سجود الروح

رينيه أنطون

مجلّة النور- افتتاحيّة العدد السابع 2016


حين نُدعَى، كمؤمنين، الى البشارة بربّنا يسوع المسيح هذا معناه، اختصاراً،  أننا نُدعى لنكون رسل مصالحة عميقة بين الانسان والسماء. وسفير السماء لدينا هو إنجيل الربّ يسوع. به تصير شدّتنا فرجاً، والآمنا فرحاً، وقلقنا سلاماً، وظلمتنا نوراً وموتنا قيامة. رجاؤنا هذا بانجيل الربّ لا يُبطل المشروعية البشرية لكلّ خوف يعترينا نتيجـة ما يحوط بنا من أوضاع مقلقة، فنحن، ووسط أيّ ظرف كان، نبقى سعاة الى أن نستحّق هويّتنا كأبناء، سعاة متكّلين في كلّ وقت على تلك المحبّة الفادية التي غُمرنا بها على الصليب، والتي بها نعبر، ونعبر بعالمنا، الى ما شاءه لنا الربّ من الخلق.  

إن اتكالنا على هذه المحبّة، إن صدَق، لا بدّ من أن تتجلّى جدّيته في سلوكنا، أشخاصاً وجماعة. وإن شئنا التحدّث بجرأة الأبناء نقول أنّه الأمر الذي لم يُلحظ، نافراً، في سلوكنا في الزمن الحالي. فرغم تمايز وديع وإطلالات متواضعة على هذه أو تلك من قضايا إنسان مجتمعاتنا اليوم، بقي قلقنا مما أحاط ويحوط بنا من أوضاع يشابه قلق معظم الناس، وهجرتنا الى بلاد أكثر استقراراً لا تختلف عن هجرة الجميع، وإلفتنا للقتل والظلم والتشريد والتجويع يشابه إلفة معظم شرائح مجتمعاتنا، وعطاؤنا بقي شحيحاً، وانفعالاتنا التحزّبية والسياسية لا تتميّز، بمعظمها، عن انفعالات الكلّ، ولا تُعلي شأن الحريّة الانسانية وكرامتها أولاً، وخطابنا بقي بعيداً، وبعيداً جدّاً، عمّا يشفي غليل المظلومين وأصحاب الحقّ الانساني، بقي يفتقد ومضَة الشهادة للحقّ، بشكل جليّ، دون مواربة وخجل ومحاباة. 

إن اتكالنا على محبّة الربّ وفعلها وحضورها الشافي في عالمنا لا قناة له غير الجرأة الانجيلية في عقولنا وقلوبنا ونفوسنا، ولاسبيل لترجمته غيرَ  استدعائنا لها صلاةً وبَسطِها في الأرض موقفاً وفعلاً متمايزاً بالمحبّة والروح السلامية. فكيفَ للأرض أن تشابه الملكوت ما لم نغرس فيها، بهذا، بذوره. وبذور الملكوت لا تنمو في غير قلوب الناس. تنمو إن عايشت القلوب، من خلالنا، قلق الربّ لقلقها، وألمه لألمها، وفرحه لفرحها، ورحمته لضعفها وفداءه للظلم اللاحق بها بحيث تتحسّس بهذا كلّه، السلام الآتي من فوق. 

إنّه السلام المولود من الفداء والذي كلّفنا الله بأن نكون سفراءه يوم مدَّ يديه على الصليب. فليس من "فوق"، يُنسَب اليه، يحلّق بنا خارج القلوب الموجوعة، وليس من تعالٍ الهي أسمى من احتضان الام الناس بإكليل الشوك والجسد المطعون. بكلاهما سامنا الله بَصمَتَه في كلّ الكون، وأولاً في المتألّمين والمطعونين، مثله، بكرامتهم وحقوقهم. فأيّ صمت، بعد، يجوز بعد أن صار موطئ أقدامنا يُروى من الدماء النازفة من هؤلاء، أيّ سجود يستر بشاعة ضعفنا ومحاباتنا للأقويـاء، وأيّ لون وشكل لبصمَة الربّ في الأرض، لا بل أيّ رسم لايقونة الفداء، اليوم، في النفوس الخاشعة غيرَ الصراخ النبوّي: 

كفى قتلاً وظلماً ودماراً. أبطلوا اللغوَ بالربّ وحقوق أحبائه. حاكِموا مجرمي الحروب لمنحهم فرصةَ خلاص. أزيلوا الأنظمة الخانقة للحبّ، المنتجة للفقر والقهر. داووا الأحقاد المتنامية بنشر العدالة والحريّة ودعم استقلال الشعوب وإشراك الفقراء في ثروة الأغنياء. إجعلوا من دولكم ومؤسساتكم وأماكنكم وأجسادكم، وكلّ موقع يخصّ الربّ، وما من موقع لا يخصّه، سقفاً للمشرّدين. 

بهذا اليوم، وبهذا فقط، نحاكي الربّ بالدموع في ما حولنا وليس بتمتمة الشفاه، ونستحيل بانحناءة أجسادنا سجوداً للروح ليكون لنا  السلام الحقيقي والخلاص. 

  

المشاركات الشائعة