حـوار مع مجـلـس مركـز طرابلــس 2020


رينيه أنطون


الوحدة وركيزتها

إنّ مثل هذه اللقاءات بين الأمانة العامة والمراكز أمست حاجة وضرورة قصوى اليوم ومفيدة امام حجم الأزمات التي تواجهنا وكنيستنا، وكذلك أمام وطأة السنين على حياة الحركة، ولنستطيع أن نَحضرَ بالهمّ الحركيّ المحليّ، بواقعه وتساؤلاته ومشاكله وهمومه وانجازاته، الى الهمّ العامّ، وان نحضر بالذي نتحدث به دائمًا وهو حضور الهمّ العالم في الشـأن الحركي المحلّي.

في تقييمنا اليوم للحياة الحركية، وهو ليس بأمر جديد وانما مزمن، أنّ هناك من غربة بالهموم والاهتمامات، ما بين الأمانة العامة والمراكز وفيما بين المراكز والفروع ولعلّ أيضا، فيما بين أسرة وأسرة في الفرع الواحد. وهذا الاختلاف بالمفاهيم والآراء يصل أحيانًا الى حدّ يعكس اختلاف الالمام بهوية الحركة.

حاولت الأمانة العامة العمل جدّيًا على ترميم هذه الغربة على مدى عقود دون فلاح. وللتوضيح حين أتحدث عن الأمانة العامة لا أتحدّث عنها كسلطة حركية أولى، رغم انها هي هكذا بالطبع، وانما أعني بها كمعمّد للهمّ والاهتمامات الفرعية والمركزية بهموم المدى الحركيّ، والكنسي والشهادي العالمي، الذي تحضر الحركة فيه، وكناقلة للهمّ المحلّي الى هذا المدى.

وللتوضيح، فالأمانة العامة ليست هي المسؤولة عن متابعة وقيادة الحياة الحركية اليومية، وإنما المراكز. الأمانة العامة مسؤولة عن ضبط الحياة الحركية  في استقامة المسار والوحدة.

انطلاقًا من هذه الهواجس توجّهنا في الأمانة العامة الحالية الى صيغة الأمناء العامين المساعدين والتطلّع الى تأسيس ورش ترميمٍ  للعلاقة ومعالجة للغربة من خلال ورش عمل نقيمها في المراكز وبالتنسيق مع مسؤوليها .

هذا كلّه مع رجاء ان تسمح لنا الظروف وتزول الشدّة الصحيّة ليتسنّى لنا جميعًا اللقاء المباشر، لقاء الوجوه التي تعكس ما في القلوب. برأيي اللقاء الشخصي هو من أسس ومقوّمات نجاح اي حوار ولقاء بيننا.

فنحن حين نجتمع بعضنا ببعض، لأي هدف، لا نجتمع لنتقارب فكريًّا وحسب. نحن نجتمع لنكون الى بعضنا البعض، لننعطف باتجاه بعضنا البعض ونقترب من بعضنا بشكل كيانيّ أكثر، لنكون في ترجمة امتدادية لوحدتنا في الكأس المقدّسة. ولنرسخ في كوننا جماعة واحدة.

بالانتظار علينا أن نتكيّف مع ما يحوط بنا ويواجهنا. المهم ألا تقف حركة الانجيل فينا لسبب أو لآخر لأن إذا توقّفت حركة الانجيل فينا متنا ومات العالم معنا بالطبع. العالم يموت إن توقفت حركة الانجيل في "الأبناء".

انطلاقًا من الحديث عن حركة الانجيل، فان ركيزتنا الأساسية في مواجهتنا لكلّ ما يحوط بنا اليوم، وهو صعب جدًا، هي أن نتذكّر أمراً واحداً وهو أننا، بأي حال وظرف كنا، نحن للمسيح، وللمسيح فقط. نحن لسنا لأحد غيره، ولا لشأن ولا لمهمّة ولا لخدمة غير البشارة به تعليمًا وتعبيرًا ومواقفًا وسلوكًا وفكرًا وثقافةً  لنكون عاملين على خلاص أنفسنا  وخلاص الآخر والعالم.

وهذا الامر، رغم انه من المسلّمات لدينا فهو لا يتظهر في كافة اطلالاتنا، واتحدث عن نفسي أولاً.

وفي السياق، وطالما اخترنا الحركة، أي الحالة الحركية، لتظهير حركة الانجيل فينا، يجب أن نعرف أنه لا يمكن أن نواجه ما يتحدّانا اليوم دون أن نعي أنَّ هذه الحركة، بهويتها وطبيعتها وواقعها وانتشارها وحياتها اليومية ليست شأنًا كلاسيكيًا ومألوفًا وبسيطًا.

فالحركيون يا إخوة، يربون في بيئات تتقارب وتبتعد وتختلف. وعلى يد مرشدين أو مسؤولين أيضًا تربوا على هذا النحو، وفي ظروف محيطة تختلف تحدياتها ووجوهها، وفي ظلّ أنظمة سياسية وتقاليد مجتمعية تختلف، وباحاطة بيئة كنسية قد تختلف، و"ثقافة" اجتماعية تختلف، وما ينشأ عن هذا من خبرات مختلفة تتراكم وتُتناقل في اختلافها.

ومثالاً على هذا، قد نرى في مكان حركيّ أن الممارسة الحركية في مكان حركيّ آخر غريبة عمّا ألفناه في مكاننا حيث نحن. وفي ذاك المكان قد يكون الأخوة يتناقلون خبرات سبق وقادهم فيها حركيّون كبار، كالأخ كوستي والمطران بولس والأخ شفيق حيدر والأخ جورج نحاس الخ...(مثال عن مركز طرابلس). هذا لا يمنع أن نقيّم اليوم كلّ خبرات الأمس، أينما كانت. فنحن لا نمجد التاريخ الحركيّ. تاريخنا فيه من الانجازات والعثرات، كما في حياتنا الحركية اليوم انجازات وعثرات.

الحقيقة، أننا مدعوّون الى صياغة ترجمة وحدتنا في الربّ في ظلّ هذا التحدّي، وفي زمن أمسى فيه كلّ شخص يملك إمكانات الاطّلاع على كلّ ما في العالم بدقائق، ومطلات اعلامية مفتوحة على كلّ من في العالم يُدرج عليه ما يشاء بدقائق، ومصادر تعليمية وفكرية متاحة ومفتوحة بشكل لا يحصى.

لا تستهونوا هذا الموضوع، وهو ما يذكرنا بركيزة ثانية تنبع من الأولى، وتصعب الوحدة دونها وهي أن تكون نفوسنا مفتوحة على توبة دائمة. أن يقوى كلّ منا على الآخر بالتواضع.

فتراث الحركة الحيّ، تراث الكبار فيها، هو تراث القوّة بالتواضع. أذكر امثلة من الراقدين: المطران بولس بندلي، المطران يوحنا منصور، الأب الياس مرقص، الاخ كوستي بندلي. كلّ من هؤلاء الكبار كان يفوقنا علمًا وفكرًا وذكاءً وتأثيرًا ويفوقنا، في آن، تواضعًا بأشواطٍ وأشواط.

برجاء أن نمتلك هذه الركائز والوعي أطلّ باختصار على ما سُئلت من عناوين:


 

                    الصوت النبويّ - التعبير

أن موضوع حسن التعبير شفهيًا وكتابةً ليس شأنًا اخلاقيًا وحسب. فنحن لا فضل لنا بالتهذيب. من المسلّمات أن نتحلّى بالتهذيب. إنه شأن بشاري.

"فأنا" مدعو لأكون نموذج إنجيلي، طبعًا على الرجاء، أينما كنت وايًا ما كنت أفعله. ونحن أصحاب هويّة واحدة، وليس هويّات متعدّدة. وبالتالي كل ما نقوم به، واللغة التي ننطق بها يجب أن تليق بما نحن مدعوّون، على الرجاء، لنكون نماذجَ له. هذا عامّةً.

في الأكثر تفصيلاً، نحن لا نعظ ولا نكتب لنثبّـت أنفسنانحن لا شيءنقوم بهذا لنقدم المسيح للآخر، لنأتي به إليه وإلى ما ندّعي أننا عليه من سلامة فكر واستقامة رؤيا.  وهذا سبيله أن تكون لغتنا عابرة الى قلب الآخر لتعبر منه الى عقله.


الحريّة

أولا، سأذكر أمرًا على الهامش، وهو أن من غير الموضوعيّ أن نتحدّث عن إطلاق بالكامل في كلّ ما يختصّ بانسانٍ مخلوق  ناقص. أتوقف عند موضوع الحرّية المجتمعية، والحرية الإيمانية.

في الجانب المجتمعيّ الأمر مبتوت. الحريّة تقف عند حدود حريّة الآخر، وحرية كلّ جماعة تقف عند حدود حرية الجماعات الأخرى وعند ما تضعه الأنظمة والقوانين من أطر لتنظيم العلاقات الانسانية في المجتمع الواحد أو المكان الواحد. وهذا الجانب، بغض النظر عن مقاربتنا الايمانية لموضوع الحرية، نحن لا نهمله ولا نستهتر به، لأننا، أيًا كنا، وإن كنّا "ملائكة" في الأرض، فلا يبطل أننا شريحة مجتمعية من المجتمع، وأننا مسؤولون عمّا يصون أمن الانسان والمجتمع من أي أذى. هذا بشكل بسيط.

في الحريّة الايمانية، حريّة الأبناء تلك المهداة لنا على الصليب.

أولاً، هذه الحريّة ليست الغاية، هي وسيلة، هي طريق نسلك بها الى الخلاص. الغاية هي الخلاص. الله افتدانا لنخلص، لأن دون الخلاص يبقى الموت قيدًا، أسرًا لنا ونهاية، ولا يكون لنا فصحًا، عبورًا الى الحياة. وحين نبقى في أسر الموت تتفَه كلّ "حريّة".

فأؤكّد في هذا الموضوع، أنَّ أن نَخلُص هو الهمّ وهو الأساس. ومحورية الحريّة في حياتنا تنطلق من كون علاقتنا بالله علاقة محبّة. الله محبّة، ولأنّه محبّة، نحن لا نَخلُص بغير ان نقبل بحريّتنا هذه المحبة فتفرح المحبّة الالهية بخلاصنا.

ثانيًا: حريّة الأبناء، الموهوبة لنا، هي حريّة قبول وعدم قبول الخلاص، لأن الخلاص لم يُعرَض علينا غير محبّة، ومحبّة بنا، والمحبّة لا تُلزم. وكمال هذه الحرية، كما علّمنا الأخ كوستي، هو بتحرّرنا، بالتحرّر، وليس بالتصرف حسبَما نشاء، بالتحرّر ممّا يقيّدنا عن أن نكون بقرب الله ويشدّنا بعيداً عنه. وبالتالي حرّيتنا كأبناء، هي حريّة التعاطي مع الله وقصده من الخلق. وبرأيي لا نستطيع أن ننسب لها حقّنا بكلّ تصرّف. لأنها وليدة المحبّة، وكلّ تصرفّ، لا أثر للمحبّة فيه، أو يعادي المحبّة، لا يمكن أن يكون وليد حريةٍ مولودة من المحبّة.

فحرية "الأبناء" أرقى وأثمن من أن تكون تفلّت غرائز وانفعالات. وفي أي حال، الربّ يرتجي منّا، من كنيسته، إذا ما شطحت حريّة العالم بعيدًا عن تحرّره، أن نبادر بحسّنا ومسؤوليتنا البشارية الى تصويب مسار حريّته. وهذا من اجل العالم، وليس من أجل الله.

حاشية مُضافة على الحديث: منَ الحرية النابعة من المحبة تولَد فينا حرية الضمير التي تقودنا الى عدم  المساومة والمحاباة، وبها نتنازل عن أنانا لننحني أمام رغبة الإخوة، فتكون طاعتنا للجماعة خيارًا مُحِبًّا حرًّا، وليس خنوعًا. كما أنَّ بها نرتقي الى تمجيد الله واحترام صورته بالبشر لتمسي نصرتنا المظلومين ومساندتنا الفقراء ورفضنا الظلم تعبيرًا حيًا عنها  لا تشوبه دينونة أو إساءة أو شتم. فالاساءة الى الآخر، أكانت ارضاءً لأهوائنا وانفعالاتنا أم لم تكن، فهي ليست، بأي حال، وجهًا لحريّة الأبناء.


الشخص والجماعة

التساؤل في هذا الموضوع ليسَ أين الحقيقة وأين المسيح. في المسيحية لدينا وجه الشخص ووجه الجماعة. وكلاهما أساسيان. ونظرتنا الى الجماعة لا تنفصل عن نظرتنا الى الجسد الواحد، المكوّن من أعضاءٍ مختلفة، ولكلّ منها دوره.

هذه الجماعة توجد وتُبنى بالشخص، وليس على حساب الشخص وطمسه وسحقه. والشخص لا يُبنى، ويتحدّى ذاته ومحدوديته وشخصانيته وأناه، لينمو في المسيح إلا في إطار الجماعة. وهذا دون أن نهمل أن الحقيقة التي تتكشّف لنا مجتمعين هي، عامةً، أقرب الى الحقيقة الالهية وأوضح من تلك التي تتكشّف لأي منا بمفرده، هذا دون استبعاد الاستثناء.

من هنا، ولكون كلّ منهما عامل أساسي مكوِّن للآخر في المسيح، فهذا يستدعي ان يكون لكلّ من الشخص والجماعة مكانته المتصدّرة المتقدّمة في ضمير الآخرهذه المكانة، بأولويتها وتصدّرها، هي ما تصون جدلية العلاقة واستقامة العلاقة بين الشخص والجماعة، بحيث يكون كلّ منهما في توثّب الى الآخر لتضيق فسحات الاختلاف، والتي إنْ وجدت، تنحجب إمكانية أن يسلك الشخص بما يؤذي الجماعة وأن تسلك الجماعة بما يؤذي الشخص. الخلل يتم حين تتزعزع هذه المكانة من محلّها وحين يستسهل الشخص السلوك بما يؤذي الجماعة، وتستسهل الجماعة السلوك بما يؤذي الشخص. فالسؤال المطروح دائمًا على ضمائرنا هو هل مكانة الشخص في ضمير الجماعة، ومكانة الجماعة في ضمير الشخص هي حيث يجب وفي الموقع السليم؟ أما أين هي الحقيقة، فجواب السؤال هذا يخضع لكل ظرف، إذ نحن  كنيسة مجمعية، وكنيسة فيها القديس مكسيموس المعترف في آن.

دعوني اذكر لكم مثلاً عن المكانة هذه. في أحد المؤتمرات الحركيّة التي انعقدت في مدرسة مار الياس – الميناء، وكنت في مطلع شبابيّ، أذكر أنه حدث خلاف كبير، وبشكلٍ خاصّ بين الأخ كوستي بندلي والأخ جورج نحاس، حول موضوع العضوية في الحركة، وهل ما اذا كانت العضوية في الكنيسة هي ممرّ الزاميّ إلى عضوية الحركة أم لا، أيّ عمّا إذا كان يمكن للحركة أن تقبل غير الارثوذكس في عضويتها انطلاقًا من أن "الروح القدس يهبّ حيث يشاء". وانتهى المؤتمر الى تأليف لجنة مهمّتها الاستماع الى كلا الأخين، واستمزاج رأي المطران جورج خضر بالموقف، ومن ثمّ اتخاذ القرار المناسب. وأتى قرارها مغايرًا لرأي الأخ كوستي، الذي بقي على قناعته بهذا الخصوص، دون أي تأثير على التزامه بموقف الجماعة وشغفه بها.

 

الطائفية

ينبع موقفنا منها من جدّية إيماننانحن قوم نتحدّث بضرورة ألا يكون الانجيل حروفًا بالنسبة لنا بل حياة، وأن ينعكس نهضة على جميع أصعدة حياتنا وفي حياة كنيستنا.

لذا نحن لا نقبل منطق الطائفة في رؤيتنا للأمور، منطق أن تصطف جماعة من منطلق انتماء ديني بيسوع المسيح الى  بعضها البعض في جسم مجتمعي مفصول عن حياة الكنيسة.

هذا موضوع باختصار، ينفصل عن مقاربتنا الانجيلية. أهمّ مساوئه أنه يصير بالله، الغاية بالنسبة لنا، مجرّد وسيلة كسب ونفوذ. وينزع عن أبناء الكنيسة، عامة دون تعميم، صفة الشهود ليكونوا في صفوف اللاعبين على اكتساب المزيد من النفوذ. كما يصير بالمسيح ، من خلالنا، عدوًّا أو مزاحمًا للآخر الأمر الذي يحجب عن الآخر تقبّل محبّـة المسيح.

هذا لطالما كان موقفنا منذ ما قبل وثيقة شؤون الأرض والى اليوم. وموضوعيًا أقول أن موقف كنيستنا يتمايز، تاريخيًا، في هذا الشأن عن مواقف سائر الطوائف. فعدا الخطاب الأخير في بيروت، حيث انحدر "الخطاب الأرثوذكسي" الى لهجة لم نشهدها قبلاً، لطالما تميّز الموقف الأرثوذكسي "بلطف" المطالبة "بالحقوق"، من باب "العدالة" بين المواطنين "والمسؤولية" الرعائيّة عن كافة الأبناء مقرونةً بالدعوة الى التحرّر من النظام الطائفيّ. وأذكر في هذا السياق بيان المجمع المقدس الشهير العام 1975، وأيضًا دعوة البطريرك يوحناّ العاشر، في عظة رأس السنة هذا العام، الى تحرّر النظام اللبناني من القيود المذهبية والطائفية التي أتت على البلد بالويلات.  

نحن، نرجو دائمًا أن يتمايز الخطاب الكنسي بالكليّة عن الخُطب الطائفية الأخرى وتتحرّر الكنيسة من الانزلاق في هذه المتاهات بشكلٍ تام. وقد كتب الأخ نقولا لوقا مقالة اليوم، بالذات، في جريدة النهار تصبّ في هذا السياق، أرجو منكم قراءتها. أما الخبرة الحركية في ترجمة هذا الموضوع فكثيرًا ما تأثرت بالبيئة المحيطة، وتركّزت حيث المجتمعات المختلطة مع سائر الطوائف. فمثلاً، أذكر أنّ في الحرب اللبنانية، وفي ظلّ تصاعد حدة الخطاب الطائفي جدًا، كان الحركيون في طرابلس والميناء ينخرطون مع الطوائف الأخرى فيما يخدم المجتمع والمدينة بشكل مشترك.

 

 -----------------------------------------------

الأسئلة وأجوبة الأخ الأمين العام

بعد الحديث الى مجلس مركز طرابلس الموسّع في 15 أيار 2020

إنطلاقًا من وثيقة شؤون الأرض، ما هي حدود تعبير العضو الحركي عن مواقفه من بعض الأحداث الوطنية؟

الجواب: من الوقائع التاريخية التي رافقت اصدار الحركة وثيقة التزام شؤون الأرض اختلاف في احد المراكز الحركية حول موضوع التزامنا الشأن العام، ومدى الترجمة السياسية لالتزامنا الانجيل والتزامنا الانسان انطلاقًا من رؤيتنا الايمانية. تداعت الحركة في أحد مؤتمراتها لتسطير هذه الرؤية وتنظيمها وتحديدها. الأمر الأساسي في هذه الوثيقة أنها تشدّد على بُعد الالتزام الشخصيّ، بمعنى أن الحركة لا تصيغ موقفًا سياسيًا كجماعة واحدة. الالتزام هو التزام شخصيّ. الشخص هو من يقيّم ما اذا كان التزامه الشأن العام، من هذا المكان، يتوافق ومنطلقاته الايمانية أو لا يتوافق. ولأوضح، البُعد الشخصي ليس هو بمحدودية أنني لا أذهب، مثلاً، إلى أي مناسبة تتعلّق بهذا الشأن برفقة حركيّ آخر. الموضوع معناه أن الحركة لا تسمح لنفسها بأن تقارب موقفًا سياسيًا وتدعو الحركيين الى الالتزام به ليبقى لكلّ منهم الحرية الانجيلية. هذه الحرية هي حدود كلّ شخص منّا. وإذا سمحت لنفسي أن أذكر ترجمة عملية لهذه الحرية،  أقول بصراحة أنه يجب ان نميز بين النصرة السياسية لهذا الفكر السياسي أو بين الانتماء الى هذا الفكر السياسي وبين التحزّب السياسي. رأيي الشخصي، وقد لا يشاركني به جميع المسؤولين الحركيين، أن التحزب، أقلّه في لبنان، يتعارض تماما مع  هذه الحرية والمنطلقات الايمانية، لأن بالتحزب أنا لا أرى جمالاً ولا أرى حقيقة ولا أرى صوابًا ألا في هذا الخط السياسي في حين أن هذه قد تكون متواجدة، وبشكل نسبيّ، لدى أكثر من جهة.

الأمر الثاني أن بالتحزب أقول أن حكم هذا الخط السياسي هو مرتجاي في حين أننا كمؤمنين نحن في موقع نقدي من كلّ نظام أرضي، أيًا كان هذا النظام، لأننا نرى أن كلّ نظام أرضي انما هو ناقص أمام كمال الملكوت.

هل رفض القرارات التي تتخذها الجماعة يُعتَبر حريّة، كالقرارات التي اتخذها المجمع المقدس في الفترة الأخيرة ولم تلتزم بها بعض الرعايا مثلاً؟

الجواب على هذا السؤال يتخطّى، برأيي، عنوان الحريّة لأننا نتحدّث عن مخالفات كنسية لقرارات المجمع المقدّس. هذا موضوع يتعلق بانتظام مسار الحياة الكنسية على أصعدتها المختلفة، وحدث تخطّي لهذا الانتظام في بعض أصعدة. ليس شأننا تقييم حجم هذا الموضوع. لكن ما يلفتنا بشكل نافر أن ثقافة عدم الطاعة تمتدّ في كنيستنا الأنطاكية، وإذا ما عمّت هذه الثقافة ستكون الكنيسة أمام مفترق خطر جدًّا جدًا. ولذلك يجب ان يُقارب هذا الموضوع ويُعالَج على الصعيد الكنسي بجرأة. نحن طالبنا بأن تسائِل الكنيسة، بشكل أبوي وإنجيليّ بهذا الموضوع، أن تسأل لماذا، وتعرف الجواب وتقول للذي أخطأ أنه أخطأ والذي لم يُخطئ أنّه لم يُخطئ. لكن أن نعبر عن الموضوع وكأنَّ شيئًا لم يحدث، فلقد سبق وعبَرنا كثيرًا عن عدم الطاعة، ووصلنا الى أمكنة خطرة.

كيف يكون رد الجماعة على تعرّضها لتهجّمات وشتائم وكلام مسيء؟

الجواب: نحن اليوم، كما سبق وقلت، في عالم يملك فيه كل شخص العديد من المطلات الاعلامية بحيث يستطيع أن يكتب ما يشاء ويمدح ما يشاء، ويهاجم من يشاء. ولا أحديستطيع أن يربّي كل الناس في عناوين التهذيب والخُلق والفضائل. ونحن في زمن أزمات وتعثّرات واحتدامات وانفعالات وخلط بالمفاهيم وانحراف المفاهيم، وهذا كلّه يقود، أحيانًا، الى أن يطلّ البعض بهذا التعبير المسيء. إذا كان هذا التعبير يصدر من قبل أحد أعضائنا أو من يخصّنا، يجب أن نعمل على معالجة الأمر ووقفه، أو على الأقل الحدّ من انعكاساته على الجماعة. أمّا اذا كان الموضوع من قبل أشخاص آخرين، فما أستطيع قوله أن الاهانات والشتائم لن يكونا يومًا سلاحًا به نُبتَز وتُحارَب به جرأتنا في مقاربة شؤون الكنيسة. فليكن هذا واضحًا. نحن لن نخضع لهذا الابتزاز لنُغيّب موقفًا أو طرحًا أو سلوكًا.

نحن في بلد طائفي، ولبنان بلد طائفي ، كيف علينا أن نحافظ على انفسنا ونكون غير طائفيين في ظل الوضع الطائفي؟

الجواب: أنا أعتقد أن الكنيسة أمامَها طرح وحلّ واحد. أن تتحرّر من كلّ ما له علاقة "بالحقوق" وتبقى على خطاب واحد تتمايز به و يرتكز على الدعوة الى الغاء الطائفية. وإن كان هناك من سياسيين أرثوذكس وذوي نفوذ أرثوذكس يريدون المطالبة بهذه الحقوق فليطالبوا هم. نحن لم نُدن مرّة من قال أن لا عدالة بين الطوائف ويجب أن تكون عدالة. نحن، هذه العدالة الطائفية لا تعنينا، ونرى أن العدالة بالنسبة لنا هي أن يأتي الموظّف الأكفأ والأكثر خدمة والعفيف الكفّ والنفس.

من جهة ثانية، لا شيء يمنع أن نقدّم نحن الأرثوكس نموذجًا للآخرين. وكما ورد في مقالة الأخ نقولا لوقا اليوم، وبشكلّ معبّر وانجيلي سلس، إذا قلنا للدولة اللبنانية، ليأت الأكثر كفاءةً، أكان أرثوذكسيًا أم غير أرثوذكسي، لربّما نكون خطونا خطوة هامّة في طريق طويل.

بخصوص موقف الحركة ومقاربتها وردة فعلها الأخيرة، سأقارب هذا الموضوع من وحي ما حدث في موضوع الهيئة المدنية العام 2012 حيث كان للحركة ردّ فعل منظّم وحشدت عدد كبير من الأشخاص واتخذت موقفًا واضحًا وصريحًا. بخصوص ما يحدث اليوم في مطرانية بيروت، برأيي لا يقل أهمية عن موضوع الهيئة المدنية، فلماذا لا نرى في الحركة الموضوع بهذا الحجم على هذا الصعيد وأكثر؟

أريد أن أختصر في موضوع الطائفية وأتذكّر كلام السيّد الذي يقول: "لست أسأل أن تخرجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير؟ كيف نوفق بين هذه الآية وبين المنطق والوضع الطائفي الذي نعيش فيه اليوم؟

الجواب: على السؤالين: برأيي ما حدث في اجتماع بيروت أمر غير سليم وانزلاق الى خطاب لا يشبه "تراثنا" الأرثوذكسي على هذا الصعيد. أما بخصوص موضوع الهيئة المدنية، لا أنفي إمكان  أن يكون ما يُعدّ في بيروت هو مشروع شبيه بمشروع الهيئة المدنية. هذا احتمال وليس أمرًا أكيدًا. وإذا توضّح أن الأمور تتجّه باتجاه ما هو بديل أو شبيه للهيئة المدنية، فبالتأكيد سنواجهه "بالقوّة" والقدرة ذاتهما التي واجهنا بهما مشروع الهيئة المدنية. فنحن ليس همّنا أن نواجه أشخاصًا وإنما أن نواجه الفكرة.

لقد سبق وذكرت دعوة البطريرك، في عظته يوم رأس السنة، الى إلغاء القيود المذهبية والطائفية لسبب ما تصيب به البلد من كوارث. وأنا أعتقد أن علينا أن نلتزم هذا الموقف. المشكلة في انزلاقنا، ككنيسة، الى موضوع حقوق الطائفة، إضافة الى مبدئية الأمور، أنه إن تسلّم شخص المركز الوظيفي انسجامًا مع موقف الكنيسة أو مطران، أيًا كان، أو بايحاء منهم، ولم يكن على قدر ما هو متوخّى لناحية الكفاءة وعفّة الكفّ، فما سيكون موقف الكنيسة وكم سيكون محرجًا انزلاقها الى موضوع الأشخاص؟

من ناحية ثانية، فإن التركيبة السياسية في لبنان، وإن قد تسمح لجهة دينية أحيانًا أن تأتي بموظف، وإنما ترهن بشكل دائم الموظف للزعيم السياسيّ. ولذلك أرى أن حقوق "الأبناء" الأرثوذكس إنّما تكمن في الشخص الأكفأ والأكثر خدمة ونشاط.

أنا ضدّ الطائفية، ولا أميّز بين مسلم ومسيحي وانا مع اختيار المناسب للمنصب. إلا أن في حالتنا، الطائفية قائمة، وإذا أردنا ان نقدم نموذج، ينبغي أن تفهم سائر الأطياف هذا النموذج لتتبعه. وقد يصعب هذا الأمر وإن بعد زمن. سؤالي ألا نكون بهذا الموقف نمنع إخوتنا الأرثوذكس من تبوّأ مناصب يخدمون فيها البلد، ولربّما يصنعون فرقًا؟

الجواب: أتفهّم الطرح. أعتقد أن أحدًا لا يستطيع أن يجزم ما إذا كان النموذج سيُفهَم أو لا يُفهَم. لكن ما أعتقده أن المحبّة تغيّر، تقلب حياة الأشخاص والجماعات. المحبّة تؤثّر، والخطاب غير المألوف يلفت. الخطاب الطائفي أمسى خطابًا ممجوجًا. ثمانين سنة وهو يسود في البلد. أن نطل بخطاب وامض يشد الناس الى مكان جميل، اعتقد انه يكون موقفًا نبويًا شاهدًا. هذا لا يعني أن أحرم الأرثوذكسيّ حقّه، نحن لا ندعو الى حرمان أحد حقّه. نحن نقول طالما كل طائفة تتمترس وتتشنج خلف حقوقها، هذا البلد يغرق في الانقسامات التي يدفع ثمنها دمًا. يدفع ثمنها أزمة كيانيه يعيشها عشرات الألوف من شبابه. النظام الطائفي هو سبب الأزمة الكيانية هذه. أليس علينا أن نخطو الخطوة الأولى في طريق إنقاذ البلد؟ أعتقد أنه علينا هذا الأمر، واننا إذا خطينا الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، قد يتبعنا آخرون.

أظهرت "الكورونا" أن لدينا خللاً في تنظيم أبرشيتنا في طرابلس. لنكن صريحين. وأظهرت أن لدينا شرخًا في العلاقات بين الكهنة حتى ضمن الجسم التنظيمي في الأبرشية. نحن في مركز طرابلس اتخذنا موقفًا وأرسلنا رسالة بهذا الخصوص الى راعي الأبرشية، ولم نلحظ تفاعل مع هذه الرسالة ولم نتلق جوابًا. فهل الأمر يدعونا الى شهادة حق والمبادرة الى المساهمة في تصحيح الأمور، أم تقتضي الحكمة أن نلتزم بالصمت والصلاة؟

الجواب: سأكون موضوعيًا وأجيب أنَّ، حقيقةُ،  لدينا إشكالية رعائية تستلزم أن يُعمَل على حلّها بشكل أو بآخر ضمن ثوابت. وهنا أتحدّث بصفتي الشخصية كإبن لهذه الأبرشية. أولى هذه الثوابت هي إقرارنا أن المطران أفرام هو رجل قدّيس يتخذ قراراته الكنسية وفق ما يراه هوَ حرصًا على الكنيسة، وممّا يراه هوَ، في صلاته، اخلاصًا للكنيسة. قد لا نتوافق معه على بعض القضايا التي تطرح إشكاليات رعائية كُبرى، ويُعمَل على معالجتها أكان عبر التواصل واللقاء المباشر معه، أو بشكل غير مباشر. وانشالله تزول هذه الظروف لنتمكّن من تكثيف هذه الجهود.

نتيجة "الثورة" في لبنان حدث لدينا في الجسم الحركيّ انقسام غير مرئيّ بين الحركيين ما بين مؤيدين ومعارضين. وهذا ما يتجلّى في كل نقاش حركيّ يتعلق بهذا الأمر أكان بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا يقود الى أن تكون نقاشاتنا غير بنّاءة وتسود فيها التوترات. ما هو رأيك بهذا الموضوع وما هو الحلّ؟

الجواب:: في الحرب اللبنانية، الهوى السياسي للاخوة الحركيين، الذين وجد لديهم موقف سياسيّ، لم يتطابق، وقد يكون تأثر بالمحيط الذي يتواجد فيه كلّ منهم. التقى في الحركة، هنا وهناك، من يميل الى اليمين ومن يميل الى اليسار، ولكن هذا الموضوع انعكس مقاربات تختلف رأيًا ولم ينعكس انقسامًا. شخصيًا أحزن كثيرًا إنْ أعلى الحركيّ أمرًا، لشأنٍ أو لانفعال، على مكانة الأخوّة في ضميره. الأخوّة هي أثمن من كلّ شيء. هي تربّينا وتنمّينا. ودعوني أكون صريحًا. حين نطعن الأخوّة فليس صحيحًا ان انفعالنا يكون دفاعًا عن الحقّ. لا شيء يمنع أن نبتعد عن بعضنا بالرأي السياسيّ، ونكون في آن أقرب الى بعضنا كإخوة. ما هي المشكلة ان اختلفنا بالرأي السياسي، وما هي المشكلة ان اختلفنا حول قضية حركية. هل نختلف على عقيدة. ألا يحق لأحدنا أن يكون له رأي أو فكر سياسيّ يختلف عن الآخر؟ إلا إذا كنا نشكّك في اخلاصه، في اخلاص بعضنا  لمنطلقاته الايمانية. وفي هذه الحال يكون الأمر خطيرًا. أتمنى أن تعالَج هذه الأمور على المستوى الشخصيّ والجماعي بمصارحة عميقة، ولا نفرّ منها. ما أشار اليه السؤال هو علامة غير سليمة في حياة المركز يُسأَل كلّ منّا عن مسحِها . فلا تدعوا الحماس لجهة سياسية أو لفكر سياسي يأخذكم الى مكان بعيد عن الأخوّة. ليست المشكلة في الحماس السياسي، المشكلة أن تُطعَن الأخوّة نتيجة لهذا الحماس، أو لأي سبب آخر.

هل ممكن أن ينوجد إطار يختص بمعالجة انعكاسات كتابات بعض الأخوة  التي قد تحمل آراء إيمانية أو سياسية يُختَلف حولها تُطرح بشكل نافر ينعكس على الحركة  ويحمّلها في الرعايا وزرًا ثقيلا.

هل يصح أن يفصل حركّي، وربّما مسؤول في الحركة موقفه الشخصي عن موقف الحركة باسم الحرية الشخصية؟ وألم يكن يجب الانتباه كثيرًا، في الفترة الأخيرة التي عاشها البلد الى ان نحفظ فرادتنا، وان تواكب القيادة الحركية، والمرشدون، الأخوة ويتابعوهم؟

الجواب عن السؤالين: التساؤلات مهمّة وجديّة، وعلى الحركة أن تواجهها بحوار جدّي حولها، كما حول كل مشاكلها وأينما تبرز.

عامة، أعود وأؤكد أن المرجوّ منّا ان نكون نموذجًا بشاريًا. ما نُطلّ به، تعبيرًا ولغة ومضمونًا، يجب ان يعكس ما نبشًر به. من جهة ثانية لنقرّ أن للموضوع بعض الأبعاد الشائكة. في موضوع المساءلة الحركية، قد تتعدّد أمامنا الخيارات ولكن لا نستطيع ان نتجاهل ما حدث في السنوات الماضية في الكنيسة والحركة من احداث كبرى، وكذلك بعض الوقائع، واختلاف بعض المفاهيم وتمايزها باختلاف المجتمعات التي يقيم فيها الحركيّون. ومن الأحداث ما ذهب ببعض مطلاتنا الشخصيّة إلى أماكن لا تشبهنا. وهذا خطأ يجب أن يتابَع ويُعالَج ويُعمَل عليه وبحكمة كبيرة.

في أي حال، ان الامانة العامة ستهتم بمعالجة بعض المواضيع، الاشكاليات، بشكل مباشر، كموضوعيّ الحرية والطائفية وغيرهما من المواضيع، من خلال اعداد ورش عمل واوراق وحوار حولها. فبدل ان نتجادل بشكل شخصيّ حولها، نتحاور في رؤيتنا الايمانية لها.

أما النقطة الأهمّ، فهي بيت القصيد، الارشاد. نحن كل ما نقوم به اليوم هو اننا نعالج نتائج ضعف الارشاد. اتمنى ان تولي حركة الشبيبة الارثوذكسية، بمراكزها وفروعها، الارشاد مكانته ونؤسس الفرق والاجتماعات واللقاءات حول أشخاص يُشهَد لهم ويملكون قدرات مؤثّرة، وحينئذ تزول الشوائب من حياة الحركة.

أخيرًا وفيما خصّ المسؤول الحركيّ، فالى جانب قيادته للحياة الحركية والجماعة فهو مدعو، كمنتَخب منها، ان يكون مُلهِمًا كذلك للجماعة. لذلك يجب ان ننظر الى المسؤول كقائد يسير بالجماعة الى حيث الجماعة ترتأي المسار، وأيضًا كمُلهم لها، بعض الاحيان،  والى حيث يجب ان تكون.

  

 

 

 


المشاركات الشائعة