تقرير الأمين العام - المؤتمر الحركيّ 2009

رينيه أنطون - المؤتمر 41


أيها الأحبة،

وأنا أنبضُ بالفرح الذي يعمّ قلوبَنا كلما جمعنا الربّ وجهاً الى وجه، أشكر لله إنه جمعنا معاً في هذه الواحة الحركية التي، فيها، نُبنى ونتشارك البناء على الأساس الواحد يسوع المسيح. وأمجدّ إلهَنا، كل حين، على هذه الحركة القائمة فيكم وبكم، حركة محبّة الآب في الأبناء وحركة الأبناء في محبّة الآب، شاخصاً الى ما يُقيمنا، أبداً، جماعةً في المسيح ناهضةً إليه، ساعيةً الى كنيسةٍ مأخوذةٍ بجماله وعالمٍ مضاءٍ بنوره. وباتكّال، لامتناه، على محبة مسيحنا أخوض في ما شئت أن أتشارك به  معكـم حول ما يخصّ كنيستنا وحركتنا، أيّ حول ما يعني كلّ  واحد منّا، دماً وروحاً وقد "أعطي نصيبه من النعمة على مقدار هبة المسيح" (أفسس: 4 :7).

 أيها الاخوة، شئت ألا أحمّل تقريري الى مؤتمرنا وجهاً إحصائياً تنفيذياً. وهذا ليس بداعي التقليل من أهميّة هذا الأمر بل لأسباب عدة. أولّها أنه بات، والحمدلله،  بمقدور كلّ منكم الاطلاع حين يشاء، عبر قنواتنا الاعلامية، على كلّ ما أقدمنا عليه من خطوات خلال هذا العام تلبيةً لحاجات حياتنا الحركية. ثانيها لأن اجتماعات الأمانة العامّة واكبت مُعظم هذه الخطوات. ثالثها وأهمّها كي أفسح بعض المجال لأولوية تفرض ذاتها علينا اليوم وهي أن نقرأ، بعمقٍ، في معالم الفترة الحسّاسة والمفصلية التي نمرّ فيها، في كنيستنا وحركتنا، ونتوجّه، أولاً، نحو ما تقتضيه منّا.


المطران الياس قربان

 وبدءاً من هذه الأولوية، ولكون الموضوع لا ينفصل عن هذا الشأن، ووفاءً لراعٍ أعطانا الكثير، أبدأ متأمّلاً في ذكرى المطران الياس قربان الذي إستأثر الله به، مؤخّراً، ليُقيمه في حضن إبراهيم. لقد انتمى الراحل الى كوكبة جمع بين أعضائها محبّتهم الصادقة ليسوع المسيح التي قادتهم الى التحلّي بوداعة القلب والثقة بما تُثمره حرية الأبناء ومواهبهم وفعل الروح القدس فيهم. لهذا اندفع المطران الياس الى رعاية حركتنا حتّى أقصى حدود الرعاية. دافع عنّا وحضر معنا ووثق بنا وبتربيتنا، وتقبّل ضعفاتنا وانفعالاتنا بصمت المُحبّ، ومنحنا حريّة البشارة والشهادة والمبادرة. ولهذا سيبقى في ضميرنا أحد الكبار الذين ترعرعنا ونمونا في فسحات حبّهم وعطائهم لكنيسة المسيح. كما أراها مناسبةً لأسجد للروح القدس شاكراً له أنّه ألهم مجمعَنا الأنطاكي المقدّس حين عاينّا الأب والمعلّم أفرام كرياكوس راعياً لأبرشية طرابلس. وإذ نذكر مساهمة سيادة هذا الأسقف الحبيب في تثبيت الكثيرين منّا في محبّة المسيح والتزامه أسأل الله أن يمّن عليه بالقوّة ومديد الأعوام ليصير بكنيسة الله في هذه المحلّة أقرب الى نقاوة سيّدها وينثر عُطر الكلمة الالهية في الشباب ويرعى مسار حياتهم ويقودهم، مع إخوته الرعاة، في سعيهم الى تتميم مشيئة الله في حياتهم وكنيسته.


كبــارنا

 منذ نحو سبعين سنة  أنعم الله على إنطاكية بهذه الحركة التي تربّى فيها، الى يومنا هذا، آلاف الشباب على حبّ يسوع المسيح وكنيسته ونموا في هذا الحبّ. وقد لُحِظ من هؤلاء نُخبٌ استحال كلّ من أعضائها قامة نهضوية تمتلك بمفردها، وأيّاً كانت وجوه تكريسها، فرادةً وقدرةً على التأثير والتعليم والتربية على أصالة الايمان وتحصين الكنيسة والحركة في وجه ما قد يعصف بهما. وشاءت محبّة الله وإرادته، في كنيسته، أن تكون، أيضاً، مواهب بعض هؤلاء وقدراتهم في خدمة كنيسة المسيح وهم في الموقع الأفعل فيها، فاتّجه هذا البعض إلى التكريس الإكليريكي والرهبانيّ وكان منه من تربّع على عرش الأسقفية. وأيّا كان تقويم كلّ منّا لما استطاع هذا أو ذاك منهم إنجازه، وأيّاً كان تقويمنا، كجماعة، للفترة التي قاد فيها بعضهم حياتنا الكنسية، أو ما زال يقودها، قياساً إلى مرجوّاتنا النهضوية، فإن مما لا شكّ فيه أن زمننا الكنسيّ والحركي قد خُتم، إلى اليوم، بسمات هذه النُخب وآثارها، وتنعّم بما أرخت في ظلاله من دعمٍ وضمانٍ لاستقامة المسيرة وأمانتها للربّ. 

 وإن شئت أن أذكّر ببعض هذه السمات، اليوم، فليس بهدف تمجيد الأشخاص بل للتأكيد على حاجتنا إليها وإلى أن نجدّ في التربية عليها. هذا إن شئنا أن نتلافى مستقبلاً مقلقاً لكنيستنا وحركتنا، خصوصاً وأن معالم ما يقلق، في هذا المستقبل، بدأت تطلّ في حياة كنيستنا. ما ميّز هؤلاء القادة واستحال بهم مُثلاً هو أنهّم  أحبّوا المسيح حبّاً كبيراً سعى بهم نحو أن يُخلوا ذاتهم من الأنا ليسودها وحده. فسلكوا درب التكريس كخيار خلاصيّ عُشقيّ للربّ منزّهٍ عن الأهواء والحاجات الخاصّة. ودافعوا عن الحقّ في الكنيسة إرضاءً ليسوع المسيح وحده وبجرأة الزاهد بكل وجوه الدنيا فيها دون حساب لأمرٍ أو أحد. ولم يسلكوا في سعيهم الى بناء النفوس طريق "حكمة العالم" بما تقتضيه من خدمة للذات وتقنينٍ للروح والمواهب في الآخرين بل ما يجسّد قول الرسول "حيث روح الربّ هناك حريّة" (2كو 3 : 17) ويخدم الخلاص وينشر روح الفداء في الجماعة لئلاّ "يفقد موت المسيح على الصليب قوّته" (1كو: 1 – 17). وانكبّوا على المعرفة والثقافة بدافع التزامهم الايمانيّ وبغاية زرع الروح الالهي في اهتمامات العالم وهموم الناس  دون أن يحتقروا هذه الاهتمامات ويترفّعوا عن الهموم. ما ميّزهم بيننا أنهم حصروا ذواتهم في إنجيل الربّ دون أن يحصروا الله بهم. فوعوا، بهذا، أن المسيح "كلّ في الكلّ" وسعوا  إليه في كلّ وجهٍ حيّ ووجهِ حياة.


المشهد الكنسيّ الرعائيّ

أيها الأخوة، إن تحدّثت في أهمية المرحلة الكنسية التي نعيش ونظرت إليها كفترة  مفصلية فذلك ليقيني أن هذه السمات و تأثيراتها بدأت تشحّ في حياتنا الكنسية ما قد يُعرّضنا، مستقبلاً، إلى تداعيات افتقادها الكبيرة. هذا ما لم يفتقدنا الله قبلاً، نحن الحركيين، بيقظة وعيٍ ومسؤولية. لا أوحي، بهذا، أن ما يؤلم في حياتنا الكنسية يعود سببه، بالضرورة، الى ضعف الجِدّة التي قد تكون سائدة في بعض وجوه حياتنا الحركية. فما يسود في المشهد الكنسيّ من محاباة تُهمل الدفاع عن الحقّ، وإختلافات سبب معظمها الحاجات الخاصّة، وإهمال رعائيّ وإغفال للهمّ البشاري ، وجمود لا يليق بكنيسة المسيح، وتهميش لمشاركة الطاقات الممارِسة في هموم كنيستها، واستهتار بالقوانين، وضعف تطابق القول والفعل، وسلوك مشكّك للناس، وإهتمام جارحٍ لضمير الكنيسة بالأغنياء والنافذين، وإهمال مُلفت للفقراء والمساكين، فإنّما يدلّ إلى أن نُدرة من المُختصّين بهذا المشهد تحبّ يسوع المسيح ليكون، ذلك، سبباً أساس لكلّ ما يقلق في عائلة الله. لكنّني أشير الى مسؤوليتنا الكبيرة عن النهوض بهذا الواقع والتي تنبع، أولاً، من كوننا أعضاء هذا الجسد، وممّا للنهوض الحركيّ من تأثير إيجابيّ في حياة كنيستنا ودور أساسيّ في تحصينها بيسوع المسيح. ويكفي لتأكيد هذا التأثير أن ألفت إلى أن كلّما عكست حياة الحركة الأمانة "للمحبّة الأولى" ووجوه النهضة الحقّ كلّما استحلنا، بحقّ، حالة نبوية يصعب أن يتخطّى تأثيرها أحد، ورحِماً يَلِدُ، مِن مُلتزميّ يسوع المسيح الذين على قلب الله، من يستحيل على أحد تجاهلهم في اختياره للقادة والرعاة الجدد.


حياتنا الحركيّة ورؤيتنا

 لذلك، ومناشدةً للربّ أن يمنّ علينا بهذا الافتقاد، أبدأ بمصارحة واجبة للذات وبعضنا لبعض. فأقول أن ليس مقبولاً أن نقف أمام ما تفرضه طبيعة الحياة وقوانينها من رحيل هذا من القادة أو تآكل السنين كمن يقف على أطلال أمجاد التاريخ والآباء. وليس مقبولاً، البتّة، أن نتطلّع الى "زمن الكبار" في الكنيسة وكأنّه حلمٌ ولّى أو حُكرٌ على جيل ومرحلة. فكلٌ من شبابنا، ومنّا، فيه من البذور الالهية ما يصير به كبيراً في الايمان والخدمة والتربية والتأثير إن جهدَ في تنمية هذه البذور والتزم ما يغذّيها وتربّى على كلمة الله. كما أن الاستسلام للصعوبات في  جهادنا والتراخي في مواجهتها هو من وجوه عبودية الخطيئة التي حرّرنا منها الربّ حين جعلنا أبناء. لقد بات من أحد وجوه ثقتنا بالله ومحبّته وتقبّلنا لإرادته في كنيسته، اليوم، أن نبحث مليّاً في أسباب قصورنا، حتى اللحظة، عن بناء ما يكفي من قاماتٍ إيمانيةٍ نهضويةٍ جديدة ضامنة لمستقبل المسيرة وأمانتها. أيّ في ما يساعد على أن يصير كلٌّ منّا متجدّداً بأصالة هذه الحركة أهلاً، وحده، لأن "يحفظ الوديعة". هي مسؤوليتُنا، نحن الحركيين، لا مسؤولية سوانا، أن نستحيل بالمرحلة الآتية امتداداً لتاريخنا النهضوي ووريثة له لائقةً به. وهذا لن يتمّ بغير أن نفتدي الوقت، لأن "الأيام شرّيرة"، ونسارع الى يقظة تضعنا في الطريق إلى أن نتربّى ونربّي على يسوع المسيح بجدّية وفاعلية كبرى. أمّا إن تعاطينا مع هذه المرحلة بما اعتدنا عليه، بعض الأحيان، من ارتخاء وتلهٍّ بما هو دون قامة النهضة فسنكون كمن له آذان لا تسمع  صوت الله وعيون لا تُبصر علاماته. وهذا ما أراه سُيضعف فعل الروح فينا ويشلّ مناعتنا لتعصف بنا محاولات استهداف وحدتنا الأنطاكية وتهميشنا عن الصعدُ والشرائح الرعائية وإبطال تأثيرنا وفاعليتنا فيها وتقنيننا في خدمة أهواء سلطويّة في الكنيسة. فتنتفي عنّا، حينها، هويّـتنا كحركة إنطاكية واحدة تحتضن أبناءً، أحراراً بالله، يمدّون المحبّة والشهادة والنور في كنيستهم وعالمهم وهم محمولون في ضمير الرعاة والجماعة.

هذا كلّه يرمينا، اليوم، في همّ واحد هو أن نستنهض ذواتنا الى ما ارتجته الرؤية الحركية. وآمِنوا أن ليس من سبيل الى هذا بغير أن نعرف رؤيتنا، التي سطّرتها مبادؤنا وشرحُها والتي يجهلها كثيرون منّا، حقّ المعرفة، ونقوّم ما يتعلّق بارشادنا وتربيتنا أسلوباً ومضموناً وأُطراً وقيّمين. وبالطبع هذا كلّه حيث تقتضي الحاجة. إذ لم يعد مقبولاً، البتّة، ما نشهده، في هذه الأماكن، من تعايش مع نوعية حضور هشّة وتكيّف مع هذه الهشاشة باسم الاخلاص للحركة والمحافظة على حضورها واستمراره بأيّ شكل كان. ولم يعد يصبّ في خدمتنا بشيء أن يجهل بعض المسؤولين الحركيين ما تعنيه المسؤولية الحركية وما نحن، حقّاً، به مكلّفون. مهمّتنا، كمسؤولين، هي أن نقود الحياة الحركيـة الى حيث يجب أن تكون، أي الى عيش الله وكنيسته ارتكازاً الى المفاهيم النهضوية التي انطلقت مع انطلاقة الحركة وتأصّلت في تقليد الحركة وتراثها، لا أن ندير الضعفات في هذه الحياة ونجاريها بالسير نحو ما يقودنا إليه الواقع. إذ لا يملك مسؤولٌ منّا، أيّاً كان موقعه الحركيّ، الحقّ بأن يكيّف الحركة وأهدافها كما يشاء لأن الله، صاحب الشأن الوحيد في كنيسته وحركته، قد كلّفه، عبر تكليف الجماعة له، بتأصيل نور كلمته، الذي سكبه في المؤسّسين، في نفوس شبابنا اليوم واهباً إيّاه حرّية المبادرة والابداع لتحقيق هذه الغاية دون حرّية العجز عن تحقيقها.

لهذا إن شئنا الاخلاص للحركة، اليوم، فلا بدّ من أن يتخّذ إخلاصنا منحاً مختلفاً عمّا ربّما يكون عليه هنا أو هناك. فإن كنّا نشكو، في أماكن عدّة، غربة شرائح حركية عن الكتاب المقدّس، وقد قال فيه المطران جورج خضر مؤخّراً  "أن لا نهضة ولا من يحزنون من دون معرفته والانكباب على دراسته"، ومن ضعف التزامها الصلوات اليومية وممارستها لسرّ التوبة خصوصاً. وإن كنّا نشكو جهل هذه الشرائح بالحركـة وتراثها وفكرها ووجوه التزامها الحقّ وبهتان الفكر الايماني لديها وتجرّده من الآفاق الشهادية . وإن كنّا نفتقد إلى الجماعة الحركيـة التي تحكم العلاقة بين أعضائها المحبّة الانجيلية والثقة والطاعة وتحيا في شركة الأخوة. وإن كنّا نحنّ، هنا أو هناك، الى علاقة مُجسّدة للوحدة بين أخ وأخ وفرع وفرع وفرع ومركز ونعاني تحزّباً لأشخاص وانفتاحاً فارغاً أو انغلاقاً مُحدِّا، فصدّقوا أن هذا مرجعه أننا سارعنا، حفاظاً على شكل وجود، للمساومة على الأساس الذي يسير بالفرقة الحركية إلى أن تكون على ما قاله عنها تراثنا أيّ وحدة دراسة وعيش وشهادة وصلاة. وهذا الأساس هو المرشد المُختبر المحبّ ليسوع المسيح الملتزم شأن كنيسته والمؤثّر والخلاّق بسبب محبّته الكبيرة. ومرجعه، أيضاً، أننا ساومنا على مكانة تراثنا الحركيّ لدى معظم المعنيين بشؤون التربية والارشاد والقيادات الحركيّة المحلّية. وبالتالي نكون قد ساومنا على حضوره في فكر أعضائنا وحياتهم. 

هذا ما يتطلّب منّا الاقرار بأن كلّ الجهود التي بُذلت والبدائل، من هذا المرشد، التي عُمل بها عقوداً لم تؤدّ بنا الى حيث نشتهي لا بل أفقدتنا، اكثر فأكثر، مُختبَراً لعشرة الله، بكلّ وجوهها، وللتراث النهضوي في آن، بانياً للنفوس ومربّياً لها، وهو الفرقة الحركية الحيّة. كما أفقد هذا الوضع مطلاتنا الحركية الأخرى، تعليمية كانت أم نشاطاتية أم شهادية، ميزتها كوعاء يمتصّ ما في العاملين فيه من غذاء نهضوي وانحرف بها الى مُلهٍّ عن هذا الغذاء وأحياناً بديلاً منه. وهذا ما ألبسها الوجه الجمعياتي والكشفي والأندياتي الاجتماعي ووضعنا، في أعين الكثيرين، مزاحمين للجمعيات والهيئات الأخرى وإزائها. هذا في حين أن مسعانا هو لأن نكون  ملحاً إنجيلياً في قلب ما يخصّ الكنيسة والشهادة من هذه الهيئات.


الارشاد والتربية

من هنا أدعو الى إعادة الوزن في حياة الحركة للعملية الارشادية بحيث لا يقوم إرشاد من دون أن يقوده مؤهّلٌ، ايّاً كانت أوضاعنا والظروف. وهذا يقودنا الى ضرورة أن نتحلّى بجرأة تخطّي العوائق من حدود حركية داخلية وتقليدية وتعامل، بقدسية، مع الموروث خصوصاً إن بُني هذا الموروث على كونه وسيلةً لا غايةً. فكلّ ما في الحركة من فرق وأسر ومجالس وفروع، وكلّ ما اختبرته الحركة وسعت إليه، إنّما وجد لبناء الشخص في التزام المسيح ووحدة الجماعة وتفعيل الشهادة، وكلّ تسخير لهذه الغاية أو تقزيم لها أو تخلّ عنها، خدمة لهذه الوسائل، هو وجه من وجوه العبث بتاريخنا. 

لا يكفي ارتكازنا الارشادي الى الشخص ومؤهّلاته ليعفينا من خطوات مكمّلة، لا تقلّ أهميّةً، لنلامس تربية أكثر تأثيراً في الأشخاص وفاعلية. فحاجتنا، أيضاً، هي إلى أن نُعيد بناء تربيتنا تأسيساً على صدقية المربّي في تعاطيه مع الوجوه التي يربّي عليها، وعجنها بهموم شبابنا اليوم واهتماماته. بمعنى عناية تربيتنا بما يحسّس شبابنا بقرب المسيح منهم وعنايته بوجوه حياتهم وبما يكشف حضوره في هذه الوجوه أياً كان بُعدها أو قربها من المفاهيم التي نقلها إليهم التعليم الدينيّ التقليديّ. ولنا على هذا الصعيد أساس رحِب يُرتكز إليه  هو مؤلّفات الأخ الدكتور كوستي بندلي التي أرى، بألم شديد، أنها لم تتخّذ أيضاً مكانتها في هواجسنا التربوية. ولا أخفي عنكم كم أجد صعوبة في أن تُحقّق تربيةٌ لنا أهدافها الحقيقية مع جهل مربّينا بهذه المؤلّفات، أو تجاهلها، وإهمالهم الاغتذاء منها. كما أرى ضرورة السعي للأستفادة من سائر القدرات والعلوم التربوية وما تحمله من مُعطيات وسُبل لجعل تأثير التربية أكثر رسوخاً في الأشخاص. وقد يسهّل علينا هذا تقييم مسلكنا التربوي وأهدافه، على مرّ سنيّ الحركة للبناء، مجدّداً، على أساس ما طُبع فيه من إنجازات ومعالجة ما اعتراه من خللٍ والاستحالة به أكثر استيعاباً لمقتضيات البشارة والشهادة اليوم بما فيها من ضرورة التربية على حريّة الفكر الايمانيّ والانفتاح والاطّلاع الثقافيّ والمعرفيّ. 

فقد لا يُرضي الله يا احبة، بعد ما كشفه لنا في هذه الحركة وعبرها، أن تقتصر محبّتنا له على وجوه العبادة والتحلّي ببعض الفضائل دون أن نكون الرسل المؤهّلين لمدّ هذه المحبّة في النفوس والفسحات الأخرى القريبة منّا. فنحن لا نصبو، في وسطنا، إلى الحريّة الفكرية للتفلّت من مُقتضيات الالتزام بمسار الخلاص في المسيح بل استدراراً لكشف المزيد عن الحقيقة الالهية ترسيخاً للكلّ في هذا المسار ودعوة لهم إليه. ولا ننظر إلى الانفتاح، الذي يقودنا الى ملاقاة الآخر عند حدود موهبته وهوّيته وقناعاته، كغاية بحدّ ذاته، بل كسمةٍ  دونها لا تصّح لنا بشارة. ففاعلية بشارتنا ترتبط بصدقيتها، وصدقيتنا البشارية لا تنجلي للآخر ما لم يختبرنا حالةً ساعية لخلاصها وخلاصه لا حالة مزاحمة له ومنغلقةٍ إزاءه. ولا يعنينا الاطلاع المعرفي والثقافي كسعي نخبويّ  بل كطريق لاستكشاف أثر مسيحنا في تألّق الفكر الانساني وإنجازاته ومواكبة مسار هذا الفكر لنخاطب العالم بيسوع المسيح منطلقين من توجّهاته وما يعنيه لتكون شهادتنا أفعل. فلا يفهمّن أحد أن في هذا التوجّه تقليلاً من شأن التزام الحياة الكنسية بكلّ وجوهها. لأن هذا الالتزام، في توثّبنا النهضوي، هو المدخل المُلزم لاكتساب الهويّة النهضوية والأهلية الشهادية والضابط الأوحد لاستقامة كلّ حضور شهاديّ في خدمة مجد إلهنا فقط.

 يا أحبة، إن صيغت هذه الهواجس بالصيغة التي تجمعنا فلأنها وُلدت مما خبرناه سويّةً. فأرجو ألا يُنظر إليها كرأي شخصيّ بل كهمّ أساسيّ للجماعة خصوصاً أنها، أيضاً، وإستناداً الى ما خبرناه وما قد تحمله لنا المرحلة القادمة، أمست الشرايين التي تمدّ، اليوم، نهضتنا بالحياة. وهي، كذلك، الآفاق التي منها وُلدت الخطوات التي أقدمنا عليها أو استمرّينا بها، في الأمانة العامة، والتي أرجو أن تُصقَل وتستمرّ مع الأمانة العامّة الجديدة. فخبرة الفرق المركزية، واللقاءات والحلقات الارشادية، والخطوات الاعلامية، ومجلة النور، ولقاءات الأسر، واللقاءات الثقافية التمهيديّة للحلقة الدراسية والحلقات الدراسية والفكرية، ومشاركتنا في المركز الثقافي الأرثوذكسي، وإطلالاتنا الاجتماعية عبر مشروع التبنّي المدرسي ومكتب التوظيف والعمل في السجون، والمواكبة الارشادية والبشارية للعمل في الجنوب اللبناني وإطلالاتنا المسكونية، كلّها خطوات سعينا إليها، على تواضعها، لتتكامل، دون تمييز بين واحدة وأخرى، في خدمة الهموم التي مرّ ذكرها. 

ويبقى، قبل أن أختم ببعض التوصيات العملية من وحي هذا التقرير، أن أشكر لله  ما كشفه لي شخصياً، في هذه الحركة، من حبّ وجهد وبذل وإخلاص لدى الأخوة. وأشكر له خصوصاً أنكم أحطتموني بمحبتكم التي لا أستحقّها طيلة فترة مسؤوليتي، والتي حملتني لأستريح الى  لطفه بي. فكان، من خلالها، المعين والسند في لحظات ضعفي الكثيرة. وأذكر، ختاماً، وجوه الآباء والأخوة الذين رعوني وساعدوني وشاركوني في الخدمة والهمّ ومنهم سيّدي ومعلّمي المطران جورج خضر والأمناء العامّين السابقين ورؤساء المراكز وأعضاء الأمانة العامّة والكثيرين منكم، سائلاً ربّي أن يحفظكم، جميعاً، ومع كلّ أخ وأخت، في نوره ليعاين الناس في كنيسة إنطاكية العظمى مجده فيكم أبداً.

 

المشاركات الشائعة