العطاءُ في الكنيسـة

رينيه أنطون

نشرة الكرمة - 15 آب 2010


تغيب معاني العطاء وأبعادُه الايمانيّة عن شريحة لا يُستهان بها من المؤمنين، أعضاءً كانوا في لجان الكنيسة ومجالسها أم غيرها. وهذا الغياب يفسّر ما نلحظه، أحيانًا كثيرة، من ضجيج  الجماعة الكنسية بعطاء هذا أو ذاك من الناس وفيض النشرات الرعائيـة، المحلّية، بأسماء المتبرّعيـن والمبالغ المُتبَّرع بها. وهو ما قد يُفسّر، أيضًا، سبب تعاطي المعنيّين بشكل خاطئ مع فقراء الكنيسة ومُحتاجيها بعضًا من الأحيان.

العطاء، في الكنيسة، هو وجهٌ من الوجوه التي تُجسّد عضويّتنا في جسد المسيح الواحد، عائلة الله الكُبرى، وترجمةٌ لوعينا مسؤوليتنا عن هذه العائلة وفيها. وهذا معناه وعينا لأهميّة المساهمة في تلبية حاجات الكنيسة ومتطلّبات بشارتها وشهادتها والمشاركة في إعانـة فقرائها ومُحتاجيها تخفيفًا من معاناتهم ومسحًا لقهرهم. وهذه المُشاركة الأخيرة نوليها أهميّة مركزيّةً في ضمائرنا، كمؤمنين، لأنْ بها نزرع الفرح في قلوب من لفتنا إليهم الربّ، بشكل خاصّ، ونحفظ كرامة الصورة الالهية فيهم، ومن خلالهم، في الجماعة الكنسية كلّها. لذلك فالعطاء، في بُعدِه الايمانيّ، في نظر الجماعة، يعبّر عن تحرّر المُعطي من ذاته وخروجه من أناه ليكون عاملًا فاعلًا في شركة محبّة ومسؤولية وشهادة يلاقي فيها وجه الربّ في وجوه من يُشاركونه الايمان الواحد وتوحّده بهم الكأس المقدسّة الواحدة.

لهذا، أن تُعلّم الكنيسة كلّ عضوٍ فيها "ألاّ يدع يمينه تعرف ما فعلته يساره" ليس غايته فقط تربية شعبها على العطاء بتواضع وخفر احترامًا لكرامة المُستفيد وتقديرًا لشخصه ، بل غايته، أيضًا، قيادة شعبها إلى أن يكون عطاؤه باستقامة كيّ يصبّ في خدمة خلاصه. وبالتالي قيادة شعبها  إلى سبيل تحرير عطائه من كلّ بُعد شخصيّ ومصلحة ذاتيّة تنزع عنه كونه فعلَ محبّة ينبع من محبّة الثالوث القدّوس ويهدف الى خدمة الأخ والجماعة والمساهمة في نموّهما معًا في المسيح. ومن هنا يبطل كلّ تبرير يقول بضرورات كنسية تدفع المسؤولين إلى تشجيع الناس على العطاء عبر حوافز مُختلفة، بما فيها الاعلان عن عطاءاتهم، لأجل تلبية هذه الضرورات. فالكنيسة لا تبغي، أولًا وأخيرًا، إلا خلاص شعبها في المسيح ونشر سبل هذا الخلاص في العالم أجمع.

يبقى أنّ ما يسري على عطاء الجماعة للشخص المُحتاج من مفاهيم إيمانيّة لا يبتعد عمّا يسري على عطاء الشخص للجماعة. فكلّ عطاء من هذا الجانب إنّما هو من الربّ، من نعمه وخيراته وباسمه وله. هو عكسٌ شركويّ لمحبته وتلطّفه وحنانه للمُحتاج وحملٌ لهذا الآخر، ودعوةٌ  له، للتحرّر من ظُلمة الحاجة والاقامة في نور الربّ. وهذا ما يدفع بكلّ معنيّ إلى السلوك بما يتوافق وما ترنو إليه الكنيسة من عطائها حيث لا مجال لوصاية أحد على أحد أو لجنة على أحد أو مجلس على أحد. كما لا مكان لتمنين أو اشتراط لأن فيهما ما يُخلي حياتنا، كجماعة، من الأساس الذي ترتكز إليه وبه تنمو، من مجانية حبّ المسيح وفدائه لنا ولكلّ منّا.

رُبَّ من يرى، مُخطِئًا، في هذا الكلام ما يتعارض ومنطق التنظيم العلميّ للوجوه الادارية في حياة الكنيسة. فلا شكّ أنّ كلّ سعي الى الاستفادة من العلم والتنظيم والترتيب في حياة كنيستنا يُرضي الله ويُساهم في خدمة هذه الحياة وتفعيلها شرطأن نمسح هذا السعي، دائمًا، بروح الربّ التي بها نُعمِّد هذه الوجوه ونرتقي، في سلوكنا الكنسيّ، لنكون على صورة حنانه غارسين في الدنيا فكر مسيحنا وفضائله. وبغير هذا لن نكون في خدمة مجد مسيحنا، الذي به وله نحيا، بل في جنوح إلى خدمة مجد الذات بلباس خدمة "الصغار".

 

 

 

 

 

 

المشاركات الشائعة