مقدّمة كتاب "كلمات بأمثال"

رينيه أنطون – 2018


كلُّ وجهٍ قيمة، وكلّ شخصٍ كنزٌ أودَعَه الله في وجهكَ ثروةَ خلاص. إلى هذه الخلاصة، قادتني هذه الصفحات، لأُدرك أنّ في الدنيا عالمَين. هذا الذي تَحكُمه الوديعة، تلكَ الوجوهُ التي تنادي محبّتك، لتكسرَ بها قيودَ الأرض، وتنطلقَ في طريق السماء. وذاك الذي يحكمُه أبناءُ الطين، عُشّاق التراب الجهَلة بإيقونة الحبّ التي فيهم. قد يصعُب أن تفصلَ بين صداقة "مَجنونة" تجمعكَ بكاتب هذا الكتاب وهذه المقاربة التي أنت مزمع أن تؤدّيها بأمانة وموضوعيّة. فالصداقة الإنسانيّة، وإن اختلطت فيها الحنطة والزؤان، تبقى القُربى الأشدّ التي كثيرًا ما تَغلب، لأنّها جمرُ المحبّة الذي لا ينطفئ. إلاّ أنّها، مهما استعرَّت، لا تكسر الحقيقةَ التي هي القربى الأحبّ والأعظم، قربى الروح الحقّ، التي لا يجدر أن تنكسر لأمرٍ. حرصًا على هذه الحقيقة وأمانةً لها، يبرز الأب إيليّا متري فيَّ رسولاً، لا ينتمي فقط إلى العالم الأوّل، شغوفًا بسِحر الوديعة، بل أيضًا رسّامًا مُبدعًا لصوَرٍ فيه. أراه يأتي بوجوهٍ من العالم، يمسَح عنها غبار الأرض بمنديل الحبّ، ويصيرَ بها إيقوناتٍ، طبعةً في ذلك الوجه على الصليب، قبلةِ الصلاة.

سرّ هذا الكاهن أنّه لم يستسغ الرعايةَ والتعليم باللسان وحسب. هذا ما اكتسبَه من كونه ابنًا كوّنَه التعليمُ بالحبّ، التعليم المُجَسَّد. أبدَعَه قلبُ راعٍ صارَ له رحمًا، ولسانُ معلّمٍ نقشَ فيه الكلمة مشهدًا واحدًا، جسدًا ممدودًا مسمَّرًا على خشبةٍ في جسد. فعشِقَ الكاهنُ المشهدَ، وفهِمَ أنّ الأبوّة في الكنيسة هي أن تتماهى بما مُلِئتَ أنتَ به، فتمتدّ مصلوبًا في الأجساد حولكَ، لينسلَّ إليها الفداء، ويُدفَن فيها الزؤان، ويعلو على رماده عرشُ الربّ. لهذا، وإن لم يقل الكاتبُ هذا، الأهمّ في هذه الوجوه المرسومة في حروف أنّها سيرةُ أبوّة. أبوّة تندر في زمن الجحود، تأتي من المحبّة، من الآب، لتذكّر بما بعدَ الأرض، تحتضن، وترعى، وتحتجَب، ليخلص الأشخاص، ويتمجَّد المصلوب.

هذه ليست فرادةً لهذا المؤلَّف، بل هي فرادةُ المؤلِّف. فمَن قرأ ما سبق أن خطّه الأب إيليّا كلمات، تحسّسَ فيه الفكرَ المعاش والحدثَ المُختبَر، وأدركَ أنّ الفكرَ، الذي منه نأتي، لا تكونّه الحروف فقط، بل يصوغُه الدم دائمًا. هو لا يُمطرُكَ بما وجبَ أن يكون، أو تكون أنتَ عليه، بل ينسلّ، بفعل المحبّة، عبرَ قصّة وجه أو حكاية صديق أو سيرة جماعة، ليطبَعه في خلاياك. فتتعلّم بهذا، وتذكر أنَّك، على الرجاء، نصبٌ للتجسّد هنا، شاخصٌ إلى المكان الذي منه أتيت، ضارعٌ إلى أن يمتشقكَ الناس، ليطلّوا منكَ على المصلوب، فيَلفحهم الخلاص، وتُشفى لوعةُ ربّك!

هذا وعيٌ لكون ليس من هويّة لنا، نحن الأبناء، غيرَ تلك التي طبعت الرسل، وأن ما من تكليفٍ لنا من العلى وهمّ لنا في الأرض غيرَ أن نكشف عن بذور هذه الرسوليّة المغروسة في أعماق النفوس، حولنا، ونسقيها اهتمامًا ورعايةً واحتضانًا، لتعلو سنابل قمحٍ إنجيليّ ترتفع معها الأرض إلى جيرة السماء. هذا الوعي لم يشترط، عند الكاتب، وعيًا مقابلاً، ليتجلّى في مداه. فمجانيّة الفداء هي الثمن المقبوض لكلّ تعب وتخلّ واتّضاع. فأيًّا كان الشخص، وأيًّا كان إيمانه وعمله وتاريخه وسيرته، تراه، في هذا الكتاب، مُرسلاً من الله إليك مشروعَ رسولٍ يُنَّمى بالحبّ ورسمَ معلَم يوقظ، في أحيان كثيرة، غفلتك، عمّا سهوتَ عنه من تكليف.

أُعطيَ الأب إيليًا أن يوضحَ لنا هذا التعليم بأدبِ القصّة القصيرة الجميل بما فيه من إبداع لغة وحلاوة سِيَر، وهو الذي وهَبه الله أن تعلو مكانة قلمه في هذا الأدب. ربّ من يرى أنّ تلك هي خصوصيّة المؤلّف لكون المكتبة العربيّة المسيحيّة يندر فيها مثل هذا الأدب. لكنَّ الخصوصيّة الأهمّ، في يقيني، أنّ التعليمَ في أدبِ المؤلّف إنّما يأتينـا مُنَكّهًا بجنبِ السيّد المطعون مُصاغًا بفرح القيامة. السيّد مطعونٌ بكلّ معاناة تُصيبنا وبكلّ غربة تُبعدنا وبكلّ تمييز يطالنا وبكلّ جرح يؤلمنا. أمّا نحن، فناهضون من كلّ كبوة ومنتفضون على كلّ سقطةٍ مع كلّ نسمة جليليّة تعبر إلينا من غُصن محبّة.

حاولَ المؤلّف ألاّ يُضيء على حركة هذا الغصن. ولربّما السبب أنّنا ما وُجدنا إلا "لننقص نحن وليزيد المسيح". فأذهلنا، في كلّ قصة، بما يؤشّر فقط إلى أنّ البذور نَمت في نفوس والجمال برز فيها. أمّا السبيل، فلا وزنَ له ولا ذِكر، لأنّ الوزنَ والذكرَ هو للواهب فحسب. كمّا صرَّح لنا بأنّ خبرَته بحكاية الله مع الإنسان، وهو عشيرُها، قد اغتنت من اطلالة تلك الوجوه عليه خصوصًا من تلكَ المهمَّشة والغريبة عن وطنه وإيمانه. كأنّي بهذا يُذكّر، ونحن في زمن الزهو بذواتنا والانسحار بوجوهنا، بالوجه الذي منه مُدَّ إلينا كلّ جمال وبأنّ الجمالَ الذي يعنينا هو ذاك الواحد الذي يأتينا من نزفٍ.

هذا النزف هو الجواب عمّا يعتريك من تساؤلات بعد قراءة هذا الكتاب. أيّ سبب هذا الذي يُنصّب مَن تصادف على عرش المكانة الأولى في ضمير الكاتب؟ ما الذي استحال بـ"وجوهٍ من نور" حروفًا منقوشةً في جسده و"كلماتٍ بأمثال" تتماهى مع تلكَ الإنجيليّة التي رواها الربّ لشعبه؟ حينَ خاطبنا يسوع بأمثالٍ من الحياة، شاءَ أن يكشفَ لنا موقعَ الخلاص في قلبِ ما يشغلنا عيشًا وما به نَسلك ونهتمّ. شاءَ أن يعلّمنا أنّ الترفّع عن هموم الحياة ليس هو المطلوب وحده، بل أنّ السماء والأرض تلتقيان، لا بل تتّحدان، يومَ نُعمّد هذه الهموم بالدم النازف من جسده والدمع السائل من عينيه. لعلَّ "كلمات بأمثال"، كذاك البكر الذي سبقه، وُلِدَ من ألمِ انحرافنا الإيمانيّ المتفاقم عن فهمِ الربّ، من رحمِ استقامة السجود، ليعلّمَنا أنّ السجودَ من دون وجه نحمله إلى الربّ إنَّما هو التصاقٌ بالأرض، وأنً ذاك المرفوع بنا إليه هو رافعتنا إلى الخلاص. هو الوجه الشخص، أيًا كان. الأب إيليّا متري، بهذا الكتاب، عبَر "بمُنى وسامي وأحمد وكريم وجهاد وصلاح..." من أسماء بها يُنادَى كلّ منهم ويُعرَف إلى تلميذٍ واحد رسولِ خلاص، ساحةِ فعل محبّة. أمّا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، الحاضر الغائب، فَتراها يدًا خلفيّةً مُقيمةً في وجه الكاتب ماسحةً عينيه برؤية الكتاب. فهي مَن ولدَ الأب إيليّا كاهنًا في المحبّة هاويًا متاعب الإنجيل باحثًا عن معالم الجُلجلة في وجوه، ليُخبرَ أنّ برقًا قياميًّا سيمض منها. هذه الكلمات شاءها الكاتب دعوةً لنا، بأمثالٍ، إلى وليمة هذه المتاعب، إلى العشاء مع الوجوه سبيلاً إلى القيامة معها.

__________
* المؤلّف: الأب إيليّا متري
 

                                                    

المشاركات الشائعة