مقابلة مع رينيه أنطون


مجلّة النور -  العدد الرابع 2016



في البدء كان الكلمة. كيف كلّمك "الكلمة" في البدء، في الميناء؟

 

ربّما كلّمني بخفرٍ شديد، وباللغة التي أفهمها وأنا طفل. ذلك حين كنتُ في نحو الثامنة من العمر وعبرَ طفلٍ جارٍ، رفيقَ لَعِبٍ في الحارة، يكبرني بعامَين. كانت تلفتني "فولاره" الكشفيّة كلّ أحد، ما دعانا شقيقي الأكبر وأنا، لمرافقته يومًا إلى منظّمات الطفولة في مدرسة مار الياس – الميناء. لم أكن يومًا تلميذ هذه المدرسة، إلا أنّ شيئًا منها ترسّخ فيّ من تلك الفترة حتّى اليوم. هو ممرّ مبناها القديم الذي حين دخلته للمرّة الأولى كانت تركن فيه سيّدة في العقد السادس من العمر. كان المرور بهذه السيّدة إلزاميًّا لكلّ منتسبٍ جديد للحصول على اللوازم الكشفية. لم أدرِ، حينها، أن هذا المرور سيكون يوميًّا ومكثّفًا لفترة طويلة في مسار التزامي الحركيّ، وأنّ كرسيها سيعتلي مكانةً متقدّمة في كياني، وأنّ منها سأكتسب، إضافةً إلى ما احتجته من اللوازم الكشفيّة مجّانًا، أهمّ ما تربَّيت عليه في الحركة من حسّ التزام وقواعد وسلوك. طيلة فترة طفولتنا ومراهقتنا كانت رمزه مروّه أو "المدام"، بنظرتها المؤنِّبة لنا، مربّيتنا الحركيّة الأولى. وبسبب حضوري المكثّف، والمسؤوليات المحلّية في الفرع، التي تحمّلتُها خلال مطلع شبابي، توطّدت العلاقة والثقة مع هذه السيدة. هنا يجب أن أذكر أن إصرار "المدام" التي كانت تتقن اللغة الفرنسية دون قراءة العربية، على أن أقرأ لها منتصف كلّ أسبوع مقالة المطران جورج خضر في جريدة النهار المعلّقة على لوحة الإعلانات في بيت الحركة، بالرغم من عدم فهمي لمضمونها يومَها، كان هو مدخلي إلى قراءة كتابات المطران جورج وكتبه بشكل منتظم.

في منظّمات الطفولة لم يجذبني غير أمرَين، اللّعب مع الرفاق بعد انتهاء "التوجيه"، وقصّة عيد الميلاد واحتفالاته. انحصر ما حفظته من تعليم تلك المرحلة بهذه القصة وأبطالها، المغارة ويوسف ومريم وتواضع الطفل يسوع والرُّعاة والمجوس وهداياهم. لكنّها لم تتخطّ، في داخلي، كونها حكاية جميلة. أمّا ما هي العلاقة بين ميلاد يسوع ومحبّة الله لنا وكيف خلّصنا المسيح وهو على الصليب، ولماذا، إذا كان يحبّنا، تخافه أمّي وتصلّي وتشعل البخّور أمام الأيقونة كلّ ليلة وتدعونا للصلاة إليه كي لا يُصيبنا بمرض أو مكروه، فبقيَت تساؤلات لم أجد لها أجوبةً شافية إلا في مراحل متأخّرة بدأت خلالها بالتعرّف على الأخ كوستي بندلي والتدرّج في الاطّلاع على فكره وفهم الأحداث الخلاصية.

تقطّع التزامي في تلك الفترة وثَبُت في مرحلة السنة الثانية أو الثالثة من الاستعداديّين بسبب تأثّري الشديد بمرشد فرقتنا حينها. كان مرشدنا ذاكي تاجر، رحمه الله، شخصًا وديعًا، قليل الكلام، مصلّيًا، قارئًا نهمًا، وكان يعمل ويتابع دراسته الجامعيّة في آن. شدّتني إليه عدّة أمور معًا. معرفته وثقافته والتزامه المشترَك مع من أمسَت، لاحقًا، مرشدتي وزوجته. إلا أن الأهمّ منها كان اهتمامه بجوانب حياتي الشخصية وسعيَه لصداقةٍ عميقة معي رغم فارق العمر. صداقة تحاورنا فيها وترافقنا بالصلوات الطقسية والأنشطة الثقافية والأفلام السينمائيّة وكانت حافزًا لأبدأ بمطالعة الكتاب المقدّس وبعض كتب "النور" ومُساعدًا لي لاكتساب الثقة بالنفس خصوصًا وسط الأحوال الاجتماعية الصعبة التي كنّا نعيشها. يقيني أنّ في تلك المرحلة بدأتُ، شيئًا فشيئًا، السعيَ إلى يسوع رغم المراهقة التي رافقت هذا السعي.

أنت ابن فرع الميناء، ماذا يعني أن تنشأ في فرع حركي فيه زخم الكبار، كسيدنا بولس بندلي وكوستي بندلي وسيدنا جورج خضر، حدّثنا عن البصمة التي تركوها:

حول المطران جورج خضر

الإجابة لا تُختصر بكلمات لأنّ كلًّا منهم كان إطلالة إلهيّة على حياتي. أبدأ بالمطران جورج الذي، وهو كاهن، كنت أسمع تذمّر والدتي وسيّدات الميناء من طول عِظاته وصعوبتها وتأنيبه الدائم لهنّ. لم أعرفه إلا بُعَيد انتخابه مطرانًا. أذكر، وأنا في عمر المراهقة، أنّ إطلالته الأسقفية وخطبته في أحد احتفالات عيد الحركة في طرابلس بهرتني. ومنذ ذلك الحين بدأتُ أتابع كتاباته وعِظاته بغضّ النظر عن مدى فهمي لها، وصرت، وبعض الرفاق، نرصد وجوده في المحيط القريب لنتبعه ونستمع إليه. ساعدَ تدرّجي في المسؤولية في الفرع باكرًا، في نشوء علاقة شخصيّة معه تمتّنت لاحقًا بحكم مسؤولياتي وما جمعنا معًا. أذكر في تلك الفترة أنّ لقاءات حرّة كانت تجمعنا به من وقت إلى آخر وكنت أعدّ لها وأشارك فيها وتزيدني سحرًا به شخصًا وأدبًا وفكرًا وقامةً إيمانية. وأشعر أن الأسباب لا تعود إلى بهاء إطلالته وفكره وحسب، وإنّما، أيضًا، إلى ما وَمَض منه أحيانًا أمامي وكان كثير التأثير بي: كتابه "حديث الأحد" بتنوّع مواضيعه وأسلوب مقاربتها. جوابه لي يومًا وأنا شاب، ردًّا على تذمّري من صعوبة كتاباته: "أفهم أنّك تطلب منّي أن أنحدر إلى جَهلكم وضعف لغتكم، عليكم أنتم الشباب أن ترتقوا إلى الفهم، إلى معرفة الإنجيل وفهم الفكر واللغة والأدب". الدموع التي رافقت عينيه يوم حدّثني عن زيارته للأردن وإطلالته من أحد الأمكنة على الأماكن التي وطأتها قدما يسوع المسيح. مشهده في حلقة حوار جمعتنا وهو يستمع بهدوء شديد وتقبّل مُلفت إلى نقدٍ لاذع من أحد كهنته لرأيه في موضوع كتابيّ خلافي كبير. بساطة حياته الأسقفية اليومية وطاعته للجماعة الحركيّة التي ترافق تألّقه. هذه وغيرها قادت إلى أن أراه قناةً مُضاءةً عبرتُ فيها لأطلّ على ما في مسيحيّتي من سحر وجمال.

حول المطران بولس بندلي

المطران بولس بندلي نَمَت علاقتي به مع كلّ نموّ لي. كلّ ما فيه كان يعرّفني بالربّ ويقودني إليه. عايشته أبًا روحيًّا، مرافقًا للقاءاتنا، كاهن رعيّة، قائد لأنشطة رعائيّة ومؤسّس لرعايا وفروع حركيّة، مسؤول إرشاد، وكيل أسقف، وأسقف. وكان أيضًا، يخدم اللقاءات الصلاتيّة ويمارس الإدارة والتعليم المدرسيّ والجامعيّ، ويُنشد، في كلّ هذه المهمّات ما كنّا نعتقد أنّه يستحيل على أيّ إنسان.

أُنعم عليّ بأنّ أشاركه، لفترات، بعض أُطر الخِدَم الإرشاديّة والرعائيّة، وكنتُ كلّما اقتربت منه كُشف لي المزيد من ضعفاتي وبرز هو أمامي حالةً يصعب عليّ فهمها. الوداعة الشديدة والصبر الكبير والتعب الذي يصعب على أي امرؤ تحمّله، ومعهم إصرار على جمع معظم هذه المهمّات في فترة واحدة، وعلى المشاركة في كلّ اجتماع وإن اقتضى الأمر أن ننتظر وصوله، أحيانًا، كثيرًا من الوقت. إلى جانب هذا أذهلني فيه اختياره، بكامل إرادته، للفَقر الشديد في كلّ مراحل تكرّسه وشغفه بالفقراء، وحكاياته التي لا تُصدَّق معهم والتي تعكس تخلّيه الكامل عمّا يقتني أو يملك. اختصارًا، جسّد المطران بولس أمامي كيف ينقص الإنسان، بفرح، ليزيد المسيح. هذا ما أبقى وجهه محفورًا في ضميري وكذلك حدثَ رقاده الذي جرحني كثيرًا تلك الليلة. أذكر، بعد تلقّيَ الخبر من الأخ حنا حنا تلك الليلة توجّهنا الأخ ابراهيم رزق وأنا، وكنّا في أسىً شديد، كلٌّ من منزله إلى دار المطرانية في عكّار. طيلة الطريق جمعتنا مكالمة هاتفية بكينا فيها سويّة واستذكرنا أحداثًا معه وعدّدنا مآثره وتأثيره فينا وانتهينا إلى توصيفه أنّه كان إنجيلاً سارَ أمامنا إلى حيث صار قدّيسًا يرعى حياتنا من فوق، وأن كنيستنا ستكون، بغيابه الجسدي عنها، مختلفةً عمّا كانت عليه بحضوره فيها.

حول الأخ كوستي بندلي

الأخ كوستي بندلي قامةً ما زالت تحضر أمام وجهي في كلّ مناسبة، خصوصًا حين أقف على شرفة منزلي وأنظر إلى البحر المقابل. ذكر مرّة أمامي، وهو في مرحلة متقدّمة من العمر، أنّه بات يؤدّي صلاته اليوميّة خلال ممارسته رياضةَ المشي على الكورنيش البحري فجرَ كلّ يوم. قرّرتُ أن أحاول التمثّل به وصرتُ أقصد الكورنيش في الوقت ذاته. حدث أن صادفته ذات يومٍ وجهًا لوجه وهو يمشي ويتمتم محنيًا رأسه إلى الأمام. ألقيتُ عليه تحيّة الصباح ووقفت، فلم يتوقّف ويجبني وعبرَ عنّي كَمَن لم يرَ أحدًا، ولمّا صارحته في اليوم التالي بذلك، أكّد لي أنّه لم يراني ولم يسمع تحيّتي. حينها عرفتُ كم يكون مأخوذًا، في صلاته، بيسوع المسيح. علّمني بالفكر والحياة ورافق حياتي يوميًّا بصلاته. إن أُعطيت، والأخوة من أجيال مختلفة في الميناء، شيئًا من الحسّ الإيماني والالتزام والمعرفة فإنما يعود الأمر له أكان منتصبًا أمامنا في كلّ صلاة وقدّاس، أم شارحًا لنا الكتاب في حلقات كتابية، أم محاورًا لنا حول كلّ المواضيع في ندوة الثلاثاء، أم حارجًا إيّانا بوصوله قبلنا إلى كلّ اجتماع مهما بلغت صعوبة الظروف الأمنية، أم جالسًا وسط كتبه في مكتبه، أم مصغيًا إلى همومنا الشخصية ومتابعًا لها، أم جالسًا في المواقع الخلفيّة في كلّ مناسبة حركيّة، أم مستقيلاً باكرًا من أية مسؤولية إدارية احترامًا لقدرات الشباب، أم ناشدًا صداقتنا نحن الصغار، أم محفّزًا إيّانا على كسر كلّ تقليدية تعيق إبداعنا، أم مشاركًا لنا في حلقات حوار مع الآخر ومتقدّمًا إيّانا في المسيرات الصامتة احتجاجًا على الظلم وفي كافّة إطلالات الشهادة في المجتمع المدني.

ربما أن قبلة تأثيره بي أن بمرافقته انقلبت مفاهيمي وعلاقتي بالله من علاقة خوف إلى حبّ وحرّيّة، فدُفن في ذهني ذلك الإله المرعب وحلّ مكانه، في قلبي، مشهدُ يسوع المسيح على الصليب، ومعه عرفت أن الإيمان أوسع من التديّن بين جدران الكنائس والمؤسسات الدينية، وعشت يسوع أرحب من كلّ طقس وتعريف وتحديد بشري له، وأنّ بمرافقته سهُلَ عليّ الخروج من الراحة الذاتية إلى تعب لقاء الآخر وصادقت قضايا العدالة وتحرّرت من أَسر الطائفية وعرفت المطالعة وبعض الكتابة. ويبقى أنّ به شهدت كيف يكون "الأوّل آخرًا والآخر أولاً". لكن أصارحكِ أنّه رغم حضوره هذا في حياتي، النافر والخفر في آن، عجزت في كثير من الأحيان عن أن أجاريه ثورته وجرأته الإنجيلية. وربّما كان هذا بسبب أن محبّتي للربّ لا تجاري محبّته.

ختامًا، حول تأثير الكبار، أقول أننا نُخطئ الظنّ إن اعتقدنا أن سرّهم وسحرهم يكمنان في قدراتهم الإنسانية والفكرية، لأنّهما، في حقيقة الأمر، يكمنان في عشقهم النادر ليسوع المسيح، والذي منه وُلد إبداعهم. ومثال أخير على ذلك، أنّه كلّما كنتُ أتفقّد الأخ كوستي وهو في مرضه وذروة ألمه كان يسبقني في الاطمئنان عن أحوالي الشخصية ويُغدق عليّ بكثير من الدعاء، وكلّما كَبُرَت معاناته وزاد ألمه زادت صلاته. واستمرّ بذلك حتى أيّامه الأخيرة ما أشار لي إلى أنّه ثبت في صداقته ليسوع في ظلّ أقسى التجارب حتّى اللحظة الأخيرة.

الأخ رينه أنطون أمينًا عامًّا للحركة لثمانِ سنوات متتالية، ولسنتين أخريين من بعدها. هل كان هذا خيار الموهبة التي أعطيت؟

كان هذا خيار محبّة الأخوة وثقتهم التي فعلاً لا أستحقّها. ولا أدّعي بهذا أمرًا خارجًا عن قناعاتي، فأنا أعرف نفسي جيّدًا وأعرف، بالمقابل، كم من طاقات ومواهب تفوقني أهليّةً لهذه المسؤولية، تضمّ هذه الحركة. فحقًّا لا أدري ما هي حكمة الربّ التي وضعتني فيها طيلة هذه السنوات. لكن إن لحظت الجماعة حدًّا أدنى من إمكان تحمّلي لهذه المسؤولية فالفضل يعود أوّلاً وأخيرًا لها، الجماعة تبني. كلّ ما ذكرته سابقًا، إضافة إلى تدرّجي في عدّة مسؤوليات، هو من معالم هذا البناء. أضف إليه لقاءات خارج الأطر الحركيّة الرسمية كانت قد جمعتني بالعديد من الأخوة، الأصغر منّي والأكبر. هذه اللقاءات قوّت تواصلي الشخصي معهم وساعدتني على الرسوخ في الحياة الحركية وتعلّمت فيها الكثير. هذا ربّما لأنّها ضمّت، مما ضمّت، أخوة قياديين آنذاك أذكر منهم مثالاً الأخ جورج نحاس والأخ شفيق حيدر والأخ غسان الحاج عبيد ... إلخ. وأضف إليه كذلك تسميَتي من قبل الأخ ريمون رزق كمساعد له، على أكثر من صعيد، خلال تولّيه مسؤولية الأمين العام لأربع سنوات سبقت تولّيَ هذه المسؤولية. فثقة الأخ ريمون وفسحة المبادرة الواسعة التي منحني إيّاها، هو الذي أيضًا تعلّمت منه الكثير، ساهمت في صقل شخصيّتي الحركية بعض الشيء وفي إفساح مجال أوسع لتعرّفي على هموم الحركة العامّة والانخراط فيها.

كيف تقيّم هذه التجربة على الصعيدَين الشخصيّ والحركيّ؟

السؤال لا ينفصل فيه الشخصيّ عن الحركيّ. هي تجربة قفزت بحياتي، على كافّة الأصعدة، من مكان إلى آخر. أحسست نفسي مغمورًا باحتضان الأخوة وثقتهم. هذا أمر ليس بهيِّن إذ يضعك أمام مسؤولية كبرى هي حفظ هذه الثقة وعدم خذل الأخوة، الأمر الذي يستدعي جهادًا وتعبًا شخصيًّا، بغاية أن تفي المسؤولية ما تتطلّبه وتلتزم، بدايةً، أمام الأخوة ما تدعوهم أنت إليه. وهذا ما كنت أسعى إليه على الرجاء. كذلك بات حضور الحركة بهمومها، مع عائلتي في البيت، ومع عملي في المكتب، يحتلّ مساحة واسعة من أولوياتي وتفكيري وجزءًا من اهتمامات عائلتي وكذلك من يشاركني العمل. أذكر أنّه لولا مساندة زوجتي، دوريس، عبر تفهّمها وتحمّلها لبعض المسؤوليات المنزلية والتربوية بدلاً عنّي، وتحمّلها الكثير من أوقات الوحدة، لاستحال عليّ الاستمرار بالمسؤولية طيلة هذه الفترة. وعلى صعيد العمل أذكر أمرًا معبّرًا جدًّا وهو أن اتصالات هاتفيّة باتت تَرِد إلى مركز عملي وتسأل "هل هنا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة؟" وتجيب عليها الموظفة المعنيّة، غير الحركية، بنعم. وأذكر أيضًا أمرًا آخر أكثر تعبيرًا، أنّ يوم انتخاب مطران طرابلس الحالي (سيادة المتروبوليت أفرام) خلفًا للمطران الياس قربان، كنّا نتواصل هاتفيًّا حول هذا الموضوع، الأب إيليا متري، الموجود يومها في دير مخائيل – بقعاتا، وأنا. ولما صودِف أن كنتُ منشغلاً في مكالمات أخرى تتعلّق بهذا الشأن، كان الأب إيليا يبقى في خطّ مفتوح مع هذه الموظّفة لإبلاغي رسائله، ومن ثمّ تولَّت هي إبلاغ بعض الأخوة بنتيجة الانتخاب. ما شئت قوله أنها كانت فترةً عُجن بها يومي بكامله بهموم الحركة واهتماماتها. كانت أهمّ الفترات في حياتي وأحلاها وأصعبها وأتعبها. فيها تربَّيتُ وربَّيْت، ووُجِّهتُ ووجَّهتُ، وأُرْشِدتُ وأَرشَدت، وحُضِنتُ وحَضَنْت. وفيها اختبرتُ الجماعة الحركية الواحدة بأبهى صورها وشدّة إخلاصها وعطائها لقضية يسوع المسيح. هذا الإخلاص أراه هو النعمة الكبرى التي أنعم الله بها على الحركة. هو الأهمّ الذي وُجِد فيها والذي به تستمرّ، أما الباقي كلّه فإنّما يُعمَل عليه ويُعطى لنا.

ما هي أهمّ التحدّيات التي واجهتها وما هي، بنظرك، مَواطِن القوّة والضعف في الوضع الحركيّ العام؟

طبعًا كثيرة جدًّا هي، لكن اختصارًا أذكر الثلاث الأهمّ منها. التحدّي الأول هو صَوْن الوحدة الحركية في ظلّ التوسّع الجغرافي والعددي للحركة. وهذا شأن لطالما رأيته مترابطًا مع إعادة الفعالية التربوية إلى الإرشاد الحركيّ. هذا تحدٍّ دائم وما سعينا إليه هو أن نساعد المراكز على هذا الصعيد، أكان عبر تكثيف أنشطة الأمانة العامة وحلقاتها والبحث عن إطلاق مبادرات جديدة في هذا الإطار، أم عبر السعي إلى لقاءات مباشرة مع الشرائح الحركية قدر الإمكان. إضافةً إلى هذا سعيتُ، دون فلاح أكثر الأحيان، إلى أن لا ندع وطأة الوجه المؤسساتي للحركة تضرّ بالعمل الإرشادي، فرجَوْتُ دائمًا، وما زلت، أن نعود إلى بناء الفِرَق الحركية بما يتماشى مع الطاقات الإرشادية المؤهّلة الموجودة لدينا وليس بما يتماشى مع متطلّبات الشكل المؤسساتي والتنظيم. الثاني هو استقامة العلاقة مع الرعاة والرئاسة الكنسية. هذه العلاقة التي ليس سرًّا القول أنه تعتريها، في بعض الأحيان، شوائبٌ لأسباب تعود إلى ضعفات بعضنا، حركيين كنّا أو رعاة. هنا وجب علينا، نحن الحركيين، أن نعي أن سعينا إلى أفضل العلاقات مع الرعاة، وبناء أجواء من الثقة والمودّة معهم، مع ما تتطلّبه من إشراك واستماع إلى ملاحظاتهم إن وُجدت وتوجيهاتهم، هو أمرٌ لا سبيل إلى استقامة عملنا الحركيّ دونه. كما وجب على الآباء الرعاة أن يعوا أنّ التسلّط "الأبويّ" في كنيسة يسوع لا يتماشى مع طبيعتها الشركويّة، وأنّ وجود الحالة الحركية هنا وهناك إنّما ليس هو وجود إزاءَ المؤسسة الكنسية بل فيها ولها، ولونًا وحدويًّا وتربويًّا جميلاً من ألوانها، وأنّ لا سبيل إلى أن تنهض كنيسة الربّ وتملأها الحيويّة وتتأهّل للتأثير في مجتمع اليوم بغير أن تملأها مبادرات الشباب، غير المقنّنة، وبأن يشعر الشباب، وغيره، أنّ حرّيّته مُحتَضَنةٌ ومُرعاة في رحاب الكنيسة الواسعة. يقيني أن الجميع يدرك، خصوصًا أن معظمنا نشأ وتربّى في الحركة، أن الحركة لم تطلب شيئًا لذاتها طيلة تاريخها. هذا لا ينفي الأخطاء ولا يلقي بكامل المسؤولية، إن شاب هذه العلاقة شائبة، على جهة دون أخرى. يبقى أن نسعى جميعًا إلى "أن ننقص نحن ليزيد المسيح".

الثالث هو صَون الحركيين، وبالتالي الحركة، من السقوط في حالة التشدّد والانغلاق، وتفعيل روح الانفتاح فيها خصوصًا في ظلّ ما نشهده من تنامي هذه الحالة في الوسط الكنسيّ. وهذا شأن يصبّ أساسًا، ويترابط مع استقامة العمل الإرشاديّ وما ذكرته سابقًا على هذه الصعيد. وللمناسبة لطالما شدّدت، في هذا السياق، على أنّ الانتماء إلى الحركة إنّما هو انتماءٌ إلى مبادئ قائمة وتراث موجود وخبرة معيوشة، وهذه كلّها وُجدت من خبرة الكنيسة وفكر الإنجيل. فلا يستطيع أحدٌ أن يوجد في الحركة وينتمي إلى غير ما تقول به مبادؤها وما خطّه تراثها، هذا لا يستقيم انتماؤه.

حدّثنا عن التكريس، وخاصّةً عن تكريس المتزوّجين انطلاقًا من خبرتك الشخصيّة.

انطلاقة الإنسان في التكريس تبدأ بإقراره أنّه دون الله لا شيء، لأنّ دون القيامة بالربّ لا حياة. بهذا الإقرار ينطلق سعيه إلى أن يشخص إلى الربّ ويقتني فكر الإنجيل دون أن يغريه أمرٌ غير فضائل المسيح. نحن في هذا السعي، متبتّلون أو متزوّجون كنّا، وكلٌّ من واقعه الحياتي. طبعًا ليس سهلاً على من يحيا الحياة المدنية أن يَثبُت في هذا السعي دون أن يعتريه سقوط أو ضعفات. المهمّ أن نعود وننهض كلّما تعثّر سعينا، وأن نبقى شاخصين إلى هذا الاتّجاه إن لَهَوْنا عنه يومًا أو فترةً. في الزواج، أقرأ التكريس، بوضوح شديد، في وجوه واهتمامات مختلفة. أقرأه أولاً في السعي إلى حياة زوجيّة ترتكز على التزام كلّ زوج بالآخر والإخلاص له. أراه في كبت الأهواء، في تربية الأبناء على هذا الشخوص إلى الله وطلب حضوره في حياتهم والتزامهم حياة الكنيسة، في السعي إلى أفضل تعليم لهم وثقافة كي يساهموا في ارتقاء مجتمعهم إلى الأفضل، في التسبّب بفرح العائلة ولإيفاء حاجاتها مهما لزم الأمر من تعب، في السلام العائلي الداخلي. وأقرأه في المجتمع، في الحضور بهويّة إيمانيّة في كلّ أصعدة الأدب والفنّ والثقافة والعلوم والإبداع، في التزام قضايا العدالة المجتمعية، في السعي إلى نظم أفضل، في العمل على إعلاء شأن الكرامة الإنسانية. أراه في وجوه أخرى عديدة. طبعًا أنا لا أقول أنني على هذا كلّه بل أن السعي إلى كلّ ما ذكرته، بتمايز إنجيليّ، هو تكرُّسٌ للربّ. فلا أعتقد أن التكريس يستقيم في مكانٍ ولا يستقيم في آخر. يقيني أننا جميعًا بشرٌ، "نحمل هذا الكنز في أوانٍ خزفيّة" ومعرَّضون للضعفات أينما وُجِدنا. يبقى أنه كلّما تمرّس أحدنا في محبّة الربّ والتوبة كلّما سار إلى الأمام في تكريس ذاته.

أظهرت الأزمة السورية انعكاسات لا نزال نتلمّس نتائجها إلى اليوم، من مآسٍ وهجرة وتداعيات اقتصادية. قمتَ بتأسيس هيئة الطوارئ الاجتماعية. كيف تقيّم عمل هذه الهيئة حتى اليوم وهل من خطوات أخرى اتّخذَتها الحركة؟

 يومَ بادرنا إلى تأسيس هيئة الطوارئ كان يشغلنا همٌّ واحدٌ، هو دعم الأخوة، ومعهم المحتاجين في سوريا، والتعاضد معهم في ما يساعدهم على الثّبات في الأرض والخدمة والالتزام. طبعًا، ومع الأسف الشديد، تفاقمت الأزمة السورية بشكل مؤلم وخطير وكَبُرَت تداعياتها بشكل يفوق طاقة الدول وليس الجماعات وحسب. ما أقدَمَت عليه الحركة وما أنجزته هيئة الطوارئ إلى اليوم أمرٌ يُفرح القلب ولا يستطيع امرؤ أن يقلِّل من أهمّيته وآثاره الإيجابيّة. وقد استمعنا إلى الأخوة في سوريا، في أكثر من مؤتمر، عمّا كان لتقديمات هيئة الطوارئ من انعكاسات إيجابية كبيرة. غير أنّ السؤال هل هذا يكفي لنقول، كحركيّين، أنّنا نبذل ما هو ممكن على هذا الصعيد؟ دعيني أكون صريحًا في هذا الموضوع. الأهمّ، بالنسبة لي، في كلّ ما تعرَّضَت له سوريا، وكذلك لبنان، هو أن نبقى في تساؤل وبحث عن إجابات دائمة. كيف لنا، كأبناء الإنجيل، أن نساهم في تحصين أوطاننا ومجتمعاتنا في وجه الحروب الأهليّة. كيف لنا أن نكون داعمين لما يؤمّن استقرار المجتمع والإنسان فيه ويُبعده عن العنف والقهر. وجوابه معروفٌ وواضحٌ وهو أن تنعم المجتمعات بالعدالة وتُمنح الجماعات المدنيّة فيها حرّيّة التعبير والمبادرة. أن يُحتَرَم الإنسان وقِيَمه وأن يكون في وطنه ذو قيمة. كيف لنا أن نساهم في هذا الأمر. أرى جوابه في ضرورة أن نقارب هذه الأمور بجرأة. على هذا الصعيد، نحن ما زلنا في خللٍ شهاديّ يقتضي التصحيح. ممّا هو الخوف إذا كنّا حقًّا أبناء الربّ ومتجرّدين من المصالح. ملايين القتلى سقطوا حولنا، ما بين سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، في سنوات قليلة دون أن يُعالَج الأمر، عجزنا كمؤمنين وليس كحركيّين فقط. أقلّه أرى أن الأمر يدعونا إلى أن نؤسّس لآليّة تربّي أعضاءنا، بهويّتهم الإيمانيّة، على المسؤوليّة والحيويّة الاجتماعيّة المدنيّة، وعلى جعل شؤون المجتمع وإعلاء شأن الحقّ فيه بُعدًا مُجسِّدًا لإيماننا وهمًّا ملاصِقًا لسائر همومنا النابعة منه.

كيف نذهب إلى علاقة أكثر فعاليّة في العمل الرعائيّ ين المراكز الحركيّة والرّعاة؟

حول الوضع الرعائيّ

هذا الموضوع يقتضي اليوم نُضْجًا رعائيًّا قد يكون مفتَقدًا هنا وهناك. يؤلمني جدّا المشهد العام لكنائسنا اليوم. نسبة المصلّين والمهتمّين بحياة الكنيسة لا تتعدّى الثمانِ في المئة في أحسن الأمكنة والأحوال، نسبة الشباب منهم لا تتعدّى العشرة في المئة، ونسبة المتقدّمين في العمر منهم تفوق النصف. هذا أمرٌ مقلق ويطرح على ضمائرنا، آباءً وأبناء، سؤالاً مصيريًّا. أيُمكن لكنيستنا، بهذا الواقع، أن تواجه الغد. هذا هو الأمر الذي يجب أن يشغلنا جميعًا، وبشكلٍ أساسيّ يجب أن يشغل الرعاة. من جهة الحركة، أُقرّ أن أعضاءنا لا يُولون الشأن الرعائيّ الأهميّة التي أولاها له فكرنا وتراثنا. ومن جهة الرعاة، ما زلنا نفتقد إلى الرعاية التقليدية كالزيارات والسهرات الرعائية وافتقاد المرضى وما إلى ذلك. علمًا أن هذه الرعاية باتت لا تفي أبدًا بالحاجة لكون العمل الرعائيّ اليوم بات يحتاج إلى مقاربة وتوجُّه جديدَين بالكلّيّة. فالغربة القائمة بين المؤمنين وكنيستهم، وكذلك أزمة الثقة، باتت نافرة جدًّا. لن أتحدّث عن الأسباب الكثيرة لكن أُوضح أن غاية الرعاية، بنظري، ليست أن نؤسّس لعلاقة شكليّة بين الكنيسة والمؤمنين بل أن نَصِل بكلّ شخصٍ وعائلة إلى أن يكون الله حاضرًا في حياته، ألِفًا وياءً، ليكون حضور الناس في كنيستهم ترجمةً لحضور الله الفاعل في حياتهم. حضور الله هذا لا سبيل إليه إلا بما يشدّ الناس إلى ربّهم عبر كنيسته، وهو الأمر الذي يقتضي أوّلاً أن يعاين المؤمنون حالاً من المصالحة المفقودة بين المؤسسة الكنسية وتربيتها على إنجيل الربّ، وأهمّ وجوه هذه المصالحة أن يلحظ الشباب سعيَ مَن في الكنيسة إلى أن يجسّد في حياته، هو، ما يعِظَهُم به ويدعوهم إليه، وأن يعاينوا الكنيسة واحةً فيها من جمال يسوع ما يُبهِر، جمال المحبّة والوداعة والفضائل والوحدة والتخلّي والحرّيّة والثقة وعشق الفقراء وما إلى ذلك. هذا ما أمسى اليوم مدخل الأجيال الشابّة إلى الكنيسة، فأين نحن منه؟ وكيف للشباب أن يثق بأن الالتزام الكنسيّ لا يقتضي منه التغرّب عن الاهتمام بحاجات الحياة وشؤون الدنيا بل إلى أن ينغمس فيهما بخصوصيّة المؤمن؟ وكيف تُتَرجَم هذه الخصوصيّة في زمن اليوم بما فيه من جمالات ومُغريات وإبداع وعلوم؟ لا أرى سبيلاً أمامنا إلى عمل رعائيّ فاعل إلّا بالتسلّح بإجاباتٍ على هذه الأسئلة، وأسئلة كثيرة معها، لبناء رؤية رعائيّة جديدة جليّة. إنّ خطوةً هامّةً، على هذا الصعيد، كانت قد بدأت في المؤتمر الأنطاكيّ الذي دعا إليه صاحب الغبطة يوحنّا العاشر في البلمند، لكنّ المؤسف أن توصياته لم تتفعّل إلى اليوم ولم تجِد، كما نشعر، آذانًا صاغية من المجمع المقدّس. وهذا، برأيي الشخصي، يعكس أنّنا ما زلنا في حالة لاوعي لعمق الأزمة القائمة وخطورتها على الشهادة في المستقبل.

كلمة أخيرة أخ رينه؟

أشكرك وأشكر المجلّة على هذا اللقاء. رجائي الدائم أن يقوّينا الله جميعًا وينمّينا في خدمة الكنيسة والأخوة، وأن نعاين الروح يبرز أكثر وأكثر في الحركة، والفقراء يحتلّون مكانتهم الإنجيليّة في الكنيسة وفي كلٍّ منّا ليفرح يسوع بكنيسته وبنا نحن الأبناء.

 


المشاركات الشائعة