تقديم الندوة حول الأب جورج مسّوح

 رينيه أنطون - 2019


الحركة والشاهد

سحَرَه المَشهدُ، فسألَني عن السرّ فيه. كنّا فتيةً نَنصُب الخيامَ في مطلِّ الشباب على أهمّ مفارق الحياة. أتى سؤالُه قبل أن تقذفَه ثورةٌ منتصرةٌ من ضفّة إلحاده، الثائر، إلى شاطئ إسلامه. كان صديقي، وقد اعتادَ الارتواء من سبيلِ أحلى البيوت، يتساءَل ويتعجّب: 

ما هذه الحروف التي نَقَشوها في ألسنتكم لتُصاغَ بها وَشوَشات فتوّتكم؟ ما هذه اللغة التي سُمِّرَت في شفاهكم لتُنشِدوا بها، وتُغَنّوا، قصائدكم؟ كمّ مِن أبٍ وأمّ لكم؟ كيفَ لرَسمِ رأسٍ، دمَّمَه الشوكُ، أن يحتلّ فسحاتِ أحلامِكم ويزيحَ منها لوحات عُشقِكم؟ مَن هذا الخمسيني الصارخ بينكم؟ مَن هذا المُلتَحي الخافتِ الصوت فيكم؟ ومَن هذا الشائبُ، خضرُ العينين، الذي خلفَه تلهَثون وبِه، وبما يَنطُق، تُسحَرون؟ 

يومَها كنتُ متردّدًا، ضبابيّ الرؤية، غيرَ مكتملِ الجواب بعد. كانَت الحَرب. كانَ الوطن بابلًا جديدة، لكلّ فيه لغتَه. للأهل لغة، لملوك الساحات لغة، ولذلك البيت، أعزّ البيوت وأحلاها، لغة. كانت النارُ في الشوارع تصارع فُتاتَ النورِ فينا. كانَ الله أسيرَ طوائفٍ صارتَ به وقودَ فِتن وسلّمَ تحكّم بالبشر. كانَت العدالة حروفًا مسروقةً من أفواه الرسلِ، والفقراءُ لغوَ عقيدة، ثرثرةَ أمسيات، كنزًا مَنهوبًا من خزنَة الانجيل. أمّا الحرّاس فكانوا، يومَها، نائمين. اليومَ، صديقي، وأنتَ ما أنتَ عليه مِن خَيباتٍ بعد التزام، وأنا ما أنا عليه مِن رجاءِ "ألا يُدركني الموتُ قبل أن يُصبح يسوع ملكًا عليّ" انقشعَ الضباب واتضَّح المشهد، وها أنا أجيبُكَ وأفضَح السرَ، وإن باختصارٍ وكلمات: 

عطَف الله على كنيسته، يومًا، فكانت حركة الشبيبة الأرثوذكسية. هي اللغة التي أعادَ بها صياغة فدائه لنا. هي طلَّة مسيحه علينا من وجوه. هي كشفٌ لاخوّته لنا. هي الأدب الذي، بحبرٍ مِن السماء، نَظَم فينا الموتَ أكذوبةً والقيامة أجمل حقائق الحياة. أمّا هؤلاء الذين عنهم سألت، فَهُم هي. هُم مَن أسرّوا لنا به إلهًا ممدودًا يُذاق، يُأكَل ولا يُلقَّن. هم من صاروا باسمِه خميرَ أسامينا. هم مَن فيهم عاينّا الانحناءَ له في الآخر سجودًا في الصلاة، ارتفاعًا اليه في السماء. هم مَن بهم شهدنا العدالة ثروةً ملكوتية والفقراءَ كلماتٍ إنجيلية. هم عقولٌ لفَظَت جهلَنا وقلوبٌ نبضَت بخلاصنا. هم أيدٍ مسكت أيادينا إلى عبّارةٍ مِن نور، قبرٍ لا جسَد فيه غيرَ ملائكة تحوم، ولا حجر.

وبعد، يا صديقي، تبقى قصّة ذلك الشائب الناظر إلينا من شرفة الجبل المفتوحَة على النور. سرُّه أن المصلوبَ اشتهى عينيه ليسريَ دمعُه منها إلينا، وسحرُه أنّه لا يُدمع ماءً بل، إن أدمَعَ، فلكنيسة الله أبناءً رجال. وجورج مسّوح واحدٌ من هؤلاء، أُدمِع مرّةً مِن تلك العينين.

 

جورج مسّوح

نَحن يا أحبتي، نحن "الأبناء"، لا نُكوَّن من أرحامٍ لحميّة. نحن، فيها، نُرسَم هياكلَ جسدية. نُمَدُّ تقدمةً تحتَ الصليب. نُبَلَّلُ بدمعةٍ من فوق، تصيرُ فينا روحًا فنَوجَد. نوجَد ولا نفسد، ولا ننتهي. وإن عَتَقَ فينا، يومًا، ما للأرض واهترى، تبدّل سعيُنا وأمسَى ما هو أحلى، أمسينا في وجهه همَسات صلاة. إن قرأتم إلياذةَ الموت لهذا الحبيب، الذي حوله نلتقي اليوم، تيقَّنتم من هذا. لا بل إن صدَّقتم إلهَكم، إن عرفتموه كما شاءَ هوَ أن تعرفَه قلوبُكم تيقّنتم من هذا. جورج مسّوح لا يختلف، فَهو شاء الصدقَ فقط. شاء أن يُعلنَ الله كما أعلنَ الله ذاته، أن يبحَث عن بصمتِه حيث أعلنَ هو أنهّا تكمن. فكلّ جمالٍ منه، كلّ إنسانٍ عُشقه، كلّ المظلومين خاصّته. إله الكلّ في الكلّ هو، وللكلّ. الكلّ مشمولٌ بخلاصه، هذا إن شاء. فلا أرضَ اليوم وغدًا سماء، بل واحاتِ ملكوتٍ، الآن وهنا، اليوم وغدًا، أينما ومتى تجلّى الاله في سفرائه الأبناء. جورج مسّوح لم يكسر مألوفًا. الربّ كسرَ المألوف. أيّ مألوفٍ هو في إلهٍ سكنَ المغارة، مجدًا، واعتلى الصليبَ، قوّة. فكم يتفَه المألوف بعد هذا. كم يتفَه الظانّون أنَّ مقاسَ الصليب هو مقاسُهم، وحدودَه حدودُهم، ومكانَه مكانُهم، وحلولَ الروح هو، فقط، حيث هم. كم يتفَه مؤمِنٌ يتعالى عن همِّ حياة عاشَها ربُّه، وشؤونِ أرضٍ لامَس أعماقها جسدُه. كم تتفَه جماعةٌ تُخلي عرشها في عينيّ مصلوبٍ من حبّ، حيث مُلكيّة الكون تمتدّ، لتلحَق بكرسيها في زاقوق المغانم والمصالح المُسمَّى مملكة الطوائف. جورج مسّوح لا شأن له غيرَ سعيه الى الفخرِ بصليب ربّه ولفظِه الانتفاخ بقوّته، غيرَ تسخيفِه للطائفَة في الطوائف وتثمينِه للأبناء، والآخر، فيها. جورج مسّوح لا فضلَ له ولا شأن. هو، فقط، اشتهى الأبوّة أحلى الألقاب، قبل تكليف ربّه بكهنوتٍ قائدٍ يسير بالرعيّة الى البنوّة الشاهدة، وبكهنوتٍ حارسٍ لئلّا تتسرّب الأشكال الى عرينِ سيّده وتصير بالذبيحة رَسمًا وبالروح المُرَفرف فوقها أسيرًا. حطَّم الأسوارَ، أعادَ للروح الكونَ، وتبعَه الى حيثّ يحلّ ويرتاح في وجوه، وأمكنةٍ، أخرى هي أيضًا مفتداة، في "وجوهٍ من نور" تجمعها منتدياتِ عُشق روحِ الربّ في الآخر.

 

الشيخ غسان الحلبيّ

فضيلة الشيخ غسّان الحلبي هو وجهٌ من تلكَ، يتصدّرَ منتديات هذا العُشق، رائدٌ في البحث عن المُشتركات الدينية، الثقافيّه والانسانية حيث التقى والأب مسّوح عليه منذ منتصف التسعينيات. وجهُ وطنٍ هوَ، وأملٌ في وطن، خطابٌ شامخٌ في البلاغة والارتقاء المعرفيّ والانفتاح الانسانيّ، صارخٌ من فوهة عشق دينه الكريم "بالأعمال وليسَ بالأنساب"، مأخوذٌ "بأنَّ المقاربة الموضوعيّة للتاريخ هي التي تخدم الوطن وليس الانجرار خلف الحماس الطائفيّ". مُجازٌ في العلوم السياسيّة والاقتصاديّة والاداريّة من الجامعة اللبنانية، باحثٌ، حتى العام 1996، في المجلس الدرزيّ للبحوث والانماء، مستشارُ مشيَخة عقل منذ العام 2006 ووجهٌ من وجوه إطلالتها المُشرقة في العديدِ من المناسبات. ماذا يقول في ما عرفه في شخصيّة الأب جورج مسّوح، رجل الدين.

 

الياس الخوريّ

ليسَت نَكبةَ فلسطين، أو غيرها، هي. ليسَت نكبةَ أرضٍ وشعب. ليسَت لحظة تاريخ. محنَةُ شهودٍ أبناء، ونَكبة الحقّ في ضمائرهم هيَ. هذه الأرض ينقُصُها الله، ينقُصُها يا سادة. فليسَ غريبًا أن تقتاتَ من الجشعِ وترتوي من الظلم. ليسَ غريبًا أن تطرَب بدماءِ الأجساد الطريّة وترتَكِضَ بأقدامِها العارية. ليسَ غريبًا أن تصيرَ بلوحات النازحين تحفةً كونيّة. الغريب أن تَختنق الحنطةُ الانجيلية فيها بزؤان ترابِها. أن ينحني المتوَّجون بأكليل الشوكِ، بلؤلؤةِ السماء، للمُزيَّنين بذهبِ الأرض، بوقودِ الجحيم. الغريب هو أن تُصمِتَنا القوّة، أن يطوِّعَنا السائد، أن تنزَح النبوّة منّا الى السماء لأنّها فقدتنا مطرحًا لها في الأرض. جورج مسّوح قرأ النبّوة في زمن الجحود صلاة، في زمن الجهل معرفة، في زمن العُهر عفَّةً، وفي زمن القمع والظلم ثورةً وعدلًا وحرّية لئلّا يصير السجودَ لهوَ أجساد.

الياس خوري، الممسوحُ الوجه بيديّ ذلك الشائب والمرفوعُ إلى ربّه بصلاة أبي الرهبان، انتفَض على هذا اللَهوِ وليسَ على مَن له السجود. لم يُرهِبه مَن أرهب أنظمةً وسلاطين وحكّام، أرهَبَه أن يُنكَب الحقُّ في ضميرِه، أن يصمتَ وفراش سيّده في الضمائر يستحيل فراشًا من حرير، فراحَ يبحث في قشّ المزود عمّا يصير به مَطرحَ نبوّةٍ بين أدباء. لاقى في بحثه عشرات الروايات والكتابات منها "التحفة الصادقة"- "باب الشمس" التي نالت جائزة دولة فلسطين للرواية. تُرجِمَت رواياتٍ له الى الانكليزية والفرنسية والالمانية والسويدية. حرّر ملحق "النهار" الثقافي. كتَب في صحفٍ لبنانية وعربية عدّة وفي دراسات وشؤون فلسطينية، وأشرَف على سلسلة "ذاكرة الشعب" عن دار مؤسّسة الابحاث العربية. أينَ لاقى الياس خوري الأب جورج مسّوح في بحثِه هذا، وكيفَ يقرأ سعيَ الأب مسّوح الشهاديّ، فلنستمع.

 

المطران سلوان موسي

"أتمِم الانجيل، ذقه، كُله إلى أن تصيرَ أنتَ الانجيل". وبعد، فربّك يشتهي كنيسةً تَحضُن عُلَماء يُعيدون للعقلِ ريادته في ورشة تقديس الأرض "وازالة التجافي بين البشر والملائكة"، كنيسةً ترفَع ودَعاء يَمسَحون عنها، بزيتِ الخشبة، عفَن القصور والسلاطين والامبراطوريّات، كنيسةً ترتكض بقادةٍ يصيرون بالخلف أمام، لا يهابون حريّة الحركة بين الأرض والسماء، لا يخافون إبداعَ ومواهب الأبناء. ربّك يشتهي في الكنيسة تبتّلًا، ليسَ مفرًّا من دنيا ِووجه وشأن، بل تكرّسًا لمَن صارَ فيكَ كلَّ الوجوه والدنيا والشأن. فَقُم أيها الشاب، سامر، المولود مِن فرحِي برسلٍ وشبابٍ، ومن أبٍ وأمٍ ينتَصبان أمامي وجهيّ صلاة. تعالَ إلى هذا السعي، والجهاد، تعالَ وصِرّ سلوان. أنعِش كنيستي في تلك البلاد الآن، وتكلّف، مِن ثمَّ، بإرثِ تلميذي في جبل لبنان. فإرثُ التلاميذ لا يحفظه غير التلاميذ، وبذوري في الأرض لا ينمّيها غيرَ الذين من الانجيل أتوا ولِكَلمتي انحَنوا. ونحن على هذا الرجاء، قم إلينا أيها السيّد وكلّمنا.

 

 

 

 


المشاركات الشائعة