كلمــة - نـدوة الجبـل العيــد 75


رينيه أنطون -  2017


أيها الأخوة، 

هذا أسمى الألقاب، وهو ما يختصر بيننا كلَّ بُعد، ويمحو كلَّ تشنّج وغربة ويفتح أعماق كلّ منّا للمسيح الذي في الاخر. في هذه اللحظة لا يهمّنا من بقي منّا في الحياة التنظيمية الحركيّة ومن ابتعد، ولا يهمّنا من بقي على رفقته للرفاق ودعمه لجهدهم وجهادهم ومن لم يبقَ، ومن تفهَّم الضعفات أو قدّر الانجازات ومن لم يفعل. يهمّنا أن نحيي تلك الأخوّة التي نمونا بها وفيها يوم جمَعنا، جميعًا، رحمُ النهضة الواحد. وليس أنسب من اقتراب الذكرى الخامسة والسبعين لانطلاقة هذا التيار في الكنيسة لنبدأ ورشة الاحياء هذه.

لا ننشد هذا الأمر بهدف محاباة الوجوه وتحريك العواطف، بل بهدف مدّ ما يعنينا جميعًا من حياة الحركة والكنيسة بمزيد من الحيويّة الشاهدة. لذلك لا نرى من محورٍ لهذه الورشة أهمّ من أن نتصارح بالعمق وبالحرص المحبّ. مُصارحةٌ، مجرّدة من أيّ بُعدٍ شخصي وفئويّ، بكلّ ما نراه قد خَدَم قضية يسوع المسيح بالأمس، ويخدمها اليوم وغدًا، في مسيرة الحركة، الحركة التي رافقت الدماء في شرايين أجسادنا. 

انطلاقًا من هذا، إلى ماذا نهدف من هذا اللقاء؟ 

ما بين تاريخ انطلاقة الحركة واليوم تجمّعت متغيّرات كثيرة ذات علاقة بشهادتنا، ومعها كانت خبرات جمّة وانجازات لا يُنكرها أحد، وضعفات، شخصية وجماعية، وأخطاء منها ما عرفناه وأشرنا اليه مرّات ومرّات، ومنها ما يكون قد خفي علينا. هذا ما قادنا، في محطات مختلفة، الى أن نتساءل عمّا يقتضيه التكيّف مع هذه المتغيّرات وما حَمَل به عُمرُ الحركة الطويل. ولعلّ هذا، أيضًا، ما دَفَع بعض الأحبة، رعاةً كانوا أم أبناء، الى دعوتنا لتقييم هذه المرحلة الطويلة من عمر الحركة للاعتبار منها ودفع المسيرة الى مزيد من الاستقامة والحيوية والفاعلية. ولا يخفى على أحد أن أهمّ هذه المتغيّرات، التي أعنيها، هي تلك التي طالت حالَ الرعاة. إذ أننا نتّفق على أن مشهد رعاة الكنيسة الانطاكية ورؤسائها باتَ اليوم، بعامةٍ، مشهدًا مريحًا، أقلّه لناحية انتماء نسبة لا يُستهان بها من رعاتنا الى جيل الشباب وتحلّي شريحة وافرة منهم، إضافة الى التقوى، بالعلم والفضائل، هذا عدا عن ولادة كثيرين في التزام الكهنوت من رحم هذه الحركة. أذكر هذا من باب الأمانة للواقع ليس الا. 

هذا العنوان أبدأ لأختصر، من وجهة نظري الشخصية، أهمّ العناوين التي قد تشكّل مقاربتها مُنطلقًا لبحثنا اليوم:

 

الوضع الكنسي، وعلاقة الحركة والرعاة

يُمكن مقاربة هذا العنوان عبر ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى الممتدّة، تقريبًا، ما بين غداة التأسيس ونهاية السبعينات. هي تلك التي شهدت حالًا من النهوض الحركيّ ذي البُعدِ الرعائي، ترافق َمع سقوط قانون العام 1955 وصدور قانون مجالس الرعايا والأبرشيات. وشهدت، في سنواتها الأخيرة، انتخاب أساقفة حركيين وبداية ما اعتقدناه التغييرَ المنشود في القيادة المجمعية للكنيسة الأنطاكية. واكبت هذه المرحلة حالًا من تفهّم الرعاة، وتقبّلهم، لوجود الحركة وعملها، دون أن يطالَ الأمرُ احتضانَ هذا الحضور ورعايته جدّيًا إلا بشكل استثنائي في بعض الأماكن. هذا دون أن نغفل بعض الأزمات والانقسامات التي تخلّلتها هذه المرحلة.

المرحلة الثانية، الممتدّة ما بين نهاية السبعينات وبداية التسعينات. هي مرحلة واكبتها قناعة حركيّة بأن وجوهًا هامّة من النهضة تمّ تحقيقها ترافقت مع استقالةٍ حركية، اذا جاز التعبير، من الاهتمام كما يجب بالشأن الرعائي ومن الحضور النقدي إزاء هذا الشأن. وهو الامر الذي قادنا للارتداد الى الداخل التربويّ. ألحظ أن هذه الفترة شهدت تعليمًا، أو توجيهًا، حركيًّا يُعلي الشأن الاكليريكي في ضمائر الحركيين ما يمكن أن يكون قد ساهم، من جهة، في مزيد من انخراط أجيال شبابية في الكهنوت، ومن جهة أخرى في خلق ظروف مُسهّلة لبروز الفكر الاكليريكانيّ ما أدى الى أزمات لاحقة.

المرحلة الثالثة الممتدة حتى انتقال المثلّث الرحمات البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم. هي مرحلة شهدت منذ بدايتها، وبشكل تدريجيّ، وعيًا حركيًّا بأن ما من نهضة تتحقّق "من فوق"، وأنّ التغيير الايجابيّ في وجوه الحياة الكنسية الأنطاكية على مستوى التعليم والوعظ والسمات الشخصية للرعاة لم يطل أصعدة الرعاية والمجمعية والوحدة والمواهبية في الكنيسة. ولا يمكن إنكار أن هذه المرحلة، في بعض أجزائها، شهدت تأزّمًا شديدًا في العلاقة مع الرعاة. يقيني أن الأسباب الأساسية لهذا التأزّم تعود من جهة الى تنامي حدّة الفكر "الاكليريكاني" وما رافقه من توجّه "أبويّ سلطويّ" لدى شريحة من الرعاة، ومن جهة أخرى الى أخطاء في ممارسة الحركيين ناتجة، حيث وجدت وفي معظمها، عن الحدّة المؤسساتية في الحركة وضعف الوعي الحركيّ خاصةً على الصعيد المحلّي.

 

التربية الحركية

بنظري هو العنوان الأبرز والأهمّ في مسيرة الحركة، وأحد المواضيع الخلافية مع الرعاة في الزمن الكنسي "الجديد". لا شكّ أن هذه التربية تطوّرت سبلها ووسائلها مع تراكم السنين في عمر الحركة، وشهدت في العقود الأخيرة وثبةً باتجاه توسيع مرجوّاتها وتطعيمها بالأبعاد الثقافية وما يساهم في ردم تداعيات الضعف الارشادي الملحوظ هنا أو هناك. في إطار هذا العنوان أخلص الى أربعة نقاط:

الأولى، يدلّ المشهد الحركيّ عامةً، عدا الاستثناءات، الى أن هذا التربية أثمرت الكثير وغيّرت، بشكل جذري، حياة شباب الحركة وعائلاتهم بالاتجّاه المرجو، وأسست شرائح شبابية مؤمنة يَلحظ التزامَها وفضائلها أبناءُ الكنيسة وغيرُهم من أبناء المجتمع المحيط بالحركة. كما ان تأثير هذه التربية استمرّ وامتدّ في حياة الأشخاص دون أن يقترن، بالضرورة، باستمرار انتظامهم في الحياة الحركية. 

الثانية، ساهمت هذه التربية في انعاش الحياة الرهبانية في أنطاكية. وفي سياق المكانة التي أولتها الحركة للتكريس الكهنوتي والرهباني، والانفتاح الذي مارسته على الأديار، فترةً من تاريخها، أعلت شأن الأبوّة الروحية في ضمائر الأبناء. هذا ارتكازًا الى ما يرتجى من هذه الأبوّة، وهو رعاية حياة الشخص ومساعدته في مسيرة مواجهة الضعفات والارتقاء في حياته في المسيح الى مزيد من النقاء والفضائل ليسخّر مواهبه حضورًا فاعلًا في خدمة حياة الكنيسة والأخوة. ربّ أن ما واجهنا على هذا الصعيد، أن بعض "الأبوّة" ألغى مكانة الأخوّة والحياة الكنسية في ضمائر الأبناء، أو أضعفها، ما عثّر الحضور والفعالية المرتجاة لهؤلاء الأبناء في الحياة الكنسية.

الثالثة، وبغض النظر عن توفّر متطلّباتها الارشادية أو عدمه، فان الحركة عملت وتعمل على تربية تتخطّى التعليم والتثقيف دون أن تهمله وتتجاهله. بمعنى أن التربية التي تشغل الحركة دائمًا هي تلك التي ركيزتها بناء الشخص في المسيح عبر التعليم والمرافقة، مرافقة حياته ومواكبة التزامه، واحتضان الجماعة (الفرقة أو غيرها) لها، وعبر احتضانه للجماعة ومواكبة حياتها وهمومها. وشرحًا لما ذكرته أعلاه حول كون هذا العنوان هو أحد المواضيع الخلافية، ومع اقرارنا بأنّه بات لدى شريحة كبيرة من رعاتنا اليوم إمكانات علمية لاهوتية تفوق تلك التي لدى معظم مرشدينا، فان، في يقيننا، أنّ هذه المؤهّلات لا تلبّي أو تكفي، وحدها، لتحقيق مرجوّاتنا من التربية الحركيّة.

الرابعة، يُلحظ من ثمار هذه التربية نجاحها الواضح في بناء الشخص في الوحدة في المسيح. لا أدّعي أن ترجمات هذه الوحدة تطال كافة صعد الحياة الحركية، غير أنّني أؤكّد أن كافة الانقسامات والصراعات السياسية والمجتمعية والاقليمية التي شهدناها، في عمر الحركة، لم تنل من مكانة هذه الوحدة في ضمائر الحركيين مهما بلغ اختلافهم في الموقف. أبناء الحركة تشبّثوا ويتشبّثون، اليوم، بوحدتهم ووحدة الكنيسة، ويُجسّدونها في صُعد كثيرة، والشواهد لا تُحصى. قد ندرك ما لهذا الأمر من أهمّية حين ننظر الى معاناة واقع الحال الانطاكي ازاء موضوع الوحدة، وكذلك الى الواقع الارثوذكسي العالمي وما يسوده من تفرّد وتسلّط وانقسامات. ولعلّ ما آلت اليه نتائج انعقاد "مجمع كريت" بعد عقود من التحضير خير ما يعبّر عن ذلك.

 

العلاقات الرعائية والانفتاح

عامة، اختلف التعاطي مع هذا البُعد باختلاف الظروف الكنسية والمجتمعية المحيطة بالحركة. وبقي ما حكم منطلقَنا اليه واحد ٌ، وهو التمييز بين ما يخدم الكنيسة وحياتها، وهو الشأن الذي عنانا بشكل أساسيّ، وما يخدم الطائفة ومصالحها المجتمعية. ولعلّ هذا التمييز هو ما وضعنا، أحيانًا، في صلب "صراعات" حول قضايا رأينا فيها ما يناقض رؤيتنا الايمانية ومرجواتنا للحياة الكنسية الناهضة في الربّ. هذا لا يمنع أننا سعينا، عبر مبادرات عديدة، الى أن نتشارك مع بعض الأخوة، من أبناء الكنيسة غير الحركيين، ورش بحث وأطر متابعة لقضايا ثقافية ورعائية نلتقي حولها. أذكر منها، مثالًا، المنتدى الثقافي الارثوذكسي و اللقاء الرعائي. طبعًا، ان فشل هذه المبادرات يقتضي تعمّقًا في الأسباب، وان اتضّح أن بعضها يعود الى اختلاف المنطلقات والرؤية لوجوه شهادة الكنيسة في المجتمع، والخلط ما بين مكانة الكنيسة الخادمة ومكانة الطائفة النافذة. هذا ما يضع التوجّه الانفتاحي في الحركة أمام أسئلة جدّية.

 على صعيد آخر، تفاوتت حال العلاقة مع مجالس الرعايا ما بين التكامل، في العمل، والتجاذب الحادّ، وذلك باختلاف الأمكنة وبتفاوت مستوى الوعي، أكان لدى الحركيين أو لدى أعضاء المجالس والرعاة. وهنا لا أخفي أن بعضًا من المشهد الانغلاقي إزاء المجالس هنا وثمة إنّما تعود أسبابه، بشكل أساس، الى أننا لم نول هذا الشأن في تربيتنا ما يستحقّ من التوجّه والاهتمام.

 

البُعد الشهادي المجتمعي

في هذا البُعد أشهد لتألّق الحركة في صعيد، واخفاقها، الى حدّ ملحوظ، في صعيد آخر. ففي العنوان المساعداتي الاجتماعي يمكن القول أنّ الجماعة الحركية أنجزت ما يُرضي. أسّست لجانًا فاعلة للعمل الاجتماعي، مراكز اجتماعية، مشروعًا للتبني المدرسي، هيئة طوارئ اجتماعية لمواكبة تداعيات الحرب السورية خاصّة. وإن طالت رعاية هذه الهيئات ومساعداتها الالاف من المحتاجين فإن هذا لا يناقض الاقرار بضرورة تحرير العمل الاجتماعي، في الحركة، من تقليديته المؤسساتية وأن يكون لفعل المحبة، في حياة الشخص الحركي، حضورًا أبرز.

أما على صعيد سائر المطلات الشهادية في المجتمع، فان شهادة الحركيين، والحركة، بقيت متواضعة. ما عدا بعض الجهد الفردي، وبعض الومضات المحلّية، لم تكف وثيقة التزام شؤون الارض التي أصدرتها الحركة، ولا ما نقله الينا، في هذا الشأن، فكر المطران جورج والأخ كوستي بندلي واخوة قياديين آخرين لحملنا الى اطلالات شهادية تكون بحجم ما أحاط بنا، ويحوط، من قضايا وأحداث. يقيني أن قراءتنا لهذا البُعد، ومحورية دورنا، كمؤمنين، فيه تحتاج مزيدًا من الحوار وجديّة التوجّه التربويّ لنوحّد مفاهيمنا، بنور الانجيل، للخطأ والصواب فيه.

 

النشر

أمكن القول أن تعاطي الحركة بالنشر الارثوذكسي، عبر منشورات النور، أثمر ما تطلّعت اليه يومًا من أن تُملأ المكتبة العربية بما يساهم في تعريف الارثوذكسيين بايمانهم وعقيدتهم وتاريخ كنيستهم ويقارب بعض وجوه حياتهم بفكر الانجيل حيث فاقت اصدارات هذه المنشورات الثلاثمئة عنوان. أمّا التطلّع الآخر الى أن تغتني هذه المكتبة بما يقارب، برؤية إيمانية، قضايا الفكر الانساني والثقافة والمجتمع والأبعاد الشهادية فلا زالت ثماره متواضعة. هذا إن استثنينا مؤلّفات الأخ كوستي بندلي وبعض مؤلّفات المطران جورج خضر. وإشكاليتنا على هذا الصعيد اليوم قد لا تتعلق بسياسة النشر قدر ما تتعلّق بنُدرة الكتّاب من جهة وأزمة الثقافة والتعاطي مع "الكتاب" في ظلّ بروز ظاهرة النشر الالكتروني. 

ما يعني "المنشورات" قد يعني، بالقدر ذاته، "مجلة النور". حافظت الحركة على الاصدار الدوري لهذه المجلّة، وحفظت هويّتها، كمعبّرة عن مواقفها من جهة، وحاملة لتوجّهها التعليمي من جهة اخرى. إلا أن للأسباب ذاتها أعلاه، يشحّ تفاعل الشباب مع مضامين إصداراتها وتعترضها صعوبات جدّية في التكيّف مع الواقع الاعلامي الجديد.

 

العلاقات الارثوذكسية والمسكونية

بعيدًا عمّا هو معروف عن الدور الهام للحركة، تاريخيًا، في تأسيس بعض أطر هذه العلاقات "كرابطة حركات الشباب الأرثوذكسية في العالم، والاتحاد العالمي للطلبة المسيحيين، فإن هذا الدور لا يلبّي، اليوم، طموح أحد. على الصعيد الارثوذكسيّ قد لا تعود الأسباب الى تقصير أو تخلّ حركيّ بل الى ما آل اليه وضع الرابطة بسبب صعوبات مالية تعترضها وتنسيب، اليها، عدد لا يستهان به من مكاتب التعليم الديني التابعة لأساقفة بعض الكنائس والتي هي بمثابة حركات وهمية. أمّا على الصعيد غير الارثوذكسي، أمكن القول أن وهن التعاطي الحركيّ على هذا الصعيد وخصوصًا ضعف العلاقات مع هيئات شبابية كنسية غير ارثوذكسية مردّه الى أن هذا الهاجس لم يتخّذ صدارة في توجهاتنا، كما أن تصاعد الفكر الديني المتشدّد، الذي نشهده اليوم لا في الكنيسة وحسب بل في العالم أرخى بتداعياته وتأثيراته على إمكان معالجة الأسباب بالشكل المناسب.

أما العلاقة مع المسلمين، وإن لا تندرج تحت هذا العنوان، فانما يخضع تفعيلها للمعوقات ذاتها، مع التأكيد على ما تتحلّى به العلاقة بين الحركة وشرائح اسلامية، في بعض الأماكن، من حسن وتقدير مشترك.

أيها الأخوة، أكرّر أن هذه الأفكار ليست أفكارًا حركية رسمية. هي قراءة شخصية وضعتها بناء لطلب الاخ الامين العام لتشكّل بداية لبحثنا في شهادة الحركة عبر خمسة وسبعين عامًا، ولتسهّل الانطلاق في هذا البحث. هي ليست ورقة عمل كافية، ولستم مدعوّون الى حصر نقاشاتكم بمضمونها. فما نرجوه، في هذا اليوم، هوأن يدلي كلّ منكم بما يُلهمه اليه اخلاصه لقضيّة الربّ ولاستقامة عمل حركة الشبيبة الأرثوذكسية في الكنيسة.

 

 


المشاركات الشائعة