كلمــة افتتـاح مؤتمـر مركـز طرابلس 2008

رينيه أنطون


أريد، بداية، أن أوجّه لفتة احترام ومحبة الى سيادة راعي الأبرشية المطران الياس قربان. لعلّها هي من المرات النادرة التي لا يشاركنا فيها مثل هذا اللقاء. فالمطران الياس هو من المطارنة الذين يدعمون العمل الحركي ويثقون بثماره ويدافعون عنه، ليس فقط في  نطاق الأبرشية وإنما أيضا في نطاق المجمع المقدّس الذي لن أشغلكم اليوم بهموم هذا الجانب من العلاقة معه. لذلك أرجو أن نفي هذا  الرجل  حقّه علينا  فنحمله في صلاتنا كي يشدّده الله  ويقوّيه في كلّ لحظة  ضعف يمرّ بها  في هذه الحياة.


المطران بولس بندلي

أيضاً أريد أن أذكر معكم اليوم المطران بولس بندلي. واذا كانت الأسباب التي تدفعنا، في كلّ مناسبة حركية، الى ذكر هذا الأب القديس لا تُعدّ وتُحصى، فإن ما يجعل قامته منتصبة في ضميري اليوم هو:

أولاً: أنه في مثل هذا اليوم، منذ ثلاثة أشهر بالتحديد،  أقمنا الصلاة لأجل راحة نفسه ودُفن جسده تحت الكنيسة الصغيرة التي أحبّ. هذا الجسد الذي لم يتعب لحظة من التبشير والخدمة والزهد بالدنيويات والالتصاق بالفقر.

ثانياً: أننا نجتمع في مركز وكورة كان له الدور الأهمّ والأفعل في زرع  بذور الهوية الحركية فيهما وفي رعاية النفوس وتلمذة عدد كبير من الشباب والشابات والتأثير فيهم، وهنا ألفت، على رجاء الاستجابة، القيادة التي ستنتخب في  مؤتمركم هذا الى أهميّة الاتصال بشرائح واسعة لم تعد موجودة بيننا من هؤلاء الشباب والشابات الذين لا زالوا في رحاب الكنيسة لمحاولة إيجاد أطر لقاء وتبادل معهم. إن عيش هؤلاء المتلمَذين بجانب الحياة الحركية في هذا المركز، ما لم يكن في وسطها، قد يخدم كثيرا استقامة هذه الحياة ويصقلها بمزيد من الأصالة. 

ثالثا: أننا، وهذا هو الأهمّ، نحتاج ونحتاج بيننا الى سماته وصفاته وفكره وممارسته التي عبرها استدلّ الناس الذين عرفوه الى يسوع المسيح وكانت  هذه أقصر الطرق الى معرفة المسيح وأفعلها. وهنا دعوني أقول انطلاقاً من مواكبتي المكثّفة لحياة كنيستنا وحركتنا في أنطاكية، أن هذه السمات والصفات لا زالت نادرة الوجود بيننا وإن إدّعينا العكس  أحياناً  أو حاولنا الايحاء به. 


حركة الشبيبة والرؤية النهضوية

فأن تحّب المطران بولس بندلي، وقد شاءت محبتكم أن تذكروه في أعمال هذا المؤتمر، يعني أن تقتني الوداعة الحقّة التي لا لبس فيها، واللطف والصدق مع الذات والاخرين ورحابة الآفاق الايمانية. أن تنفتح على الكلّ خطاباً وتوجّهاً لتجعل منهم حقلاً لشهادتك أيّاً كان موقعهم أو موقفهم منك. أن تثق بالجماعة وتحترم توجّهاتها، وتثق، أيضاً، باخلاص الآخر، فيها، وتستمع اليه. أن تتلطّف بضعفات الناس، صغاراً وكباراً، وتتفهّم أوضاعهم وحاجاتهم وتصلّي من أجلهم. أن تصير، حقيقة، إبناً لله محرَّراً من عبودية الشرائع والنواميس "فأنت لست بعدٌ بعبد"  فتربّي على محبة يسوع المسيح وعلى الحريّة فيه كما تربّيت أنت عليها.  تربّي على محبة المسيح لأنّك تحبّه وقد "أحبك أولاً". فتبني النفوس على ركيزة أن الصلاة ليست واجباً بل هي سعي، لا يتوقّف، الى عشرة المحبوب، وأن الصوم ليس تسليماً بشريعة وقانون بل هو سعي لازالة ما يعيق سكَنَ الاله فيك ويحجبه عنك، وأن اتباعك لقوانين ونظم كنسية فإنما هو لأنك قائم في المسيح ولشغفك بجعل حياتك، بوجوهها وكمالها، أكثر التصاقاً به. باختصار، يا أحبّة،  أن نحبّ بولس بندلي يعني، أولاً،  أن نعشق يسوع المسيح الذي يعشقنا "ويفتقد قلوبنا كما هي مكسورة وكما هي هشّة ويسكن في هذه الهشاشة" ونربيّ على عشقه لا أن نخافه ونربّي على القلق منه. أن نبحث أكثر وأكثر عن وجهه  وعن مزيد من معرفته في كلّ لحظة وحرف وكلمة ووجه ومأساة وفرح وإبداع، أيّا كان ميدانه، وموقع ومطلّ من مطلات الدنيا والناس،  وأن نلتصق بالفقر روحاً وجسداً فلا نطلب شيئاً لذواتنا بل نشرّعها حقلاً للعطاء  لقناعتنا الكيانية بأننا كلّما أعطينا كلّما كملنا. 

أيها الأخوة،

لأن هذه المفاهيم والرؤى مولودة من أصالة الرؤية الحركية، لا بل هي الرؤية الحركية بأصالتها، ولكونها تجمع معظم كبار الحركة اليها، فإنني أنظر الى هذه اللحظة كمفصل هامّ من مفاصل حياتنا الحركية. هي لحظة هامّة ليس بسبب القلق من أن نفتقد  حضور الأصالة الحركيـة ومعالمها فينا وبيننا كلّما انتقل عنّا كبيرٌ، فهذا أمر موضوعيّ ومشروع، بل بسبب حجم ما تدعو هذه اللحظة كلاً منّا الى أن يصير عليه. أن يصير هو وحده هذه الرؤية الحركية لتصير الرؤية هو،  تماماً كما أنّ كلاً منّا مدعوّ الى أن يصير هو الانجيل ويصير الانجيل هو.

ولهذا الطريق بداية واحدة، واحدة، هي أن نربّي شبابنا على معرفة الحركـة. أن نربّيهم على أن يبلعوا الفكر النهضوي الذي  أطلقه والتزمه وعاشه ونقله ونطق به المؤسسون ومن لاقاهم، فكر جورج خضر والبير لحام والياس مرقص وكوستي بندلي وجبرائيل سعادة وكلّ فكر حركيّ مسّطر في تراثنا المكتوب ليعيشوا، حينذاك، ما حمله تقليدنا الحركيّ بشكل حيّ . أن نربّي، أولاً، على تكثيف عشرتهم لهذا التراث في الكتب والأوراق والمؤتمرات الحركيـة ومجلة النور، وأن ندلّهم الى من عكست حياته هذا الفكر حياة  ليُتلمَذوا عليها. بهذا الطريق، فقط، سيعرف شبابنا ومسؤولونا الحركة التي لا يعرفها معظمهم.  وهنا أصارحكم أن حجم الجهل بالحركـة، الذي يسود  في فروعنا ومراكزنا، هو حجم مذهلٌ الى حدّ انّه يرميك دائماً في موقع المتساءل عمن يربّي من؟ وعلى ماذا نربيّ؟ وهل يعي مسؤولونا، حقيقة، ما هم منتمون اليه ؟ وهو حجم يبيّن لك سبب ما تشهده  وتعاينه من شطط تربوي وخلل وارشادي وانحراف في الممارسة الحركية الرعائية في بعض الأماكن.

قبل أن أتابع  أؤكّد لكم أنني لا أشكّك باخلاص أحد ولا أنكر وجوه القداسة التي تبرز  في حياة هذا  أو ذاك من الأخوة، وبهذا أفخر وأفرح وعليه أشكر ربّي كثيراً. غير  أن همّي أن أوضح لكم أن الانتماء الى الحركـة يعني الانتماء الى قناة لمعرفة يسوع المسيح وسلوك طريق الخلاص به. هذه القناة ينبثق منها قراءة خاصّة بها لسبل ووجوه ترجمة إيماننا الأرثوذكسي وتجسيد الكلمة في وجوه حياة الشخص والجماعة. قراءةً هي، بمنظارنا، قراءة الكنيسة، أنتجت فكراً  وتقليداً  وممارسة وهويّة  لا يمكن أن  يستقيم الانتماء الى الحركة بغير اقتنائها والالتزام بها. طبعاً هذا لا يعني أن القناة الحركية هي الوحيدة التي تصلك بالمسيح وبدرب الخلاص به لأن القنوات والمواهب في كنيسة الربّ تتعدّد. لكنّه يعني أن ما من أحد أيّا كان موقعه أو شأنه، بدءاً من الأمين العام ووصولاً الى أيّ من المسؤولين، يستطيع أن يُسأل في هذه الحركـة عن أمر ويربّي فيها ما لم يترسّخ أو يسعى الى التزامه، في رحاب يسوع المسيح، "بلاهوتها" هي وفكرها هي، وتقليدها هي، لا "بلاهوت" وفكر وممارسة أيّ كان مهما بلغ حبّه وعشقه والتزامه واخلاصه ليسوع المسيح. وإن فعل أحد فإنما يكون قد سمّي مسؤولاً أو مربّياً دون أن يصير، حقيقة، هذا المسؤول والمربّي الحركيّ لأنّه لم يُسحر بعد بهذا الفكر النهضوي ولم يتجلّى هذا الفكر فيه،  تماماً، وحسب قول معلّمنا المطران جورج، "كالكاهن الذي يُرسم ولا يصير كاهناً لأنّه لم يحترق داخلياً بالعشق الالهيّ بعد" .


التواصل والوحدة

بهذا المنظار، يا أحبّة، أتطّلع، اليوم، إلى الواقع الحركيّ وأعمل والأخوة في الأمانة العامّة بمنهجية هادفة للمساعدة والمساهمة في ايضاح الأمور واستقامتها حيثما هي غير واضحة ومستقيمة وفي دفع الحياة الحركية إلى الأمام وتنميتها في أصالة الرؤية حيث بذور هذه الأصالة مشهودة فيها. وفي هذا السياق نتطلّع الى كلّ الخطوات التي  أقدمت الأمانة العامة عليها، الى اليوم، من تأسيس الفرق المركزية بإمامة مرشدين مختبرين ومؤهّلين، الى لقاءات المرشدين والجامعيين والحلقة الدراسية حول الليتورجيا، الى اللقاء المركزي المخصًّص للاستماع الى أعضاء هذه الفرق المركزية والحوار معهم ومع بعض أبناء جيلهم حول هموم الشباب والالتزام الحركيّ والكنسيّ، الى تفعيل حضورنا الاعلامي على أصعدة التعليم، والبشارة، ونقل الحدث الحركيّ  بمستويات راقية مشهود لها، إلى المساعدة على اطلاق الهاجس الاعلامي في المراكز والفروع، الى تطوير الصفحة الالكترونية شكلاً ومضموناً لشدّ ما أمكن من الشباب اليها ولجعل بشارتنا وتراثنا ومعالم حياتنا الحركية في متناول الشباب بشكلّ أعمّ وأسهل وأسرع، الى توزيع "الخبر الحركي"  و"انجيل ورسالة وقديس اليوم" على أكثر من ألف وثلاثمئة عضو من أعضائنا عبر البريد الالكترونيّ، الى تأسيس المركز الثقافي الأرثوذكسي لتفعيل شهادتنا وحضورنا في المنتديات الثقافية والاجتماعية وتقديم الدراسات المطلوبة لأجل تطوير وجوه الخدمة في كنيستنا بالتعاون مع طاقات أرثوذكسية أخرى، الى المنتدى الفكري الاعلامي الذي، سنة بعد سنة، سيمدّ الطاقات الاعلامية والفكرية والثقافية في كنيستنا ومجتمعنا  بالفكر والوجوه والعناوين والقنوات  التي عبرها  نحمل يسوع المسيح في حياتنا والى العالم، الى تكثيف وجوه التواصل بين المراكز فيما بينها وبينها وبين الأمانة العامّة، نتطلّع الى كلّ هذه كخطوات مكمّلـة بعضها لبعض  نطلقها تلبية لحاجات حياتنا في الحركـة، اليوم، وفق تقييمنا لهذه الحياة وحاجاتها. هذا التقييم سبق ذكر بعضه في كلمتي هذه ومتفق عليـه فيما بيننا جميعاً من خلال تبنّي المؤتمرات الحركية الأخيرة وغير  الأخيرة لتقارير الأمناء العامّين.  

من هنا لا أرى سبباً أو أمراً محلّياً مقنعاً يبرّر غياب بعض المراكز عن الحضور  كما يجب وسط هذه الخطوات، خصوصاً إن تذكّرنـا ما رددناه ونردّده في كلّ مؤتمراتنا واجتماعاتنا ولقاءاتنا عن ضرورة ايلاء الأولويـة للعام على الخاص، أي أولوية  كلّ اجتماع ولقاء وحلقة ومؤتمر وتوجّه واهتمام أشمل وأعمّ على ذاك منه الأكثر محلّية. ودعوني أوضح لكم أمراً، أن غايتنا من تكثيف المبادرات واللقاءات والأنشطة في الأمانة العامّة، التي أشار اليها الأب رئيس المركز في تقريره، لا يهدف، بالتأكيد، الى تعطيل الحياة الحركية في المراكز والفروع وايجاد بدائل مركزية عنها. على العكس من ذلك إنه يهدف الى مدّ هذه الحياة بعناصر قوّة تساهم في تصحيح وجوه  الخلل فيها أقلّه لناحيـة وعي وتوضيح آفاق الانتماء الحركي وبُعده الأنطاكيّ وزرع بذور المدى الانطاكي في عقول وقلوب الحركيين ووعي أكثر وضوحاً لأهداف ومتطلّبات وآليات العمل الارشادي التي تخدم الغاية التربوية للحركة خصوصاً منها لناحيـة إبراز بُعد التلمذة في الارشاد وتنميته وتحرير الارشاد من  البُعد المدرسيّ الذي باتت وطأته ثقيلة وسلبية جداً على حياتنا الحركية وبات من واجب المراكز والفروع، كما الأمانة العامّة، الانطلاق في توجّه جدّي للتحرّر منه. هذا طبعاً دون أن أدّعي أن عناصر القوّة هذه محصورة في أطر الأمانة العامّة وقنواتها دون غيرها من الأطر الحركية المحلّية. لكنّ، لا أنكر أن الأمانة العامـة، إضافة الى كونها المسؤولة الأولى عن سلامة العمل الحركيّ واستقامته في أيّ مكان، فإن كونها الهيئة المعبّرة عن وحدة هذه الجماعة الانطاكيـة التي في رحابها تلتقي الخبرات الحركية من كلّ الأماكن لتتفاعل وتتغذّى، يُكسبها قدرة أكبر على مواجهة أي شطط وخلل في مسيرة الحركة وإمكان أن تشكّل مصدراً لعناصر قوة هذا العمل الحركي أينما كان. 

رجائي الشديد يا أحبّتي، وباختصار، أن تعوا أن الانتماء الى الحركـة هو انتماء الى مسيرة تنطلق من يسوع المسيح لتنتهي اليه. ولكونها مسيرة مدفوعة بالشوق والحبّ فقط فإنها تكتسب الحلّة الأجمل والأبهى والأرقى والأرحب. رجائي واحد وهو أن يتألّق هذا الفكر الحركيّ السليم ويبرز أكثر فاكثر في هذا المركز، وأن لا تغيب عنه الوحدة والتفاعل بين كلّ الوزنات القائمة فيه وأن نكون أكثر  انفتاحاً وتأثيراً في محيطنا الرعائي والشبابي والاجتماعي وأكثر جرأة وشفافيـة في معالجة ما يبرز لدينا من سقطات وضعفات وألا نلهو بالمقارنة والفخر بانجازاتنا إن كنّا نؤمن، حقيقة، أنها انجازات الربّ  من خلالنا. علّنا من خلال حياتنا وصفاتنا نشدّ الشباب المتغرّب عن المسيح يسوع الى حيث الخلاص، الى حياة الكنيسة، ونعكس للناس أن الحركة هي، بحقّ، مسيرة تلاميذ السيد.

 

المشاركات الشائعة