تمهيد - كتاب العظة الحيّة

رينيه أنطون  اذار 2023 


لماذا هذا الكتاب غيُر المألوف؟ لأنّ غريبًا مرّ بنا كغريب الانجيل، وكانَ غيرَ مألوف. حملت حكاياته من ومضات السماء ونكهات القداسة ما يدلّ على افتقادٍ الهيّ شعَّ في عصرنا. فخُطَّت هذه الشهادات، وجُمِعَت، ليبقى عطرُ القداسة الذي في هذا الغريب فائحًا حيث لفحَ، بعبوره، يومًا النفوس. والأمر ليس لأجله هوَ، ليس لأجل المطران بولس بندلي، وإنمّا لأجل الكنيسة وأبنائها الحائرين المتسائلين عمّا من الإنجيل يُعاش فيها، وفي العالم، اليوم. الأمر لأجل أن نُشفى من تساؤلاتنا ويفيض فينا الرجاء ويذوق كلّ منا حلاوة الرسالة وإشراقة الخلاص. فالأسقف، الذي عبرَ أمامنا بجمال الرّبّ ووداعته وحنانه ومحبّته ورحمته، سبقَ وانصهرَ بما صار به ابنًا لا يخصّ الأرض؛ بما صار به وجهًا، في قصّة إلهٍ وصليبٍ من حبّ، لا يألفه التراب؛ لا بل سبق وانصهر بما صار به صوتًا، لحنًا، يَطرب له الفقراء، معزوفًا بأنامل ملاكٍ على أوتار الإنجيل.

فمَن هم كبولس بندلي لا تزيدهم كلمات ولا يُحَدُّ عبورهم بأزمنة ولا يُختَصر إرثهم بشهادات. فالدرّة الإلهيّة فيهم - المحبّة المَصُوغَةُ بصرخة سيّدهم على الصليب - التي مسحَت دموعًا وبلسمت جراحًا وأضاءت ظلماتِ نفوسٍ وقلوبٍ وعقول، تتناسل في حضور المصلوبِ، رحمِها، في الكون لتعشعشَ في ما تلده الأزمنة من أجيالٍ وتُومِض، من جديدٍ، في وجوه. مَن هم كبولس بندلي عشاقٌ في الأرض لسُكْنَى السماء، يخصّون واحدًا وحسب، وُجدوا ليَفرغوا من كلّ ما للتراب، ويُملأوا بما يخصّ الألوهة، ليذوق الناس بهم حبّه على الصليب، ويخلصوا. هم بذور الفداء المتناثرة في الأرض لتنبت وتخيّم إلى أن يعمّ الحبّ الدنيا، فيقرب الملكوت.

لذلك، هذه الكلمات لا تشهد لرسول بل لمحبّة إلهٍ في رسول. تحكيها، تخبر أنّ الِانجيل يُحمَل في أيّ منّا إن شاء. تقول أنّ ليسَ شرطًا أن تتوحّدَ وذاتكَ لتختصَّ بالله وتخلص. وليسَ شرطًا ألّا تأكل وتشرب وتجوع وتعطش وتغضب وتنفعل وتفرح وتحزن وتشتهي ليرتاح الكتاب فيك، أي ليسَ شرطًا ألّا تكون بشريًّا لتكون سماويًّا، على"مثال السماويّ"، هنا، ودونَ أن تكون مِن هنا. مَن خطَّ هذه الحكايات، لا بل صاحب هذه الحكايات، يُخبرنا، عبرها، أنَ الشرطَ لتكون رسولَ سيّدك في الدنيا، أيًّا كنتَ وأينما كنتَ، هو أن تُصدّق وعدَه وتثقَ بإنجيله، فتُسلِّم يومكَ وغدكَ لمشيئته مهتديًا بعقلكَ المُعَمَّد به ومتّكلًا على سعةِ رحمته، وأنّ الشرطَ لتكون خادمه أن تكون واحدًا و"وحدةًفي الايمان به.

في هذه "النوادرنعاين بولس بندلي على هذه الثقة حتّى صارَ كائنًا انجيليًّا تخفت فيه الضعفات ويتظهّر مكانها بعضٌ من سمات الربّ يسوع. وتراه على هذه "الوحدة". فهوَ أينما حضرَ، في حكايات الحياة، وكيفما خَطَا، مرشدًا أو معلّمًا أو أستاذًا جامعيًّا أو مديرًا أو كاهنًا أو أسقفًا، هو، في آن، مصلٍّ ومجاهِد وراعٍ وحاضِنٌ ومفتقِد وشاهد ومتخلٍّ وفقيرٌ ووديعٌ ولطيفٌ ورحومٌ، هو مُتوَّجٌ دائمًا، كمعلّمه، بالشوك. لقد كانَ هذه معًا، وكانَ كلًا منها بشدّةٍ. وهي الشدّة التي تُبرِز صدارة حضور الإنجيل فيه وتُشعِرُكَ أنّك، إن جاورتَه، لا تُجاوِرُ غير ظلّ المسيح فيه.

هو الظلّ الذي خمّر الرجل، يوم كان يجول بيننا، بما أغضبَنا وأثار انفعالاتنا من اللّامألوف. غضبٌ لم يواجهه بولس بندلي مرّةً بغير طأطأة رأس وغمضة عينين كنّا نظنّهما طاعةً لنا، في حينِ أنهما كانا انحناءً صلاتيًّا منه لسيّده، وتضرّعًا صامتًا، كي تكبر بذرة الرجاء وتغلب كلّ ضعفٍ فينا.

يومها كانَ الراعي، الذي يعرف خرافه، يُدرك أنّنا لم نمتلك من البنوّة ما يكفي لنثق بأنّ المحبّةَ التي فيه ليست منه بل من الذي يُحيي ولا يُميت، وبأنّ، بها، يصير جسده يغتذي من التعب في رعاية الناس وعطشه يُروى من التعرّق، أنَّ بها تصير ثروته تتضاعف بالعطاء وأملاكه تفيض بالتخلّي، أنَّ بها تصير أعمدة مؤسّساته ترتكز إلى صلوات الودعاء وأبنيتها تعلو بفلوس الأرامل، أنَّ بها تصير إدارته تُنجِز وتتألّق، الى العِلم فيها، بالاحتضان والتفهّم والطراوة واللّين. وكانَ، كلّما بقينا على ضعف ثقتنا بقدرة الله وعجائبه، يتشبّث بطأطأة الرأس، إلى أن زاد الله على أقماره قمرًا وعلى قدّيسيه قدّيسًا.

حينها زالت الغشاوة عن عيوننا وكُشِف لنا المزيد من هذا اللّامألوف. ضياءُ السماء يفترش وجهًا. إمرأةٌ تفترش قبرَ الوجه لتُقيم مراسم صلاتها غسلًا لسطحه بالدموع ومسحًا له باليدين. فقيرٌ، من غير دينٍ، يجعل من بيتِ الوجهِ، الرحوم، حائطَ مبكاه ودعائه اليوميّ. وشبّانٌ وشابّاتٌ يتسامرون في سهراتهم، ويسكرون، بنوادر عصفِ الروح في أسقف. حينها كُشف لنا أننا كنّا في حضرة وجهِ راعٍ نومُه ترحال وصلاة، علمه تبشير، حياته خدمة، ماله للفقراء، سريره من صخر المغارة، حلمه الوداعة، تعليمه دمٌ وماء، ولا عشق فيه لغير مسيحه. فكانَ أن صار هذا، في عيوننا،َ جمالًا ساحرًا عرّى بشاعةَ ما نحن عليه من "مألوف"، فوُلدَ هذا الكتاب اعتذارًا من بولس بندلي، وإفراحًا له بشغفٍ، يترسّخ فينا، بإلهٍ مصلوبٍ، وكتابٍ، غيرِ مألوف.

 

المشاركات الشائعة