المُشاركة وقانون المجالس الرعائية

رينيه أنطون

مجلّة النور - العدد الثالث 2010

 

في الثامن من شهر كانون الثاني الماضي صدر تحقيق في جريدة الأخبار، للصحافيّ غسان سعود، تناول فيه موضوع قانون مجالس الرعايا والأبرشيات ذاكراً أن طعناً، بهذا القانون، تقدّمت به "الجبهة الارثوذكسية" أمام مجلس شورى الدولة اللبنانية. وتوسّع الأستاذ سعود في مقاربة الواقع الكنسيّ، على هذا الصعيد، مُستخلصاً أن الكنيسة الارثوذكسية تعاني حالة تفرّد إكليريكيّ  في إدارة شؤونها الأمر الذي يؤشّر الى تفاقم الصراع  بين الاكليروس والعلمانيين بهذا الخصوص.

 لست هنا في وارد مُناقشة مضامين التحقيق خصوصاً وأن "الجبهة الارثوذكسية"، كمعظم التجمّعات الأرثوذكسية الأخرى، تنحصر إهتماماتها في شؤون حقوق الطائفة، وهي شؤون لا تتصدّر اهتماماتنا اليوم. لكنّنا معنيّون بأن نسجّل، في المُناسبة، رفضنا التشهير بوجه كنيستنا الأرثوذكسية الأنطاكيّة وما يتعلّق بحياتها الداخلية في الصحف العامّة، وأن نتوقّف عند الجانب المُتعلّق بتهميش مُشاركة العلمانيين في إدارة حياة كنيستهم الذي شكّل ذريعة للتحقيق المذكور.

بدايةّ يجدر التوضيح أن المشاركة التي نرتجيها هي مُشاركة المؤمنين، الممارسين، بالتحديد. أيّ مُشاركة شعب الله الحاضر في حياة كنيسته، الملتزم قوانينها وأسرارها، الساعٍ إلى أن تجسّد الحياة الكنسية ما أمكن من نقاوة يسوع المسيح وتناغم مواهب أعضاء جسده الواحد في خدمة هذا الجسد. أمّا كلّ مُشاركة أخرى، ذات بُعد طائفيّ هادف الى إبراز شأن الطائفة وإعلائه على شأن الشركة والحياة في المسيح وتحويل الأطر الكنيسة إلى ساحة تجاذب ونفوذ فأمر لا  يعنينا ولا يحركّ لدينا ساكناً.  

ورغم أن هذه المُشاركة المرجوّة لا يحصرها، بالضرورة، إطار رعائيّ، ولا يُنكر أحدٌ تأثيرها وبصماتها الملحوظة في حياتنا الكنسية من خلال أطر متعدّدة، إلا أنها تبقى مفتقدةً إلى اليوم، بشكلها الفاعل والمنتظم وبتأثيرها المطلوب، في مُعظم أبرشيات كُرسينا الأنطاكي. ولا تكفي الخبرات المتواضعة لمجالس الرعايا، المعمول بها هنا وهناك، للادّعاء بُحسن هذه المُشاركة وفعاليتها. فالكلّ يعلم أن معظم هذه المجالس قد استحال، في واقعه، لجان وقف تعوزها الحيوية والأبعاد الشركويّة والوحدوية، وهيئات عاجزة عن رصد ما يساهم في تنمية حياة الرعية في المسيح  وعن مواكبة هموم الأبرشيات وكُرسينا الأنطاكيّ وحاجاته. وبرأيي أنّ لهذا الواقع أسبابه التي منها:

أولاً، تساهل الرئاسة الكنسية وعدم التزامها، عامّة، بمقوّمات العضوية في المجالس وشروطها التي نصّ عليها القانون، ما أدّى الى ضُعف الروح الرعائية والشهادية فيها وغُربة الكثير من أعضائها عن أهدافها المرجوّة وحصر اهتماماتها بوجوه سطحية ادارية تقليدية بسيطة.

 ثانياً، إهمال تجديدها، في أكثر الأماكن، بحسب نصّ القانون وروحه، وذلك بحجّة صعوبات عملية تواجه الأمر حيناً والادّعاء بحسن سير الأمور والحاجة الى "الاستقرار" الرعائيّ حيناً آخر. والملاحظ أن هذا التوجّه قد أُخضع، في أحيان كثيرة، لمزاج شخص المسؤول ورضاه، أو عدم رضاه، عن سائر الأشخاص ورغبته في محاباة الوجوه وعجزه عن إهمال هذه المحاباة. وأيّا كان السبب فإن هذا الاهمال ساهم في أن تتسّم الحالة الرعائية، في مُعظم الرعايا، بالمراوحة والعتاقة.

 ثالثاً، التغاضي عن استكمال تنفيذ القانون في المدى الأنطاكي، وبالتالي عدم تأليف مؤتمرات الأبرشيات ومجالسها والمؤتمر الأرثوذكسي العام ومجلسه. وهذا ما حدّ آفاق المجالس الرعائية بالهموم المحلّية حصراً، إذ أمست دون أطر لتجسيد الآفاق الكنسية العامّة، وقطّع أوصال العلاقات فيما بينها، وغذّى، لدى كلّ منها، الفردية الرعائية وعطلّ عليها إمكان أن تستفيد من خُبرات بعضها البعض. كما قادها إلى شيء من التسابق والتزاحم بدل أن تكون في حال من التعاون والتكامل لخدمة الأهداف الكنسية الأعمّ والأشمل. 

 رابعاً، مُبادرة المجمع المقدّس في بداية التسعينات، والتي لم نفهم أسبابها إلى اليوم،  إلى تعديل النظام الأساسيّ للمجالس بالاتجّاه الذي يحدّ من حرّية المُبادرة لديها والقدرة على هذه المُبادرة، خصوصاً لجهة التأكيد على هويّتها كمُعاون، لا كمشارك، للكاهن وما استتبع هذا التأكيد من بنود عملية. هذا إضافة إلى تعطيل آلية تجديدها المُبدِعة، التي كان قد نصّ عليها القانون قبل تعديله والتي رسمت مسار تجديد المجالس بكاملها كلّ ستّة سنوات، وعلى مراحل، لصالح آلية أخرى تفتقد إلى الوضوح. فكأنّ مجمعنا المقدّس قد أراد من هذا التعديل، في حينه، التخفيف من وطأة القانون وحضوره في حياة المجالس ورهن هذه الحياة بمشيئة الأسقف والكاهن مُنفردين.

إن ضمّينا هذه الأسباب والتوجّهات الى برودة التعاطيّ الكنسيّ مع هذه الخبرة على مدى نحو أربعين عاماً من عمرها، والارتياح الملحوظ الى الأوضاع القائمة على هذا الصعيد، لحقّ لنا الظنّ بأن فشل هذه الخبرة  وتغييب مُشاركة المؤمنين وإضعافها هو توجّه مقصود وغاية منشودة. خصوصاً إن أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الغاية تتوافق مع مفاهيم خاطئة، تسود في حياة كنيستنا، خلاصتها أن الطُهر والفهم والمعرفة والفضيلة والايمان الحقّ  وروح المسؤولية والقدرة على إدارة الأمور، باستقامة، هي سماتٌ منوطةٌ بموهبة واحدة في الكنيسة دون غيرها من المواهب. وأن إحساس كلّ مؤمن آخر بمسؤوليته عن الكنيسة ووعيه لها تفعيلاً لمعموديته وتجسيداً لالتزامه الربّ وكنيسته، يحتاج، بسبب علمانيته، الى صكّ إكليريكيّ يُضفي عليه شرعية كنسيّة. والمقلق، إضافة الى هذا، ما يُلحظ من أنّ من حظي بكونه من النُخب المالية والسياسية والاجتماعية يُستثنى من هذه الحاجة. فلا يخفى إعجاب العديد من مسؤولينا الكنسيين بهذه النُخب والذي يَفسَح لها المجال لاملاء بعض الفراغات والتأثير، بعض الشيء، في التوجّه الكنسيّ على بعض الأصعدة بغضّ النظر عن مدى صدارة يسوع المسيح في حياتها.

باختصار، هذه كلّها دلائل تراجع رعائيّ يُعيدنا إلى عتمة ما قبل نور النهضة، ويدفعنا إلى أن نستذكر، أن يومَ صدر قانون مجالس الرعايا والأبرشيات في العام 1973، شعر المؤمنون أن المؤسسّة الكنسية، بإصدارها هذا القانون، قد صحّحت خطأً تاريخياً إذ تخلّت عن مشاركتها للوجهاء  وعادت بالكنيسة لتكون عائلة الله الحيّة التي تجمع كلّ المؤمنين. وارتكازاً الى قراءة الأخ كوستي بندلي في كُتيّبه "مجالس الرعايا ومُتطلّبات النهضة الأنطاكية"، فإن المجمع المقدّس فتح، يومها، باب الأمل بإصلاح جذريّ يُعيد للكنيسة الأنطاكية وجهها الانجيليّ المشرقيّ. فالقانون، بحسب الأخ كوستي، يُفسح المجال لأن يشترك الشعب المؤمن كلّه في مسؤولية الكنيسة ويُحيي الرعية ويستحيل بها ورشةً تخدم فيها كلّ الطاقات حيث يمسي لا وجاهة فيها إلا للخدمة. أُضيف إلى ذلك أن القانون قد غرس بُعداً وحدوياً في حياة الرعايا وأزاح عن كاهل الكنيسة عبء قانون العام 1955، الذي يتشبّث به البعض إلى اليوم، والذي سبق وجرّد الحياة الرعائية من وجوه الاستقامة وحكمها بروح دُنيوية ورَهَنها الى هذا وذاك ممنّ لا يُشغلهم، بالضرورة، يسوع المسيح.

 ربّما أن قانون المجالس الرعائية بات لا يُشكّل، في صيغته الحالية، الاطار الأمثل لحياة الجماعة الكنسية في حريّة مواهبية وشركة ووحدة في المسيح. لكنّه، وككلّ القوانين في الكنيسة، يُشكّل ضابطاً لهذه الحياة محصّناً إيّاها، إلى حدّ مقبول، في وجه التفرّد والمزاجيات وما يجرح ضمائر الناس. ولهذا فإن الانحياز اليه وإلى ضرورة تنفيذه بكامله، في ظلّ واقعنا الرعائيّ اليوم، هو انحيازٌ الى الطريق الأسلم المُتاح. فلا يجوز أن يبقى الوجه المؤسساتي لكنيستنا مُشرّعاً للأهواء البشرية عاكساً ما يناقض هوّيتها وتعليمها وكونها كنيسة الكهنوت الملوكيّ. أما من هو في غير هذا الجانب من رعاتنا وإخوتنا فآن الأوان كيّ يدلّنـا الى البديل الذي يُنهضنا من معاناة هذا الواقع الجارح لجسد الربّ.

 

  

المشاركات الشائعة