هموم الطائفـة وهمّ الكنيسـة

رينيه أنطون 

 مجلّة النور - العدد الأوّل 2012

 

منذ أشهر وإلى اليوم ينشغل الوسط الأرثوذكسي اللبناني، الكنسيّ والطائفيّ، بما أُصطلح على تسميته الحضور الأرثوذكسيّ في لبنان والحقوق "المهدورة" للطائفة الأرثوذكسية. وطال هذا الانشغال ما صدر عن "اللقاء الأرثوذكسي" من مشروعٍ لقانون انتخاب أوحى للناس أنّه القانون المقترح من كلّ هذا الوسط. فأمام انشغالٍ بهذا الحجم، يرافق نموّ اللغة الطائفيّـة في الوطن، نُضيء، مرّة أخرى، على مواقف وثوابت تعنينا، كأبناء للكنيسة، وتخدم، في آن، استقامـة حضور كنيستنا في الشأن العام وسط  الأحداث الكُبرى التي تحوط بنا اليوم.

منذ بدء الأحداث اللبنانية في العام 1975 تفرّد الموقف الأرثوذكسي عموماً، والموقف الكنسيّ خصوصاً، بحضورٍ نوعيّ لا يتماشى مع  مسرى الخطابات والممارسات الطائفيـة التي اشتدّت في الوطن في حينه. وتجلّت فرادته، بشكل أساسيّ، في بيان المجمع الأنطاكيّ المقدّس الذي صدر عام  1975 من دير ما الياس شويّا داعياً الأرثوذكسيين الى التعالي فوق النتوءات الطائفية وبناء جسر تواصل وحوار بين أبناء الوطن، وفي تبنّي مُعظم الشرائح والنخب الأرثوذكسية هذا الخطاب والنهي، بنفسها، عموماً عن الانغماس في الحرب اللبنانية والأحزاب ذات اللون الطائفيّ الواحد. هذا ناهيك عن كتابات بعض الأساقفة والقادة الكنسيين وخطاباتهم التي نقضت كلّ طرح وتوجّه طائفيّ.

اليوم، لا شكّ أننا نشهد انحدارَ الموقف الارثوذكسيّ عمّا تألّق به وتميّز وذلك لحجج مُختلفة تبدأ بما يُطرح عن قضمِ حقوق الطائفة في الوظائف العامّة، مروراً  بضرورة رفع حصرية التعاطي مع المرجعيّة المارونية فيما يتعلّق بالحضور المسيحيّ في الشأن العام، وانتهاءً بلعبة التوازنات الانتخابية إرتكازاً إلى ما شرّعه اتّفاق الطائف على هذا الصعيد. هذا دون أن نغفل طبعاً ما يُضمَر لخدمـة مصالح بعض السياسيين الأرثوذكس بسبب تقاطع هذه المصالح مع مصالح البعض ورغباته.

 مقاربةً لهذا الموضوع من جانبه العمليّ أنطلق من شأن حقوق الأرثوذكس في الوظائف العامّة لأرى ، بدايةً، أنّ لا شأن، حقاً، لهذه الحقوق بما يبحث عنه السياسيون والنافذون الأرثوذكس من مكتسبات على هذا الصعيد. ذلك لكون المنطلقات والرؤى والغايات تختلف. فإن وجَب اهتمام الكنيسة بهذه القضيّة فإنّما كوجه من وجوه القضايا المجتمعية وبغاية أن تُسهَّل أمور أبنائها المواطنين في الادارات العامّة ويُخدَمون كما يُخدَم أيّ مواطن آخر، بموجب حقوقهم الانسانية والوطنية دون تعثّر وعرقلة وتمييز. بمعنى آخر أنّه ليس بهدف الحصول على مُكتسبات إدارية تُغذّي موقع الطائفة السياسيّ الذي يُدرك الكلّ أنّه يصبّ، عملياً، في خدمة نفوذ هذا او ذاك من السياسيين. لذلك فإنّ الخطأ، كلّ الخطأ، يكمن في الاعتقاد بأن الهويّة الطائفية للمسؤول الاداريّ هي ما يصل بالكنيسة الى هذا المبتغى. ودليلنا الأهمّ، باختصار، هو خبرتنا الوطنية. هذه الخبرة تشهد أن فترات طويلة من تاريخ وطننا تربّع فيها المسيحيّون، والارثوذكس منهم، كما غيرهم على عرش الادارات الرسمية بموجب المناصفة المعمول بها، دون أن يقلّل هذا الأمر من شأن الفساد والمحسوبيات والتمييز فيها. وما تقتضي الأمانة قوله هو أن الفساد، في الإدارة العامّة، سبق أن تأسّس وترسّخ في تلك الفترات ما قاد، حينها، إلى حملات تطهير إداريّ وتأسيس هيئات الرقابة المتعدّدة. ولا نقول هذا بغاية التشجيع على قضم حقوق أحد بل بهدف التأكيد أن ما يصل بالكنيسة وأبنائها الى الحقّ الذي يرتجونه هو تبوّء الشخص الكفوء، الحرّ، العفيف الكفّ وربيب المواطَنة الصالحة موقع المسؤولية أياً كانت هويّة هذا الشخص السياسية والطائفيّة. شأن الكنيسة، والأرثوذكس معها، على هذا الصعيد هو أن يروموا الى هذه الصفات في الشخص وليس الى دينه وهويتّه، لأن كلّ من يتحلّى بها هو، حقّاً، الاكثر قدرة وفاعلية على تحقيق ما يرتجونه وهو الأقرب إليهم في آن، خصوصاً وأنّ المؤسّسة الكنسية، كما الشريحة المؤمنة، لا دور لها ولا وزن في تسمية من تراه مؤهّلاً من أبنائها لهذا الموقع الاداري أو ذاك. فالسياسيّون والنافذون، وحدهم، في نظامنا الطائفيّ يملكون هذا الدور ويمارسونه ليس استناداً الى الصفات والمؤهّلات والغايات المذكورة بل قياساً الى ما يخدم شؤونهم الانتخابية والسياسيّة. 

  واسترسالاً في الجانب العمليّ أضف اّنه طالما أن مُعظم الارثوذكس، في واقعنا السياسي، ليسوا تكتّلاً إيمانياً، أو أشخاصاً، يتحكّم فكرهم الانجيليّ في ضبط حضورهم ومسارهم السياسيّ بالاتجّاه الذي يخدم شهادتهم، وطالما أنّ لكلّ منهم رأيه السياسيّ وانتمائه الذي يتحكّم بهذا المسار، يبقى ما يصلح على صعيد حقوق الطائفة في الوظائف العامّة صالحاً لسائر الحجج المطروحة.  ومثالاً فإن ولوج الأرثوذكسيين في العملية الانتخابية في ظلّ أيّ نظام انتخابيّ طائفيّ كان لن يودي بهم الى مزيد مما يخدم خصوصيتهم الشهادية، التي هي غاية تعاطيهم الشأن العام، بل إلى أن يكونوا عاملاً أفعل في خدمة هذه الجهة السياسية أو تلك الأمر الذي لا شأن للكنيسة ومؤمنيها به. 

   لعلّ أكثر ما يؤلم في هذا الحراك المُستجدّ  ليس ما يحمل من طروحات. فالطروحات الطائفيّة، كما، التجمّعات، ليست جديدةً في وسطنا الارثوذكسيّ لأن الوعي الايمانيّ تحديداً ليس عامّاً. ما يؤلم هو ما يوحيّ أن هذا الحراك يتمّ بمباركة واحتضان الكثير من رموز مؤسّستنا الكنسية. شأن الكنيسة، على هذا الصعيد، هو أن تبحث عمّا يبرزها شاهداً للحقّ والحريّة والعدل والمساواة والسلام والقيم والفضائل لتعكس حضور الله في التاريخ وتساهم في تقديس الزمن. وهذه الوجوه لا يلامسها أي نظام طائفيّ أو سعي ضمنه. شأنّها، في هذا الاطار، أن تبحث وتنادي بما يجعل مُجتمعنا وعاءً لهذه الوجوه. فلا عدالة أو مساواة حقّة في عالم "الطائفية وعدالتها" إذا جازت التسمية، إذ تبقى طموحات الشخص والجماعة محدودةً ومرهونةً بهويّته الطائفيّة. ولا حريّة حقّة فيه لأنّه يرهن كلّ مسعى لتقدّم وتألّق إنساني بتبعية هذا الزعيم الطائفيّ أو ذاك. ولا قيم أو فضائل  لأن مقياس القيم، فيه،  يمسي ما يُرضي الرموز والجماعات الطائفيّة وليس ما يُرضي الجماعة الانسانية، المُعبّر عنها بالمُجتمع الوطني، عبر ما ينقّي مؤسساته ويخدم إنسانه، أياً كان وكانت طائفته وانتماؤه. كما لا سلام يشعّ منه لأن غبار الحروب المُنتَجة، منه وبه، يغمر كلّ شعاع سلاميّ. شأن الكنيسة أن تنادي بما يُحرّرها من لعبة المصالح، ويعلو بمسيحها فوق هذه اللعبة ويُنقّي  حياتها والانتماء إليها ويحصره بمحبّة الربّ والربّ فقط. وهذا سبيله أن تثبت في مناداتها بالنظام المدنيّ ودفع شعبها الى تحقيقه إذ إنّه يرمي أبناءها في  رحاب المواطنة والمساواة والسلام ويُسهّل عليها إبراز خصوصيّتها الشهادية وقربها من الفكر الانجيليّ.  

فأياً كانت الظروف المحيطة بنا والصعاب، على كنيستنا، وعلينا، ألا نتجاهل خطاب الربّ لنا. "أنّتم في العالم، ولستم من العالم". أيّ أنتم تلبسون وجوه الحياة وهمومها دون أن تقاربوها كما يقاربها العالم، لأن ما تسعون إليه وتختصّون به، في العالم، هو غير ما يسعى إليه الذين شاكلوا هذا الدهر. فمنظاركم يكشف لكم  ما لم يره هؤلاء، يُريكم ما كشفه الآب للأبن من فوق، من خشبة صليبه المرفوع عليها. وفكركم منبعه تلك المفاهيم، غير المألوفة، التي احتواها إنجيلكم. فالأول هو الأخير، والكبير، بينكم، هو الصغير، والسيّد فيكم هو الفقير، ذلك لأنّكم، جميعاً، مُغتنون ومُكتفون بذاك الذي يعيش، وتعيشون به، في قلوبكم. حقكّم، أينما حللتم في العالم، يحصره حقّ الربّ في أن يقبل العالم فداءَه ويخلص، وسعيكم هو إلى أن تكشفوا للعالم  الطريق الاقصر اليه. أن تكشفوا له محبّته وحلاوتها. وهذا  لا يتمّ بغير أن تعيشوا هذه المحبّة بينكم ومعه، أن تضمّوا الناس إليكم، وتضمّوهم بعضهم الى بعض بالحبّ، أن تخلعوا عن الفقراء والمظلومين كلّ معاناة، أن تطلقوا المأسورين في رحاب الحريّة، أن تُبعدوا عالمكم عمّا يقوده الى عنف وتقرّبوه من سلام الربّ وتحرّروه ممّا يفصل بين أبنائه وتبنوا ما يصير بهم الى تلك الوحدة التي تُقيمكم فيها الكأس المقدّسة. "فيعرف العالم بهذا أنّكم تلاميذه" وتتقدّس وجوه حياتكم لتكون خميرة تقديس لحياة العالم بربّكم يسوع المسيح. فعسى أنّ هناك من يقرأ ويسمع. 

  

المشاركات الشائعة