جان رطل و "عرّبها عربها"

رينيه أنطون - 3 تشرين الأول 2019


خواطر وانطباعات في تاريخٍ وشريط...

الفنّ موهبةٌ لا أملكها، والنَقدُ علمٌ أفتقده. أمّا هذه فكلمات وحسب.

جان وأنا تقاذَفنا كُرةَ الوعي معًا. شبّينا على انكسارات الحرب معًا. تشارَكنا همومَ المراهقة والوطن معًا. حَلمنا بكرامةِ المَظلومين معًا، وأضَعنا الحلمَ بيَقظةٍ على قتامَة الواقِع معًا. تَلَوّنت عيوننا بكلمات محمود درويش ونزار قبّاني معًا. اختلَسنا حروفَ "النهار" و"السفير" وبها نَظَمنا القضيّة حبيبةً معًا.

قرأتُ قصائدَ جان مُذ كانت "خربَشات" قلم. رافقتُ صمودَه في وجهِ الاستخفاف بموهبته. عاينتُ صُدقَه. شهدت ثورتَه على المألوف. عايشت لفظَه الأعراف والتقاليد. واكبتُ زُهدَه برغدِ العيش وسموَّه فوقَ حاجاته. هذا ليبقَى هوَ هو وتبقى الصدارة لوديعة الفنِّ فيه.

المناسبة أنّي شاركت، وغيري، منذ أيام في عرضٍ أوّل لآخر أعماله. الحدث أعادني إلى مشارَكتي، بالأمس البعيد البعيد، في عرضٍ أوّل لأولى أعماله.

أذكر، في المناسبة الأولى، أنَّ مَلَلاً اعتراني.

كانَ مللُ الجاهلِ بما حاولَ جان أن يَقول. ربّما لأن قولَه كانَ على غيرِ ما انتظرت، ورغبت، أن يقول. كان تأثُّرُه بنُخبةٍ مثَقَّفَةٍ، يساريّةِ الهوى، مِن أساتذة المَسرَح يتصاعَد. وكانَ احتجاجي على ثقافَةٍ لا تبارِح موقعَها، "فوق"، من أبناء القضيّة يتصاعَد، أكانَ هذا "الفَوق" منبَرًا أو خشبَةَ مسرح. كانَ تساؤلي لما لا يترجّل المُثَقَّفون المُلتزمون إلى حيثُ يَسعَد هؤلاء الأبناء بانتاجِهم بدلَ أن يُثقَلَوا ويُثقِلوهم بشدِّهم إلى فوق؟ فليسَ كلَّ علوّ رِفعَة، والمقام "تَحت" هو الأرفَع. فَهُنا يُدفَن الشهداء ويُقيم الجياعُ والعراة. وهنا، حيث الألم، رحمِ الثورات المنشودة.

أمّا حيثُ تُسدَل الستارة ويزدحم الذين يقدّمون للقضيّة جودةَ حرفٍ وفكرٍ ومشهدٍ وأغنية، لا طعام، فيها، ولا حذاء ولا مال، فالمقام، وإن علا، فأدنَى.

ما حصلَ أنَّ عقودًا فصلَت بين العَرضين وفَعَلت فعلَها. وبدلَ المَلَل، اضمحلَّ الوقتُ في العمل الأخير وحلَّ الزَهو.

ليس السببَ أنَّ الوثائقيّ أخّاذ، معلِّمٌ، راقيٌ، جميلٌ، أنيقٌ، بليغٌ وحسب وإنّما، أولاً، أنَّ الموضوعَ فريدٌ ومُلفِت. والأهمّ الذي يُلفِت اليه أنَّ صديقَ شبابي ترجّلَ عن خشبته تائبًا. لم يتب جان إلى رحِم الثورات وحسب، بل إلى الرحِم الأمّ لهذا الرحِم ليلتصقَ بثورةٍ طالَته. ثورةٌ استجابَت لنداء ربٍّ، سيّد الثائرين، قالَ القوَّةَ وداعةً والعظمةَ حبًّا مُسطِّرًا كليهِما جسدًا مدمَّمًا معلَّقًا على خشبة. ثورةٌ استجابَت له يُنادي بأن يُحاكَى بلسانِ مَن يُحاكيه ولغتِه، وأن يُحكَى بلسان الراوي ولغتِه، وأن يُسبَّح بلسانِ المُسبِّح ولغته وأن يُصوَّر بيدِ المصوِّر وفنِّه وثقافته وأن يُمَدَّ في الأمكنة بشهادة رُسُلِها ولسانِهم ولغتهم.

في عمله الأخير، بترجّله عن خشبةٍ ارتَقى جان نحَو أخرى أبدعتها السماء مُبتَغيًا تحريرًا موثوقًا لأبناء القضيّة مَنبعه المَصدر.

__________
*جان صديق فترة المراهقة والشباب، مخرج مسرحيّ ملتزم، أخرج الشريط الوثائقيّ حول تعريب فنون الكنيسة الأرثوذكسيّة  الأنطاكيّة.

المشاركات الشائعة