سرّ الحركـة

 رينيه أنطون

مجلّة النور - العدد الثالث 2012

إنّها ليست اسمًا كسائر الأسماء، وليست حروفًا تُقرأ وحسب، هي من حرّك الفقراء إلى أن يذوقوا طيب الوجود في الربّ، وأغنت البسطاء برجاء قد يفتقده الأغنياء. هي من جعل بيوت الأزقّة الضيّقة كنائس متفرّعة للمسيح، واستحالت بأبنائها مشروع شهود له. هي من أعتق الشباب من قيود الفرديّة، وأطلقهم في جنّة الجماعة. هي مربّية انحنت لها الأمّهات واستسهلت، في سبيلها، الكثير من الصعوبات. هي من حقَن موتى الروح بيسوع الحياة ومَسَح الأجساد بطيب إدمان قضيّة الربّ.

--------------

سبعون سنة مرّت، ونحن لم نستحقّها كما يُفرح الله، لأنّ هياكلنا البشريّة بقيت أعجز من أن تكون حقلًا للروح وأن ترتقي إلى قامة الذين أطلقوها في الوجود. فنحن الحركيّين نؤمن، نؤمن حقًّا، بأنّ حركتنا هي ثمرة يد الربّ وفعل روحه القدّوس، وأنّها مدينة لبانيها، لله وحده، بما يُزيّن حياتها من جمال وإبداع وعطاء وتألّق وإنجاز وتأثير، ولضعفاتنا، نحن أبنائها، بما اعترى حياتها، ويعتريها، من وهن وجمود. يكفي هذا للقول أنّنا إن أشرنا، في أيّ وقت ومكان، إلى جمالات الحركة، فليس لنتبجّح بذواتنا، لأنّ لا فضل لنا بشيء، بل لنذكّر أنفسنا بجمال دعوة الروح لنا، ونُحفِّز بعضنا بعضًا على الثّبات في طريق التوبة إلى الله، وندعو شبابَ يومنا إلى أن يُشاركنا في هذا الثّبات. وهذا يكفي، أيضًا، للإشارة إلى أنّ أيّ تقويم لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، بماضيها وحاضرها، لا يستقيم بغير النظر إلى ما يُبرزه مشهدها الجماعيّ العامّ. فليس من مشهد تفصيليّ أو سلوك شخصيّ يختصر الحركة، ويطبعها. ومن شاء أن ينشد الأمانة للواقع والحقيقة والتاريخ في تقويمه الحركة، وجب عليه الفصل بين ضعفات هذا أو ذاك من أبنائها، وبينها كجماعة في مداها الأنطاكيّ، والحكم في ما سيكون عليه مشهد كنيستنا الأنطاكيّة، وحيويّة شبابها، إن غابَ حضور الحركة فيه.

كلّ تقويم للحركة، بهدف تبيان أصالتها وفعاليّتها والحاجة إليها اليوم، يجب أن يرتكز على مدى حضور الرؤية الحركيّة الأولى في مسعى أعضائها، اليوم. فالحركة وُجِدَت بهذه الرؤية. ومن انتمى إليها، إنّما انتمى إلى محبّتها الأولى، وليس إلى ما يستنسبه، من هويّة لها ودور، أيّ من الناس. فدور الحركيّين، ومهمّتهم، جليّ، وهو أن يأتوا من يسوع المسيح ويرنوا إليه ويُربّوا عليه، أن يحفظوا عقيدتهم الأرثوذكسيّة كنزًا خلاصيًّا، وينكبّوا على تراث كنيستهم وعِشرة الكتاب المقدّس والصلاة والانخراط في الأسرار المقدّسة والسعي إلى معرفة الربّ، وأن يفعلوا في حياة الكنيسة ساعين إلى أن يصيروا بوجهها أقرب إلى الله والوحدة فيه وإلى العيش في العالم بنور المسيح مُحصِّنين حياتهم بإنجيله وفكره، ليكونوا له شهود حقّ.

بإيجاز، ما دام سعي الجماعة الحركيّة يستمرّ إلى تحقيق هذه الرؤية، بكمالها، في أعضائها ويستمرّ جهاد الحركيّين لامتلاك هذه الرؤية، بتألّقه وتعثّره، وتجسيدها حياةً، تستمرّ الحركة في أصالتها. أمّا الضعفات الملحوظة في مسيرة الحركة وأعضائها، فإنّما هي ضُعفات إنسانيّة لم تخلُ الحركة منها يومًا كما لم تخلُ مسيرة كنسيّة علمانيّة كانت أم إكليريكيّة ورهبانيّة منها. في أيّ حال، فإنّ مسعانا وجب أن يكون دائمًا، بإرادة الربّ، تكثيف الجهاد لنقوى عليها، لئلاّ تبلغ هذه الضعفات، يومًا، أن تغيّب ما يُنجزه الله في الحركة وعبرها لاستمرار حاجتنا، وحاجة كنيستنا، إليه وإلى تأثيره الكيانيّ.

كلّ إنجازات الحركة المشهودة، في الأصعدة المختلفة، وُلدت من رحم طبيعتها الشركويّة وحياة الجماعة التي استطاعت أن تحجز لها مكانة متصدّرة في ضمير أبنائها. نحن لا ندّعي أنّنا، على هذا الصعيد، قد أتممنا السعي، إذ نقرّ بأنّ عدّة أبعاد شركويّة في حياةالحركة ما زالت بحاجة إلى ترسيخ وتفعيل. أذكر منها، مثالًا، البُعد الماليّ وما يخدم الفقراء ويجعل حضورهم في ضمائر الحركيّين متقدِّمًا عمّا هو عليه اليوم. أضف أنّ ما شاءته الحركة للفرقة الحركيّة أن تكون عليه من وحدة شهادة وحياة، إلى جانب كونها من وحدة دراسة وصلاة، أي خبرة شركة إيمانيّة يُحتذى بها، لم يتجسّد ببُعده الكامل بعد ولم يعمّ كما يجب، ليجذب إليه شرائح واسعة من الشباب لا تزال غافلةً عن حلاوة التزام الربّ. غير أنّ هذا لا ينفي أنّ الحركة بَنَت، وتبني، في أبنائها بعضًا من أهمّ ما نحتاج، وكنيستنا، إليه اليوم، ممّا يحرّرهم من علّة الفرديّة والسطحيّة والفراغ، ويقودهم إلى أن يعجنوا همّ المسيح ومحبّته والشركة فيه بهمومهم الحياتيّة، ليُحضروا هذا الهمّ رفيقًا لهم حيث يحلّون. هذا الذي استحال ببيوت مُعظم الحركيّين، وأماكن عملهم، بيوتًا للحركة، وقاد بعضهم إلى السلوك بما يُجسّد صدارة هذا الهمّ في حياتهم، والتربية على هذا السلوك. فلنتأمّل، في هذا الزمن الاستهلاكيّ، بشابّ حركيّ مهندس، تخرّج منذ سنوات قليلة، يرفض عرضًا مُغريًا للعمل في أوروبا مُفضِّلًا الاستمرار في عمله الحاليّ، لأنّه يشاء أن يبقى في خدمة الجماعة الكنسيّة وما ربّته الحركة عليه من التزام لقضيّة المسيح. وكذلك بشابّ آخر يستقيل من وظيفته المهنيّة فترةً من الزمن لأنّ التزامه قضيّة المسيح اكتسب الأولويّة في حياته، فيتفرّغ، تلك الفترة، لخدمة الجماعة الحركيّة وتنميتها. وأيضًا بمرشدَين لفرقة فتية يلتزمان تسديد الاشتراك الماليّ في أنشطة الحركة عن أحد أعضاء فرقتهما الفقراء، ما يُعلّم أعضاء الفرقة ويقودهم، لاحقًا، إلى تولّي هذا الشأن زمنًا. ترك هذا الاحتضان أثرًا عميقًا في نفس الفتى المعنيّ وقاده، لحظةَ أمست أموره الماليّة أفضل بقليل، إلى أن يُسدِّد الاشتراك الماليّ عن كامل أعضاء فرقته، في أحد الأنشطة، وفاءً لمحبّتهم واحتضانهم. لنتأمّل كذلك بفتاة حركيّة تحصل على منحة دراسيّة في جامعتها، وحين تعلم أنّ أهل رفيقتها يعجزون عن تسديد أقساط ابنتهم للسنة الأخيرة من دراستها تتنازل عن منحتها لصالح رفيقتها. وبأكثر من شابّ وفتاة حركيّين يطلبان من المدعوّين إلى عرسهما أن تكون هديّتهم بالمناسبة تبرّعًا إلى مشروع التبنّي المدرسيّ مُشاركةً منهما للفقراء.

هذه المحبّة، غير المشروطة، يذوقها الحركيّون، إلى اليوم، جرّاء حياتهم في المسيح في رحاب الجماعة، وتمتدّ فيهم، وتشعّ، في بعضهم، إلى الآخرين شهادةً ليسوع. من إشعاعات هذه المحبّة، اليوم أيضًا وليس أمس، أنّ سيّدة حركيّة تُقيم في أوروبا تنتمي إلى جمعيّة تُعنى باستقبال أطفال مُصابين بأمراض القلب، من دول فقيرة، في منازل أعضائها وبتأمين الجراحة لهم ومرافقتهم فترة النقاهة المطلوبة. يُتاح لهذه السيّدة، أكثر من مرّة، أن تستقبل أطفالًا مُسلمين، وكانت تطلب، كلّ مرّة، إلى أصدقائها ورفاقها الحركيّين مُشاركتها في الصلاة من أجل شفائهم. وفي إحدى المرّات لاحظت أنّ الطفل المسلم، المُقيم مع عائلتها، يُمارس صلاته اليوميّة سرًّا بناءً لتعليمات والدَيه وخوفًا من انزعاج عائلتها. فما كان منها إلّا أن أبلغته أنّ له حرّيّة الصلاة ساعة يشاء، وأنّها تفرح بصلاته كثيرًا، لأنّها هي مؤمنة أيضًا، وتصلّي، ولأنّها تربّت على الإيمان، والحرّيّة في المسيح، في رحاب الحركة.

ليس همّي من هذه الشهادات، المُلَملمة من كثيرٍ هنا وهناك، أن أدافع عن الحركة في عمرها السبعين، ولا أن أُشهر ثباتَ جيل الحركة، اليوم، في "محبّته الأولى". 

فما يدافع عن الحركة، هو سرّ الروح الكامن فيها وخلفَ جهادات الكثيرين من أبنائها. سرّ الحبّ والحرّيّة والشركة. سرّ الجُهد والعطاء والتعب والسفر والإصرار والتخلّي لإعلاء شأن قضيّة المسيح والوحدة فيه. سرّ الطاعة، التي يُنحَنى لها، خدمةً لاستمرار القضيّة وتنمية الجماعة. سرّ جمعِ الشباب في الكنائس والأديار وبيوت الحركة وحولها وقتَ تكتظّ المقاهي والشوارع وأماكن اللّهو بأبناء هذا الجيل. سرّ انخراط الفقراء والمساكين بمزيد من الالتزام والعطاء وقتَ يزداد تهميشهم في كنيسة يسوع، ويُباعون في العالم بنعلَين (عاموس 2: 6)، ويهرع ميسورون إلى الاستهلاك والاقتناء. سرّ إعلاء شأن الآخر في العقول والقلوب وقتَ تتصدّر الأنانيّات الضمائر. سرّ انتشال بُسطاء من ظُلمة الجهل إلى نور المعرفة والخلاص. همّي أن أكشف ما يُغَيَّب عن بعض، أو يغيب عنهم، حول الحركة، وهو كونها، أوّلًا وأساسًا، مُختبر جماعة وحبّ، وأنّ شيئًا لا يتغيّر فيها مهما بلغت من سنين لأنّ حبّها هو هو، ويسوع المسيح هو هو. ولهذا فما من شأنٍ يرميها في تحدّيات جديدة غير التحدّي الذي لم يفارقها يومًا، وهو أن تعبر الضعفات إلى أن تثبت في التزام الربّ الحيّ والوحدة فيه، وتعكس حضوره أينما تُعطى، وتُثمر المزيد من مُحبّيه كلّما نمت، حولها، الغربة عن المسيح. فهذه الثمار الحركيّة، وغيرها المحفورة عميقًا في الزمن الأنطاكيّ وأبنائه، ليست وليدة تعليم، ومعلومة عن الله، بلوليدة تربية عليه. تربية يحلّ التعليم فيها وجهًا من وجوه كثيرة نرجو، في الحركة، أن تنشد، كلّها، التأثير في حياة المُرَبّى عبر حضور، في حياته، مُحبّ، راعٍ، مُرافق ومُحتضن. نحن، في الحركة، سعينا، على الرجاء، هو إلى أن نكشف الله بعضنا لبعض، لنزرع بذور التزامه في النفوس، ولينمّي كلّ منّا ذاته في محبّته بمؤازرة الجماعة وصلاتها وإحاطتها. التربية هذه ربّما لا تتطلّب كفاءةً لاهوتيّة علميّة قدر ما تتطلّب كفاءة حضور ولطف وتضحية وعطاء والتزام وصدقيّة مُلقّحة بجماعةٍ نابضةٍ بالمسيح نتطلّع إليها. فكفاءة الشخص، مهما بلغت، لا تصون نفسه ولا تضمن ثباته في نهضويّته وثبات النهضة فيه، بل إنّ حيويّة الشخص في جماعة حيّة تلتزم الربّ، إضافةً إلى صلاته، هي ما يساعد على صونه من كلّ ضعف يُصيب إنسانًا، ويساهم في إرواء كفاءته بالروح، ليثبت في النهوض، ويحلّ التغيير المنشود ليس فيه وحسب بل، به أيضًا، في كلّ وجه كنسيّ. صحيحٌ أنّ وجهًا هامًّا في حياتنا الكنسيّة تغيّر وأنّ مُعظم رعاتنا بات، بعامّةٍ، يتحلّى بقدرات علميّة ولاهوتيّة ملحوظة، وعلى هذا نشكر الله. غير أنّ وجوهًا هامّةً عديدة لم تتغيّر، بعد، بما يُرضي الله، وما زالت تنتظر أن يحلّ مجده فيها، منها وجوه الرعاية وخدمة المسيح في الإنسان ومكانة البسطاء والفقراء وخدمتهم والحضور الشهاديّ أقلّه وسط المحن والأزمات الكُبرى. وهذه وجوه يصعب أن تتغيّر، مهما بلغنا من كفاءة، بغير أن تنصهر الفرديّة المتفشّية، اليوم، في روح الجماعة، وتستدعي كلّ موهبة كنسيّة الأخرى، بانحناء أمامها، إلى مشروع الروح القدس في كنيسته، إلى الصيرورة بكنيسة الله في أنطاكية لائقةً باسمه القدّوس.

الحركة، في عمرها السبعين، ربّما تحتاج إلى الكثير، ربّما تحتاج إلى تجديد الوسائل والسبل والخطاب واستكشاف الآتي وما يطلبه منها. ربّما تحتاج إلى أن تقرأ مسيرتها السبعينيّة لتعرف أين أخطأت، فتتوب، وأين أصابت فتُقدم. فالمراوحة موتٌ، والتجدّد، في المسيح، حياةٌ. لكن ما تحتاج إليه، بالتأكيد، هو أن ترافقها أدعية الرعاة ومحبّتهم وعدلهم. تحتاجُ ويحتاجون. وبالتأكيد تحتاج إلى الثبات في الصدق مع المسيح، وفي تربيتها وهويّتها وحرّيّتها ورؤيتها، أي في الروح الذي، من خلالها، حرّك قلوبًا ونفوسًا وهدّ بيوتًا من حجارة، لتعلو مكانها، أنوار للمسيح. وشهادة هي للروح، عائلة، لا يعنيها الإيمان بالله، تُرسل ابنتها إلى الحركة لقضاء الوقت والابتعاد عن الشوارع في ظلّ الأوضاع غير الآمنة. تسمع الفتاة، في الحركة، وتعيش ما هو غريبٌ عمّا سمعته وعاشته في منزلها، ما طرح عليها تساؤلات حملتها، بتكرار، إلى والدها وأهل بيتها. بداءةً، دفع هذا الأمر الوالد إلى التردّد إلى الكنيسة والقدّاس، ليلتقي الكاهن، ويتعرّف عمّا تتحدّث عنه ابنته علّه يجد ما يُجيبها عنه. ولكثافة التفاعل مع ابنته، اعتاد الكنيسة والقدّاس، وبدأ الإيمان يتسرّب إلى حياته، وترافق الأمر مع فتح الكتاب المقدّس وقراءته، ليتعرّف إلى الإله الذي يصلّي له، وبات بيت الصبيّة، الناشطة والمسؤولة اليوم، بيتًا من بيوت الخدمة. وقد صارح الوالد أحد أصدقائه بالقول: "إنّ الأهل، عادةً، هم الذين يعلّمون أولادهم في الحياة، لكن، وبسبب وجود الحركة، فإنّ ابنتي هي التي علّمتني، أنا والدها، الإيمان". فالحركة، بكلمةٍ، سرّ، هو سرّ الروح الذي يريد الكنيسة أن تولِد المسيح في العالم أبدًا.

 

المشاركات الشائعة