بولس بندلي الحكايات

رينيه أنطون

مجلّة النور- العدد الأوّل 2020

                                                                             

مررت لأتبارك من حيث يرقد. كنتُ أجهل أنّ مشهدًا سيُغيّر لغة صلاتي. أسابيعٌ قليلة كانت قد مضت على انتقاله. الكنيسة الصغيرة، محطّ لقائه والرسل، تمتلئ زهورًا وتزهو بالرفات. سيّدةٌ، حاملةُ دمعٍ في العقد السادس من العمر،كانت هناك. تفترش أرضَ الكنيسة، تزرعها بالقُبَل، تحوطُها باليدين سعيًا الى حصد البركات وتُدفق على الجسد، الممدّد تحتها، ما يسيل من أسى العينين.

أحاط بي صمتٌ أطبق الشفاه واستحال المشهدُ بالعيون ناطقَةَ صلاة. صارت الصلاة هناك إبحارًا في حكاياتٍ شبكت غريبًا بقومٍ ما اشتهوا، يومًا، غيرَ الخبز فرحًا. صارت التمتمة والله غَوصًا في رواياتٍ خُطَّت بخربشة فقراء، وغُلِّفَت بانزواء مهمَّشٍين حزنًا على رحيلِ راعٍ رحيم. احتجب التضرّع وحضر التأمّل، تأملٌ بأمسٍ كان كاهنٌ، فيه، يتأبّط مفكّرةً لا تواريخ فيها غيرَ وجوه، ولا ارتباطات غيرَ بكلمةٍ يُحيي.كاهنٌ يحمل جسدًا منَ التعبِ يغتذي، ومن العرقِ يرتوي.

في ذلك الأمس،كثيرًا ما أعجزَتنا، ونحن فتية، بعضُ آيات الكتاب. منها؛ "أنتم في العالم ولستم من العالم"، كنّا نتساءلَ كيف؟ ما اللغة هذه التي يحاكي الله فيها مراهقينَ في الإيمان. كنّا صبيةً لا نبلغ الرشد، ولا نعرف هويّة ولا نرتقي فهمًا.لم يُكشف لنا القصدُ "أنكم منّي تأتون الى العالم" لأننا لم نكن نحاكي السماء.كانَ يفوتنا، ونحن نُبحِر في حروف الانجيل مزهوّين بالعقل والقلم، أنَّ حروفه إنّما بالدم كُتِبت، ولا سبيل الى فهمَها غير الفرحِ بحبٍّ متخلٍّ وإن بدا لنا نزفًا وألم. 

وسط جهلنا، حطَّ بولس بندلي بيننا معلّمًا غريبًا. أُرسِلَ لرفعِنا إلى الفهم. تجلّى أمامنا  تلك الحروفِ الصعبة، تنطق وتنبض شرحًا لذاتها بالريشة التي بها كُتِبَت، بما بدا لنا نزفًا وألم. حاولَ أن يُسِرَّ لنا بالسرّ، والسرُّ هو القديسون. القديسون مكلَّفون بأن يمدّوا الغربة عن العالم في الأرض. يولدون من أرحام الناس، كالمألوف، ليتغرّبوا ويصيروا بينهم أبناءً للّامألوف. هم لحظةُ دمَعَ الله على الصليب ممدودةً في الزمن ناثرةً في العالم الرجاء. شأنُ القديسين أن يغرّبوا العالم عن دنياه ويصيروا به، إن شاءَ، شبَهًا للسماء، أن يُفهمونا أنَّ الحبّ هو القوّة، والجبروتَ هو الضعف، وأن التخلّي هو أثمن الملك والتملّكَ هو الفقر، فما يفصل بين القيامة والموت يُصهَر بلُهُبِ العشقِ في الحب ويتمّ العبور من الموت الى الأبد، وأمّا بقساوة الجبروت فيقسو الفاصل ونُأسَر في الموت ويُحجَب عنّا الوجه والأبد. 

شرحَ بولس بندلي لنا هذا يومَ كان ينحني ويُرهَق عُندًا في الانجيل، ولم نفهم. هذا فهمناه من نزفِ جسده يوم مُدَّ أمامنا جثمانَ. قبلًا، أتانا كما نرغب ونشاء كأهل أرضٍ، مُحصَّنًا بما يفوقنا علمًا وإدراكًا ومراكزَ وذكاء. فخالَفنا، شرحًا للآية، ولم نفهم. قالَ ما في جعبته، وهوَ ما لا نقول. مارس ما كُلِّف به وهوَ لا نألف. أحبّ بولس بندلي ما نكره، صادق من نرذل وزهد بما نعشق.لم يجارنا، لا نهارًا ولا ليلاً ولا عادات ولا تقاليد ولا تملّكًا ولا اقتناءً ولا نفوذً ولا سلوكًا ولا مفاهيم. لم يشابهنا بأمرٍ، لا بمنزلٍ ولا براحةٍ ولا "بحسن إدارة" ولا بتنظيمٍ ولا بدقةٍ ولا بالتزامٍ بمواعيد.لم يواجه غضبنا بغضب، ولا انفعالنا بانفعال ولا منطقنا بمنطق.كانَ يتنشق من أوراق  الكتاب وينتظم بتوقيته، وكنّا نتنشّق من هواء العالم وننتظم بقواعده. وبدلَ من أن ننحني لسرَ إلهيّ فيه ونمعن في التساؤل أكثر لنفهم، نَسبنا له الجهلَ بنُظم الأرض وبما ظُنَّ لنا أننا نعلم.

لذا ليس شأننا، الآن، ممّا سيتبع من شهادات وأقوال أن نحكم في ما لله، عبر كنيسته، أن يحكم. شأننا فقط هو أن نتوب. أن نكفّر عن خطيئة عدم فهمنا، ونصرّح أننا نُسحَر بالآية وننحني للسرّ. أن نعلن أنَّ الضعفات في الأبناء لا تُبطل قوّته، وأنّ بإمكان أيّ منّا أن يأكل ويشرب ويجوع ويعطش ويفرح ويحزن ويكون تائبًا الى ربّه، مكوَّنًا من إنجيله وحاملاً سماته في آن. شأننا أن نعلن أنَّ الانجيلَ حقًّا يُصَدَّق و"يُأكَل ويُبلَع"، وأنَّ من البشر رجالاً صاروا منه أوراقًا ينثرون عبيره بيننا. 

ويبقى أنَّ يومَ سنقف أمام وجهه، سيدلي الله بحكمه فينا. سيرى الحنطة دون ريب، ودونَ أن ندري ما إذا سيُعرِض بفعل رحمته عمّا حملنا من زؤان. يومها سيتحرّر صوت بولس بندلي من همسِه وترتفع رعايته متشفّعة: ربّي أغفر لهم لأن خطايا العالم حجبت عنهم "الحزن المُفرِح” و”التعب المُريح".

 

المشاركات الشائعة