وأيضًا من وحي الذكرى

رينيه أنطون 

مجلّة النور - افتتاحيّة العدد الرابع 2006

  

لأن قناعتنا بأصالة الشعلة النهضوية التي نحملها ازدادت بعد ما قرأناه في العدد الثاني من مجلة النور الخاص بحركة الشبيبة الأرثوذكسية، ولأنّ هذا العدد قد حرّك لدينا هواجس جمّة، فإني أراها مناسبة  تدفع الى التأمّل الموجز في بعض ما ورد فيه .  

 "الحركة في الكنيسة ولها" عبارة، طالما ترددت في مناسبات حركية، وردت، عبر صيغ متعدّدة، في العدد المذكور بغاية التأكيد على الهويّة الكنسية للحركة والتحذير من شطط ممكن على هذا الصعيد. كلّما طُرحت إشكالية الازائية بين العمل الحركي والعمل الكنسي كان أن أحيت، لديّ، هذه المقولة تساؤلاً حول القصد من كلمة "الكنيسة". صراحةً، نحن لا نعتقد أن مفهوم الكنيسة يُحدّ  بالوجه المؤسّساتي الاداري التنظيمي فقط لأننا نرى أن للانتماء الكنسيّ أبعاداً رعائية سعيوية مواهبية وخادمة أشمل من ذاك الوجه وأرحب. ولذا نحن على يقين بأن خير ما يؤصّلك في الهويّة الكنسية هو هذا السعي الايماني، الشخصي والجماعي، للمعرفة وللنهوض بوجوه الحياة وبحياة الكنيسة، إذ به سعي الى تفعيل المعمودية بيسوع المسيح. فيكفي المرء، رغم ضعفاته، أن يحيا في شركة الجماعة الكنسية شاخصاً الى رعاية الجماعة لسعيه، هذا، ليكون في الكنيسة ولها . الحركة هي، أبداً، في هذا الموقع. وهي، إن رجت هذه الرعاية الكنسية لسعيها،  المفتقدة في أكثر الأماكن، فإنما لقناعتها، أيضاً، أن لا سبيل الى استقامة خدمة الكنيسة إن تجاهلت الكنيسة سعي أبنائها الخلاصي وأهملته.  فحبّذا لو تبادر  الكنيسة، بمجالسها وهيئاتها، إلى احتضان العمل الحركي ودعمه بشتى السبل لأن في تعميمه وتفعيله خدمة لرسالتها وبشارتها. لعلّ هذا الدعم، إن وجد، يضعنا، جميعاً، في حيوية رعائية تساعد كنيستنا على التحرّر من هذا الجمود المهين لرسالة يسوع المسيح. فهل سنعطى أن نعاين، يوماً، أطراً يلقى فيها صوت المؤمنين الملتزمين صداه الفاعل ليشدّ هذا الصدى من تغرّب من  الناس الى حضن كنيسته؟    

قرأنا "إن الحركة إنما وجدت لتزول". لا شكّ أننا، جميعاً، الى زوال والربّ، وحده، هو الخالد. "العالم يزول هو وشهواته..."(ايوحنا: 2 17). سُطّرت هذه المقولة مرّات  عدّة في أدبنا الحركي بأقلام معلّمين لنا. ربّما أنهم شاؤوا، بذلك، التعبير مجازياً، لا عن كون وجود  الحركة هو حالة مؤقّتة مرهونة بحالات اخرى، بل عن أن هذا الوجود ليس غاية بحدّ ذاته لأن غايته هي خدمة كنيسة المسيح وقضيّته في الأرض. دعوني أقول بتعبير آخر أن مُنانا، نحن الحركيّين، أن تمسي قضيّة المسيح قضيّة الكلّ  وألا تُحصر بأسقف أو كاهن أو نخبة من المؤمنين وحسب. ومنبع منانا هذا  هو وعينا أن في التزام الكلّ لهذه القضيّة سبيل خلاص له لأن طريق الخلاص يمرّ بتفعيل موهبة الروح القدس التي خُتمنا بها في المعمودية.  أمّا رؤيتنا للحركة فهي أنها قناة كنسيّة مواهبية ينمو في رحمها سعينا التفعيلي، غير المؤقّت، لموهبة الروح هذه لتولد منه خدمتنا كنيسة المسيح حتى اليوم الأخير .

لأن بعض المقاربات لشهادة الحركيين اليوم أمكن أن تسمح للقارئ بفهم بعض الطروحات على غير ما قُصد بها. ولأن المشهد الحركيّ – كما الكنسيّ-  يُشير الى معالم أزمة على هذا الصعيد، وجب التأكيد على أن البُعد الشهادي للايمان المسيحي الذي يُطعّم الكون بنكهة الله ويعكس حضوره في العالم هو من ثوابت هذا الايمان وليس بُعداً ثانوياًّ من أبعاده. فبقدر ما هو أساس أن ينهل المؤمن تغذيته مباشرة من الكتاب المقدّس والواحات الصلاتية وشركة الجماعة، بقدر ما سترميه هذه التغذية، إن استقامت، في تحدّي استكشاف أبعاد هذا الايمان، ومفاعيله في الحياة، ومدى حضور الله في التاريخ، وعلامات الزمان المدعوّ، كمؤمن، إلى أن يعكس حضور الله فيها. ولأن تأثيرنا، كمؤمنين، بات باهتاً جداً في محيطنا الاجتماعي، ولقناعتي أن شحّ هذا التأثير سببه تجاهلنا لهذا البُعد الشهادي نتيجة قراءات ايمانية خاطئة، أرى أن لا مناص من معاشرة الشباب لكتابات مؤمنين اختبروا الأبعاد الحياتية للايمان وتفاعلوا وحضور الله في التاريخ والآخر. فهذه المعاشرة أمست ضرورة مكمّلة  لمسعى الشباب  الايماني  لا غنى عنها.

الشركوية والانفتاح كلمتان لطالما لخّصتا جرحاً ولفتتا الى مأساوية الشخصنة والانغلاق في وسطنا. نعم إن الشخصنة تنمو في أوساطنا لأن بعضنا يجهل موقع الجماعة المتصدّر في الرؤية الايمانية. ولهذا فإن كثيراً ما يتناسى هذا البعض، في ممارساته، كون الجماعة هي من ولده في المسؤولية. فإن شئنا أن نشير الى الداخل الحركيّ يكفي أن نتأمّل في كمّ  التوجّهات التي وضعتها الجماعة، عبر لقاءاتها ومؤتمراتها، وأهملها قياديّون ومسؤولون. أما الاشارات على الصعيد الكنسي، الأعمّ، فتكثر لتبدأ بالتساؤل عن غياب الأطر التي ترمز الى الجماعة وتسمح لها بالرأي الفاعل دون أن تنتهي. الشخصنة، لدينا، عامل مصدره خلط المسؤول بين مهمّته قيادة الجماعة الى حيث يجب أن تكون تجسيداً لرؤياها الجماعية الواحدة، وبين رغبته في إيصال الجماعة الى حيث يريد، هو، أن تكون تجسيداً لتسلّطه عليها. أما الولوج في رحاب الانفتاح فيستحيل حيث تنمو الشخصنة لكون أسس الانفتاح، والحال هذه، تُفتقد. فكرٌ  للجماعة جليّ  يعكسه مسؤولوها بوضوح في إطار حركة تفاعلية والآخر تتطلّع الى التأثير به، شخصاً كان أم جماعةً، وإلى التأثّر بكلّ ما يُغني لديه. فمن لا يطلّ على الآخر الذي منه وله كيف له أن يطلّ على ذاك الأبعد؟    

أخيراً يبقى القول أن الأجمل في هذا العدد هو أنه بسط لك ذاتك بأعمق لغّة، وبيّن لك هوّيتك بأرفع أدب، واستحضر أمامك تاريخك بأجمل نصب، وعكس لك معرفة  للآخر بك  قد تكون أعمق من معرفتك لذاتك وأشمل. باختصار، لقد أتحفتنا مجلّة النور بلوحة قيامية اللون والمغزى سحرتنا بألوانها حتى عدنا، أمامها، أطفالاً نزهو بزينة الفصح.