندلي نفسه هو من أوّل الذين علّمونا، بشكره الدائم الذي لا ينقطع سيله للربّ، أنّ أحدًا ليس بصانع التألّق الذي فيه. فأنت حقل لتألّق الربّ ومعبره إلى الناس ليُنجز فيهم ولأجلهم ما لا تستطيع أنت إنجازه. أمّا شأنك، كمؤمن، فهو أن تجهد لتصير بذاتك مزودًا يحتضن روح الله، ليرتاح ويعصف. شأنك، إن شئت، ألاّ تنتظر حتّى يقرع بابك، بل أن تفتح الباب ويديك، قبلاً، لتدعوه إلى السكن فيك، وحين تلتصق بمحبّته المتلألئة على الصليب وتروي عطشك إليها، يُعطى كلّ الباقي لك من فوق. الخلاصة أن الله هو، أبدًا، مبدعك ومبدع كلّ ما فيك، وإن رشح منك بعض جمالات، فإنّما تعني الله قبل أن تعنيك. لكن، بقدر ما يذكّرنا هذا التعليم بمصدر النِّعَم يلفتنا، أيضًا، إلى ما في القراءة في رؤى مبدعينا من وجه بشاريّ وخصوصًا منهم من ألصق مسيرته بعنوان واحد هو "إن أكلتم فاعملوا كلّ شيء لمجد الله". فإن اتّصف الإبداع، في رؤيتنا، بكونه ثمارًا لوزنات الله المنصوبة في البشر بات، في منظارنا، أنّ مدّ العالم برؤى مبدعيه هو غرس لهذه الثمار في زواياه.


فمن هذا المنظار، وبسبب كثرة حاجة عالمنا، اليوم، واستدراكًا، لأنّ ما يخصّ الله يسمو على ما عداه، حُكمنا بخيار نشر كلمات تعرّف بقليل من فعل الروح ولو أضاف بعضها إلى جراح الرجل جراحًا. إذ يصعب على المرء، أحيانًا، أن يتأمّل في رؤية من يعشق الربّ من دون أن يغوص في تجلّيات فكره وعيشه معًا. أمّا لماذا كوستي بندلي، بالذات؟ فلأسبابٍ لا تُحصى قد يدركها الجميع، أقلّها ظواهر الاستهتار والاستهلاك واللامبالاة والفرديّة والانغلاق، والعنف وتشويه الصوَر والمفاهيم الإيمانيّة واصطناع التناقضات الحياتيّة مع الدين، والتغرّب عن الله لأهْوَن الأسباب التي تنخر في الناس. وهي الآفات التي دفعتنا إلى نبش ذاكرتنا واستخلاص بعض المنارات في مسيرته لإيماننا أنّها تُسهم في جلاء الظلمة التي تحلك في نفوس كثيرين وفي الكثير ممّا يحوط بنا.


عجن كوستي بندلي نفسه بعالم الالتزام ليرسّخ، عبر مطلاّت عدّة، مفهومًا لطالما أيقن أنّه سبيل ترجمة إيمانه بكون الله ألف الوجود وياءه، وهو أن تكون "المسيحيّة روح الحياة ومحورها". فتملّك هذا المفهوم مسيرته، لتكتسب الحركة، به، موقع الصدارة في ضميره الإيمانيّ. فالحركة، التي جمعته إلى ساعين في درب الربّ، هي، في رؤياه، أسمى من أن تكون واحة انتماء ظرفيّ. هي واحة اختبار كيانيّ للمحبّة ولدت من رحم معاناة كنيسة المسيح، لتمتدّ مفاعيلها في حياة الأشخاص، وتعكس نموذجًا مرتجى لخبرة رأى، إن عمّت، أنّها ترتقي بكنيسة الثالوث إلى حيث سيّدها، وهي خبرة الشركة. خبرة وعى المعلّم محوريّتها في الحياة في المسيح، مبكّرًا، وأدرك أنّ معرفة الإله هي مدخلها الإلزاميّ وأبهره مثالها الثالوثيّ إلى حدّ دفع به إلى ابتداع ظلال شركويّة كلّل بها جهده الفكريّ وحياته الصلاتيّة. وهما، إضافة إلى مواكبة الشباب في صعوباته، الوجهَين الأحبّ لجهاده. فتراه، إن قرأ، فإنّما بهمّ واحد هو أن يجمع ما ازداد به إلى عصارة فكره واجتهاداته ورؤاه لسمات الشهادة اليوم ومتطلّباتها، ويُبادر ليؤسّس، من هذا الخليط، نصبًا فكريًّا يُغني، به، الشباب والكنيسة والمجتمع. ولذا فهو يقرأ، ليكتب، ويمدّ المعرفة في جيل شبابيّ خصّه بالتوجّه. وإن كتب، جسّد البُعد الشركويّ للكلمة، المولودة من رحم التساؤلات الصعبة للناس، بصبّها في قالب لغويّ سهل الإدراك. فالهدف الأهمّ هو أن تخترق الكلمة القلوب، لتفعل فعلها في الشخص، فترتقي به لتُشركه في عالم المسيح والجماعة. من هنا، تُفهم المرارة التي تعتريه إن أهمل المسؤولون نشرًا أو تغرّب الشباب عن معرفة. فالنشر، بنظره، سبيل بشاريّ مهمّ. ونهل الثقافة لدى الشابّ، الملتزم حياة الكنيسة بطقوسها وأصوامها، هو سلّمه إلى الانفتاح على ميادين الحياة والشهادة فيها. وقبلة الشهادة أن يزرع الشابّ المؤمن في هذه الميادين روح المسيح، ليصبح الله الكلّ في الكلّ. ليس عليك أن تذوب في العالم، بل أن تلبس خصوصيّتك الإيمانيّة، أينما كنت، لأنّ الوجه الآخر لشهادتك هو أن تعكس للناس أنّ "الاقتراب من المسيح يوعب النفس بهجة وحميّة ونشاطًا وتوثّبًا" وأنّ "صداقة المسيح تحفظ للقلب نضارته". أمّا التوجّهات الانغلاقيّة المناقضة للبُعد الشهاديّ، فهي بفعل تصوّرات بشريّة خاطئة أُسقطت على الربّ، لتحجب عن صاحبها حقيقة أنّ المسيح قد احتضن، بصليبه، الكون، وأنّ محبّته للناس، جميعًا، ورجاءه منهم يفوقان الإدراك. الهاجس الشهاديّ مركزيّ في رؤية كوستي بندلي لارتباطه الوثيق بجلاء صورة الله في ضمير الشخص واستقامة العلاقة به. ولذا ليس من الغريب أن يحضر بعض المعنيّين به، ليشاركوا متعبي الجماعة ومسؤوليها في صلاته، وميدان صلاته هذه، في أكثر الأحيان، الهواء الطلق. فهو ينشد ويرتجي أن يستقيم مسار الجماعة، ككلّ، ويتجلّى تعاضدها بالاستفادة من خبرات أشخاصها وبخبرات شركويّة، تؤسّسها، تغذّي وحدتها، وتعبّر عن التزام أعضائها، بعضهم ببعض، وتنمّي فرادة كلّ منهم في آن واحد. أمّا مكمل هذا التعاضد، فيكمن، بعد الاجتماع حول الكأس الواحدة، في الوجه الصلاتيّ.

في الصلاة تحاور الله مباشرة، لتحمل إليه متاعب من حولك وحاجاتهم. ولذا من المهمّ العمل على تفعيل حياة الصلاة وسط الجماعة، ومن السبل المساعدة على ذلك التربية على الصلاة العفويّة حتّى يعتادها المؤمنون، ففي هذه الصلاة يخاطب الناس الله بلغة القلب لا بلغة العقل، باللغة العامّيّة المعتمدة في التخاطب في ما بينهم، وهذا ما يساعدهم على الشعور بأنّ الله هو أقرب إليهم، وهو هكذا لأنّه عشير القلوب. أمّا إبراز وجه الجماعة وروحها في حياة الكنيسة، فيقتضي، أوّلاً، إبراز وجه الكنيسة كعائلة، وهي عائلة الله الكبرى. وهذا لا يتحقّق ما لم يبرز وجه الرعاية بين الأب والأبناء، ويتجلّى بين أعضائها، جميعًا، عمق المعرفة والاحتضان وشدّة أواصر العلاقة. هي أهداف تقتضي، بالضرورة، تأسيس رعايا صغيرة تجعل من تحقيقها شأنًا موضوعيًّا. حينها لا يجوز أن يشعر عضو بغربته عن الآخرين وأب بغربته عن الأبناء والعكس بالعكس. ولا يجوز، أيضًا، أن تُباع الخِدَم لمحتاجيها لما في ذلك من مسّ بقدسيّة الأسرار. وإذ كان لا بدّ لخادم الهيكل من أن يأكل من الهيكل، وكذلك من تلبية حاجات العائلة وسعيها إلى أن لا يبقى فيها فقير، وجب على الأعضاء تجسيد عضويّتهم في هذه العائلة عبر التزامهم المنتظم والدوريّ بتأمين أعبائها المادّيّة. إفساح المجال لفعاليّة المشاركة هذه يجب أن يتمّ، أيضًا، في المجالس المشرفة على حياة الكنيسة تجسيدًا لعضويّة المؤمنين ومسؤوليّتهم عن كنيستهم. ونموذج الرعيّة ينطبق على الأبرشيّة، ونموذج الأبرشيّة ينطبق على الكرسيّ. حينها قد يسهل على العائلة الكنسيّة أن تكتسب معالم ملكوتيّة تخطو بها إلى العالم، لتعمل على تهيئته للملكوت الآتي. إنّ سعي المؤمنين إلى تهيئة العالم للملكوت هو امتداد لصلاتهم. "فملكوت الله وحده يروي عطش الإنسانيّة اللامتناهي، وهو، وإن كان يطلّ على تحقيق له أبعد من التاريخ، فإنّما يُبنى في التاريخ، ويمرّ حكمًا بالمعاملة اليوميّة بين البشر". المحبّة هي منبع سعي المؤمنين في العالم، وهي ما يجب أن يحملوه ويغرسوه حيثما حلّوا من دون أن يتجاهلوا أنّ حقول سعيهم الأهمّ هي الفقراء والمظلومون. فهم مسؤولون ليس، فقط، عن بلسمة جراح هؤلاء، بل أيضًا عن مواجهة النظم الاجتماعيّة والسياسيّة التي تغذّي فقرهم ومظلوميّتهم، دون حقد أو عنف. فما يتميّزون به أنّهم يُشركون الله، عبر صلاتهم، في هذه المواجهة، وأنّهم أبناء الملكوت المدركون أنّ العدالة عتبته.

إنّها جولة في بعض آفاق رؤيويّة أو عناوين سيرة يستشفّ من عرف كوستي بندلي أنّها طبعت بعض وجوه حياته لكونها مطبوعة في ضميره. وربّ أنّ الآفاق الأخرى، العقائديّة، التربويّة، والفلسفيّة، التي خطّها في العشرات من مؤلّفاته قد تكون مكمّلة لهذه أو مترجمة لها باللغة التي أحبّها إلى اليوم والتي هي لغة الفكر. لكنّ أفقًا، في مسيرته، أرحب من الكلّ وعنوانًا أهمّ وأفعل لن يُخطّ يومًا في الكتب. إنّه قامة ثمانينيّة ثائرة على تقليديّة شباب، تسير في أزقّة الميناء متوجّهة إلى بيت الربّ أو بيت الحركة شاخصة إلى اللقاء في الموعد المحدّد مهما تفاقمت الصعوبات والأجواء والظروف المانعة. هذه القامة لطالما سطّرت لنا حكاية التزام شخصيّ هو الباب الذي يتسرّب منه التأثير في النفوس. حكاية تكاد تمسي جزءًا من أسطورة. كوستي بندلي، وجه سرّ إبداعه الوحيد أنّه أحبّ الله حتّى استحال منيرًا في ظلمة عالمنا. إنّها شكر للربّ على سنين يمدّه بها وشكر للربّ على ما أعطينا أن نعاصر منها.

المشاركات الشائعة