صرخة الميلاد

 رينيه أنطون   

 مجلّة النور - العدد الثامن 2009                                                              

أيضاً وأيضاً تفيض محبّة يسوع المسيح علينا ويفتقدنا بنور ميلاده والظلامة ما زالت تطبع مسار عالمنا وتحوطه بعناوين مأساوية كُبرى. فيضعنا الحدثُ مرة أخرى ، نحن المسيحيين، أمام مرآة الحقّ لنتعرّى من كلّ لبس فينا. فإمّا نكون رُسلاً في العالم نكشف للناس طريق النور والخلاص، طريق إله استهواه، في تجسّده، الفقر والحبّ، وإما نحن لاعبون، على خشبة العالم، في مشهد لغوٍ ولهوٍ وجمودٍ وتردادٍ  طقسيّ يُرخي على طفل المغارة رداء ًصنميّاً وإن إدّعى خصوصيةً ليست هي، في حقيقتها، غير خصوصية الفراغ من الأنسنة والحبّ. 

والحقّ الذي لا يخفى على أحد إلى اليوم أن هذا الفراغ هو ما يسود حياتنا، نحن المؤمنين، مهما بلغنا من إلتزامِ يسوع المسيح وتكريس له. فمن مؤشّراته الكُبرى تآلفنا، بوعي أو بغير وعي، مع ما يتحكمّ في عالمنا من شرّ وتكيّفنا معه ومع مسبّبيه، وفي أحسن الأحوال تعالينا عنه دون المساهمة المرجوّة منّا، كأبناء لله، في إعلاء شأن الخير عليه. ومثالاً، لقد تآلفنا كثيراً والعنف في عالمنا حتّى صرنا نعبر مشاهده التي تملأ شاشات التلفزة، وخصوصاً تلك منها التي تختصّ بالأقرب إلينا، العراق وفلسطين وبلاد آسيا، كمن يتخطّى مشهداً سينمائياً لم يستهوه بهدف البحث عن آخر. وقست قلوبنا إلى حدّ أن صارت الأجساد البشرية المذبوحة والمُمزّقة لا تحرّك فينا ساكناً غير ما تُثيره فينا القذارة المرمية على الطرقات والُململمة من زواياها. وهُمِّشت قضايا الانسان والحياة في ضمائرنا حتى بات إرشادنا وعظاتنا واهتماماتنا ورسائلنا الرعائية تتجاهل الأحداث السياسية والانسانية الكُبرى وتتعاطى معها كأنهّا لم تكن وإن طالت تداعياتها مصير الحياة كلّها. كلّ هذا يوحي بأن الأمر  صار بنا، نحن الكنسيّين، أكثر الشرائح الانسانية طواعية في أيدي الظالميـن. هذا لجهة العنف والظلم، السمتين الأسوأ لعالمنا اليوم. فإن أضفنـا إليهما بعضاً من السمات الأخرى التي قد لا تقلّ سوءاً عنهما كثيراً، كتنامي روح الاستهلاك والفرديـة في البشر ونُدرة الصدقية بينهم والتلاعب البيئي بما يصون الطبيعة والحياة فيها، وتأمَّلنـا بمستوى تعاطينا معها ومقدار حصانتنا، كجماعة مسيحية، إزاءهـا لوجدنـا أن ما يميّزنا عمّن لم يُكشف له نور المسيح علاماتٌ قليلة نادرة. فكأن  ما عكسه تجسّد مسيحنا من معانقة الايمان والحياة - والتعبير الرائع هو لمعلّمنا كوستي بندلي - شأنٌ هامشيّ في إيماننا. أوكأنّ هذه المعانقـة تُجزَّأ وجوهُها وتُحصر، في منظارنا، بالبُعد الفضائليّ والأخلاقي الفردي الذي تقف مفاعيله عند كيان الشخص دون أن تطال ما يعني الجماعة والبشرية كلّها. والخوف يمسي مُحقّاً، هنا، من أن تكون شرائح كبيرة منّا  تتعامل مع تحرّك المشاعر الانسانية بالحبّ والاهتمامات الحياتيّة والجهود لأجل أن يسود الفرح والسعادة والعدالة والسلامة والبحبوحة الناس كلّهم كشأن لا يخصّ التقوى ولا يعنها صميماً.

من هنا لا نفهم في سياق كثرة التركيز على معاني الميلاد العميقة تجاهل الكثيرين من وسطنا الكنسيّ هذه العناوين وتوقّفه عند بعض المظاهر المُعتادة التي، إن أضافها الناس الى عيشهم الكنسيّ للمناسبة من دون أن تحلّ مكانه، لا يَحجب وجودُها من معاني الميلاد معنىً  ولا يُنقص غيابُها من أبعاده بُعداً. ما حجب عن كثيرٍ من المسيحيين إمكان أن يُحيوا مناسباتهم الدينية العُظمى، ومنها الميلاد، باستقامةٍ تجعل من هذه المناسبات دافعاً لهم ومُحصّنا في مسيرة الخلاص هو، حقيقةً وعُمقاً، افتقاد تربيتنا الكنسية المعمول بها الى شمولية الآفاق التجسّدية لايماننا من جهة، وافتقاد وسطنا الكنسيّ الى واحات ُمجسّدة وإن لقليل من هذه الآفاق تعكس للناس صدقية الرعاة والعاملين والمُربيّن فيه. وفي كلا الشقيّن تكثر الأمثلة إلى حدّ يفرض علينا، كجماعة كنسية، أن نفهم أموراً عدّة ونبني على أساس فهمنا لها. فلا يمكن إقناع شعب الكنيسة أن الله، المتجسّد حباً، يهتمّ للفقير والمظلوم من دون أن يُعنى  بأسباب الفقر والظلم، وأن المعاناة الناتجة عن كليهما تشكلّ انتهاكاً لصورته في الانسان من دون أن ينتهك مقتل الأبرياء بكمّ كبير هذه الصورة بشيء، وأن ما يخصّ الشخص يخصّ الله وهم يرون أن ما يخصّ المجتمعات الانسانية ومصيرها شأنٌ لا يعني أحداً من مُحبّيه. ويصعب كثيراً أن يستجيب الناس لدعوة الرعاة والمُربين الى إحلال الفقراء أولاً في ضمائرهم ما لم يروهم يتصدّرون حياة الداعين ومجالسهم قبلاً، وأن يُعيروا الحديث عن الاستهلاك والمال وخطورتهما الايمانية عليهم اهتماماً وهم يعانون من حضورهما النافر في كلّ وجه مؤسّساتيّ لكنيستهم. ويستحيل أن يبادر مؤمن الى التخلّي عن فرديته ومشاركة إخوته في الايمان الحياة والمسار ما لم تعكس العلاقات الكنسية له فسحات شركوية يُشهد فيها لاستماع راعٍ الى راع وأب الى إبن وإبن الى أب ويُعاين فيها مشاركة أبرشية كُبرى لأخرى صُغرى وعطاء رعية ميسورة لأخرى مُتعبة.  باختصار يصعب أن يتعامل مؤمن بجدّية مع دعوة الكنيسة له الى الموت والقيامة لأجل المسيح ومعه ما لم تدلّه رموز الكنيسة، أولاً، على  هذا الطريق. وبغير ذلك كفانا لغواً ولهواً. فعيش الميلاد يستقيم لحظة لا يرى الناس في كلّ منّا إلهاً غير ذاك الذي تعلّموه منه. 

  

المشاركات الشائعة