حديث الأمين العام - المؤتمر الحركيّ 2015

رينيه أنطون - المؤتمر 46


ربّما هي المرة الأولى التي لا يتقدّم فيها الأمين العام بتقرير خطّي الى المؤتمر. وما دفعني الى هذا  أسباب. لقد سبق أن قاربت معظم هواجسنا الحركيّة في تقاريري خلال السنين الماضية، وكذلك فعل سائر الأمناء العامين بحيث أنّ مقررات وتوصيات المؤتمرات الحركية طالت مختلف أصعدة حياتنا الحركية التي اتخذت فيها القرارات اللازمة. غير أن تنفيذ هذه القرارات وامتداد مفاعيلها في حياة المراكز بقي، على مدى سنوات طويلة، خجولاً جداً ما يعكس اشكالية تتعلّق بوحدتنا في الحركة لكون المؤتمر الحركيّ هو إطار نجسّد فيه هذه الوحدة ونرسّخها. هذه الاشكالية، اضافة الى غيرها من الصعوبات، دفعتني الى  أن أصارحكم، شفهياً، في  هذا المؤتمر بما لا بدّ من أن نتصارح به. 


الوحدة الحركيّة

لا يكفي أن نعبّر عن وحدتنا بالشكل وحسب، واذ أعلم كمّ  أنّ جميع الأخوة، على المستوى النظري،  متعلّقون بهذه الوحدة فإن هذا لا يكفي أيضاً ما لم نتوصّل الى أن تكون لنا، فعلاً لا قولاً، مفاهيم ورؤى واحدة لبعض العناوين الأساسية. سأنطلّق من تعريفنا الذي سبق وحدّدناه  أكثر من مرّة لهوية الحركة. قلنا، باختصار، أن الحركة هي ورشة بناء للشخص والجماعة في يسوع المسيح بغاية أن تصل بهما الى امتلاك الرؤية الايمانية العميقة التي بها ينهضون ويساهمون في نهضة الكنيسة. هنا لا أستطيع الجزم بأنّ لدينا هذا المفهوم  الواحد للحركة في بعض أماكن تواجدنا. فوطأة السنوات الطويلة من عمر الحركة وما قادت اليه من مراوحة في الممارسة المؤسّساتية اليومية، واختلاف البيئات والتقاليد التي تحوط بها وكثافة الحاجات والاهتمامات المحلية، كلّها قد تكون ساهمت في افتقادنا الى هذا المفهوم الواحد وكذلك جعلت رؤيتنا الى بعض العناوين تتباعد. فمثالاً، هل نمتلك، في كلّ أماكن تواجدنا، رؤية واحدة لمقاربة الكتاب المقدّس؟ هل نعيش ونربّي على مفهوم واحد للحياة الروحية؟ لا أظن ذلك، ودليلي المعبّر أن أحد الشباب، الذين أشهد لحيويتهم والتزامهم، راسلني يوماً طالباً منّي ان اقنرح عليه مواضيع لبحثها في لقاء أسرته أو في مخيّمها أو اجتماع فرقته (لم أعد أذكر تحديداً هذا التفصيل). ولما لم أكن أعرف تحديداً ما هي هواجس الشباب في بيئته حسب أولوياتها،  اقترحت عليه أن يطّلع على صفحة الأخ كوستي بندلي الالكترونية التي تتضمّن عشرات المواضيع التي تهمّ الشباب والتي لم تنشر بعد ليختار منها ما يراه مناسباً، وكلّنا يعلم خصوصية الأخ كوستي في مقاربة سائر مواضيع الحياة  انطلاقاً من الرؤية الانجيلية.  فكان جوابه لي: "مع محبتي وتقديري للأخ كوستي إلا أنني أرغب في مواضيع روحية"!  

وأضيف عناوين أخرى، هل لدينا مفهوم واحد للطاعة، للحرية، للعمل المسكوني، للعمل الشهادي؟ هل تجمعنا، فعلاً وليس قولاً، رؤية واحدة لدور الشباب في جسم الحركة والكنيسة. بالتأكيد تتباين آراؤنا كثيراً حول هذه الأمور، كما أن هناك الكثير من التذمّر بين أجيال الشباب من القيادات الحركية في أكثر من مكان. هذا كلّه يسألنا أن نولي موضوع الوحدة في حياتنا الحركية اهتماماً أكثر وأن نقاربها بجرأة أكبر. 


التربية والارشاد

أما بخصوص رؤيتنا الارشادية، فسبق أن أكّدنا أن المرشد هو الشخص الذي يقود أعضاء فرقته الحركية الى الحياة في المسيح، ويبنيهم وينمّيهم في هذه الحياة ليصل بهم الى القامة المرجوّة. هذا  يعني أنه يساهم في تغيير الشخص كيانياً ما يستوجب أن يكون مؤثّراً، أي  أن يكون لديه سيرة وسمات إيمانية تأثيرية. أما في واقع الأمور فأن الحركة، عبر تاريخها الطويل، قد انتشرت أفقياً بشكل واسع جداً دون أن تكون قادرة على مواكبة هذا الانتشار ارشادياً كما يجب. وبدل أن نبحث عن حلول، في ظلّ هذا الوضع، تتوافق ورؤيتنا الارشادية بقينا نراوح في هيكلية عملنا التي تقول بالفرقة الحركية وحدة دراسة وشهادة وعيش وصلاة مترافقة مع افتقادنا لما يكفي من المرشدين المؤثّرين. هذا ما آل بنا، في بعض الأماكن، إلى أن نكون مدرسة تعليم ديني، والحركة ليست هذه المدرسة، واذا ما تحولّت فرقنا الحركية الى صف تعليم ديني تُبطل ذاتها. ربّ أن هناك اليوم من يعلّم أفضل منّا حيث يملك الكفاءات اللاهوتية لذلك. خصوصيتنا لا تكمن  في هذا التعليم بل في هذا التأثير المغيّر في الأشخاص الذي سبق وذكرته. لذلك علينا أن نتحرّر من التعلّق بالأشكال التي اعتدنا عليها ونجد هيكليات مؤقّتة أخرى تحقّق لنا هذا الهدف، وأهمّها تلك التي تُبنى على ما توفرّ لدينا من مرشدين مؤثرين.


الصعيد الشهادي

أقصد فيه تحديداً شهادتنا في مجتمعاتنا خصوصاً ازاء المآسي المحيطة بنا. أيّ كيف نقدّم يسوع المسيح في هذا الزمان. دعوني أصارحكم بهذا الشأن أنّ في الحركة هناك منّا من تربّى، وأنا منه، على أن هذا الكتاب المقدّس يُلزمُه أن يكون حاضراً وسط شجون مجتمعه موقفاً من قضايا الحقّ وشهادة للانجيل ومساهمة في التغيير الاجتماعي كيّ نقرّب العالم من الملكوت. وهناك، للأسف من تربّى على أن هذا العالم شيطان وأنك مدعو لتنأى بنفسك عنه وعن أهوائه لتحصرها بعلاقة عامودية مع ربّك. إنني أتحدث هنا عن واقعنا وليس عما يجب أن تكون عليه تربيتنا بهذا الخصوص وهو أمر محسوم لديّ. على هذا الصعيد نشأت خبرات حركيّة كبيرة، في أكثر من مكان، تتعلّق بالحضور الشهادي خصوصاً في ظلّ الحرب اللبنانية. أضف أنه حين بدأت أحداث سوريا بادرنا الى التفكير بماهية دورنا وشهادتنا وكيف لنا أن نساهم بمعالجة تداعيات الأحداث خصوصاً على الأخوة. في الشق الثاني توضّحت بعض السبل وبادرنا الى تأسيس هيئة الطوارئ وفق ما توفّر لدينا من امكانات. أما في الشق الأول فطرحت أمامنا صعوبة كبيرة هي إمكانية الانعكاس السلبي لأي موقف تتخّذه قيادة الحركة على الأخوة هناك، ووجدنا أننا لا نستطيع أن نتخّذ المواقف عن بُعد ونحمّل الأخوة  تبعاتها دون أن نكون معنيين بتحمّل هذه التبعات، فكانت إشكالية ضميرية لدينا، هذا  من جهة. من جهة أخرى وُجدنا أمام تباين وآراء متباعدة بين شرائح الأخوة هناك ازاء هذه الأحداث ما طرح إمكان ألا يتآلف الموقف الحركيّ الرسميّ مع هذه الآراء أو تلك في ظلّ البُعد عن الأرض، أيّ عن الواقع، وعدم امتلاك المعطيات الكافية لبناء الموقف السليم وطرحه بالشكل اللازم. هذا يدفعني للقول أننا، فعلاً، نحتاج الى حوار صريح عميق حول هذه الشؤون التي تُطرح علينا اليوم ليكون لنا ما نصبو اليه من تربية على الشهادة في مجتمعاتنا  وموقف ودور.

   

الحضور الرعائيّ

بدايةً أوّد أن أشير الى مسلّمة هي  أن كل تأثير وحضور فاعل للحركة على هذا الصعيد يرتبط بحال النهوض الداخلية التي نعيش، أي بحال الالتزام الجدّي والحيوية لدينا كحركيين والصدق مع الذات. على صعيد حضورنا الرعائي نعيش حالة تجاذب غير مبرّرة، وفي بعض الأماكن حالة صراع، بين الحالة الحركية والحالة الرعائية. حالة وصلت الى حدّ أن بعض الحركيين ينسحبون من المشاركة في مجالس الرعايا الى الداخل الحركيّ بحجّة أن هذه المشاركة غير مثمرة بسبب العوائق أمامها واختلاف وجهات النظر. باختصار هذا مشهد غير سليم في حياة الحركة. نحن موجودون في الحركة لنُبنى ونبني ونفعّل حياة الكنيسة وننهض بها. عندما نكتفي بالبعد "الداخلي" لحياتنا الحركية، أي عندما نحصر أنفسنا بين جدران البيوت الحركية فقط نكون في مشهد مبتور يقودنا الى موقع خطر على الصعيد الرعائي حيث لا يجوز لنا أن نتواجد فيه.

 

الحياة الكنسيّة والصوت النبويّ

أمّا على الصعيد الكنسي، سبق أن قلت، في تقييمي أننا نعبر الان في فترة مفصلية يتمّ فيها الانتقال، مجمعياً، من مرحلة رافقها وأثّر فيها جيل "الكبار" الذين أسّسوا للنهضة في كنيسة أنطاكية الى مرحلة بدأ بقيادتها ومواكبتها والتأثير فيها بعضٌ من جيل "الأبناء"، أبناء النهضة وثمارها. من الطبيعي أن تترافق هذه الفترة مع تمخضّات في ظلّ وضع كنسي تكثر فيه التراكمات التاريخية وواقع مجمعي تتوزّعه أجيال مختلفة وهموم متباعدة. وبغضّ النظر عما يحمل، من هذه الهموم النفحة التغييرية وعمّا يراوح، منها، في الحالة التقليدية واللامبالاة فإننا اليوم أمام مشروع، يقوده غبطة البطريرك يسعى للسير بحياة الكنيسة الى مزيد من الحيوية. هذا ما دلّ إليه انعقاد المؤتمر الانطاكي في البلمند واصرار غبطته على معالجة العقبات أمام متابعة تنفيذ مقرراته، وكذلك ما آلت اليه اجتماعات المجمع المقدس هذا العام على صعيد اختيار رعاة الأبرشيات. هذا يلفتني لأن أذكّر أنّه كلّما توسّعت شريحة الأساقفة، في المجمع المقدّس، الذين هم على قلب الله كلّما سهل أن تزيد هذه الشريحة أكثر وأكثر، وسهل أن تقترب كنيستنا مما يرجوه لها الله. دورنا أراه في أن نتجنّد لخدمة ودعم كلّ سعي يسير بحياتنا الكنسية الى الأمام  دون ان نهمل، بتاتاً، ابداء الرأي فيه والاشارة الى ثغراته، إن وجدت، وانما بشكل مباشر للمسؤولين المعنيين أو عبر القنوات والسبل التي تؤكّد حرصنا على نجاحه. هنا أتوقّف أمام ما أشار اليه غبطة البطريرك في الجلسة الافتتاحية، بشكل أو بآخر، حول طريقة تعاطينا بالشؤون الكنسية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ألفتكم، يا إخوة، أنّه ليس من القوّة بشيء أن يستغلّ هذا وذاك هذه المواقع لتسجيل مواقف، وربّما تصفية حسابات، بأساليب غير مقبولة ولا تليق بالأبناء. يحدّثني بعض الأخوة عن الصوت النبويّ وضرورته، وأعتقد أننا جميعاً متشبّثون ومصرّون بألا تفقد الحركة صوتها النبويّ. غير أن السؤال كيف نطلق هذا الصوت؟ الصوت النبويّ هو اعلان لارادة الله في كنيسته والعالم فهل يتحقّق هذا الاعلان بغير أسلوب يتحلّى بالتهذيب والخُلق وتتجلّى فيه محبّة الله؟ أرجو أن نعي هذا الأمر جيّداً وأن نوليه اهتماماً جدّياً تلافياً لأن تهان الأبوّة والبنوّة معاً عبر هذه المواقع. وتذكّروا، ما أقوله دائماً، أننا نستطيع أن نعبّر عن أجرأ المواقف وأعمق الفكر بألطف لغة وأسلوب.


الصعيد المسكونيّ

لاهتمامات الحركة على هذا الصعيد بُعدين. العلاقات الأرثوذكسية التي تتمثّل بشكل  أساس عبر حضورنا في سندسموس (رابطة حركات الشباب في العالم)، والعلاقات المسكونية الاخرى، التي هي أيضاً موضع تباعد واختلاف، والتي تتمثّل اليوم عبر حضورنا في الاتحاد العالمي للطلبة المسيحيين. سبق أن تعرّض سندسموس خلال السنوات الماضية لسلسلة من المصاعب والهزّات حدّت من دوره وفاعليته، واليوم قد تكون بدأت بعض ملامح الاصلاح الجدّي فيه. وحين حاولنا، منذ سنوات تفعيل البُعد المسكوني الآخر بلقاءات مع هيئات كاثوليكية شبابية عمّ الضجيج والتخوين وسطنا. طبعاً ما من شأن يجب أن يحدّ من توجّهنا للانفتاح على كلّ ما يعمّق التعارف والحوار وتبادل الخبرات مع الهيئات المسيحية الأخرى،  إنما هذا لا يناقض حاجتنا الى حوار داخلي جدّي وصريح حول هذا البُعد يستند الى التعليم لنرسّخ الرؤية السليمة له وليحضر بشكل أفعل في ضمير الحركيين. ولعلّ هذا ما يسهّل تلبية حاجتنا الى أطر تأهيلية له إذ يكمن ضعفنا في أن هذا العمل حُصر بنخبة قليلة جداً من الأخوة على مرّ عمر الحركة.


النظام – اقتراح 

إن حجم هذه الهموم ومتطلبات ادارتها المطروحة على كاهل الامانة العامة للحركة دفع بعض الأخوة الى اقتراح أفكار عدّة  لتسهيل العمل  وتفعيله وتوزّع المسؤوليات، منها أن يكون لدينا رئيس وأمين عام، ومنها أن يكون لدينا أمناء عامين مساعدين. ما أؤكّده، وانطلاقاً من خبرتي في قيادة الحركة لسنوات طويلة،  أننا فعلاً بحاجة الى تغيير في البنية الادارية للحركة. وهو تغيير مطلوب على مستوى الفروع والمراكز والأمانة العامة وذلك لمعالجة بعض هذه الهواجس التي ذكرت وتحقيقاً لعدّة أهداف.  أهمّ هذه الأهداف أن نتوزّع أعباء المسؤولية ونحرّر القيادة الحركية، قدر الامكان، من تأثير المزاج الشخصي فيها ونضعها في خانة القيادة الجماعية التعاضدية. كذلك أن نتيح مزيداً من الفسحات لتسلّق الأجيال الشابة المواقع الادارية ولتخفيف التجاذب بين الأجيال أينما وجد. ما اقترحه، على هذا الصعيد، هو مجرّد فكرة عامة، دون تفاصيل، على أن نناقشها لجهة المبدأ ونكلّف الأمانة العامة الجديدة بدراستها معمّقاً واقتراح ما يلزم. والاقتراح يقضي باختصار، اضافة الى ما طرحناه العام الماضي من ضرورة وضع انظمة داخلية موحدة للمراكز،  أن نستبدل انتخاب رئيس للفرع، ورئيس للمركز، وأمين عام، بانتخاب هيئة ادارية لكلّ من هذه المواقع تناط بها مجتمعة الصلاحيات التي سبق ومنحت للرؤساء، على أن تتوزّع هذه الهيئات المسؤوليات فيما بينها بما فيها مسؤولية الرئيس. قد يسمح هذا الاقتراح أيضاً بتسهيل تجدّد القيادات الحركية وتطعيمها بالتنوّع وتخفيف حجم الأعباء التي يرزح تحتها الرؤساء المنتخبون. 

شاكراً محبتكم وراجياً للمؤتمر التوفيق ولحركتنا التجدّد الدائم والسلام.





 

  

 


المشاركات الشائعة