"له الحيـاة"

رينيه أنطون 

مجلّة النور -  العدد الثالث 2011


لا تشترط محبّة الله أمراً لتَدخلك وتحرق أهواءك وتستحيل بك إبناً. يكفيها، فقط، أن تَشغَف بها، سكنتَ ديراً أم لم تسكن ولبستَ ثوباً كهنوتياً أم لم تلبس، لتَجعل منك مُكرَّساً، بالكامل، أهلاً لتعيش للمسيح وبه، وتصيرَ بك، كربّك، سرَّ كلّ ما يَحوط بك. حينها يلتمس الناس والأمكنة، من حولك، قدسيّةً لهم من تماسهم مع قداستك وبهاءً من شعاع المسيح المُطلّ منك وفرحاً من فرحك الدائم بالربّ. 

الأب الياس مرقص صارَ، وبَقي العُمرَ، هذا السرّ. لقد سُحر، يوماً، بمجانية الحبّ المنقوشة على خشبة مخلّصه فسارع إلى التخلّي عن امتلاك الفراغ، وغادر موقعه الدنيوي المتقدّم، ليقتني الخشبة ويُشارك مسيحه الفَقر ومُلكيّة كلّ ما في الدنيا، ومعه السماء. فكان أن انتمى الى صفّ عاشقيّ الله، الذين "ينقصون ليزيد هو"، طمعاً في أن يُعلنه مسيحنا، يوماً، وريثَ قداسةٍ إبناً للمحبّة الانجيلية الفاديـة.

 في كلّ ما عرفناه فيه، منذ أن كنّا فتيةً وحتّى انتقاله، تجسّدت معالم البنوّة هذه مُبرِزةً، في شخصه وحياته وفكره، ما يدلّ على قرابته الخاصّة بالربّ ويشدّ الناس إلى هذه القرابة. فكان الراهب الذي خرج من أناه، لا ليبقى فيها، بل ليملأها صلاةً، وخصوصاً، خصوصاً، من أجل هؤلاء المنسيّ منهم، شاغليّ الدنيا والمشغولين بحاجاتها. كان الأب الياس راهباً لم يُخرجه ألمٌ عن حبّه، ولم يُبعده تقصيرٌ عن إصطحاب المُقصِّرين، تجاهه، في جُعبتهِ ليرميهم في لطف الربّ، فتَخال أنّك كلّما أهملتَ إيفاءه ما له عليك من حقّ الافتقاد كلّما نلتَ مزيداً من صلاته وشفاعته.كان راهباً غريباً عن الغضب واللوم والعتب. إن عتب عليك بأمرٍ ساءلك أولاً، أو ساءل من حولك، حقيقةَ الأمر والسبب. فهو أب مُدركٌ أن أبوّته مدعاةٌ للبحث عن مزيد من الحقيقة والجمال والكمال واستكشافه، تحديداً، في ضعفات الأبناء وقصورهم. وهو أبٌ واثقٌ، في آن، أن حكمَه يستحيل أن يتجاوز، في أيّ حال، سقف حكم ربّه ويكونَ غير مزيدٍ  من الحمل والدعاء والفداء. 

لهذا مهما تغرّبتَ عن الأب الياس وابتعدتَ كنتَ، دائماً، قريبه الشاطر. لا يهمّ إن كنت الأخ الأصغر أم الأكبر في مشروع مدّ العائلة الملكوتية ومفاهيمها في العالم. فهذا لا يُنقص، أبداً، من مكانتك لدى ربّ العائلة لأن الحقوق والواجبات في مشروع الله تختلف عن تلك السائدة في مشروع البشر. المشروع قُبلتُه الشركة، ولا شركـة دونك، وما من أمر يقيمك في هذه الشركـة أو يُعيدك إليها غير التلطّف والحبّ ونصب المثال الحيّ أمام عينيك من أبوّة تحرّرك من الاستعباد وتوقظ فيك روح الحريّة وحسّ المسؤولية في آن. تلك هي رهبنة الياس مرقص، الرهبنة التي وعى أنّها، بقدر ما تحمل الكلّ في مناجاتها، تحتاج الى مناجاة الكلّ لتكمل.

حلم الأب الياس مرقص بلوحةِ حركة الشبيبة الأرثوذكسية تحتضن هذا الكلّ. فالحركة، التي من خلالها، أطّره الله في مسيرة استحضار الملكوت إلى الأرض، يجب أن تمسي حركة الكلّ، يجب أن يمسي الكلّ في هذه الحركـة الى الله وبه. وعلى عكس ما يظنّ بعضنا لم يفهم الأب الياس أن تعجز عيونٌ عن إحاطة الحركة بكمالها ومُرتجاها، ولم يهضم أن يرصفها أمرؤ في مصفّ هذا الجزء من مكوّنات كنيسته الأنطاكية أو ذاك. فتكوينها المؤسّساتيّ، الذي ساهم في نسجه يوماً، حاجةٌ للكلّ ووسيلةٌ لخدمة الروح تزول إذا عمّت ثمار الحركة رحاب الكنيسة، إذ يوم يرفرف الروح في نفوس الكلّ لا تبقى حاجةٌ لقيود الأطر الأرضية.  

السرّ الذي يفسّر علاقة هذا الأب بالحركة هو التواضع. بهذا التواضع عاش ممتنًّا للربّ الذي كشف له، بنوره، طريق الفرح الحقيقيّ دون أن يشعر، يوماً، أنّه أوفى الربّ، بتكرّسه، ما سكبه عليه من نِعم. هذا التواضع دعاه إلى ألا يستغني عمّا ساهم، بعض الشيء أو كثيراً، في سموّه عن الضعفات. فمهما سمى تبقى الحاجة الى مزيد من السموّ ليطال قامة ملء المسيح، وتبقى الحاجة، لذلك، إلى تلك الجماعة الحركية التي حملته وحملها. وعى ذاته، رغم كبره في عينيّ الربّ، أصغر من هذه الجماعة وفي خدمتها. سرّه أنّه عاين وآمن، صادقاً، أنّ وجود الحركـة، وحضوره في ضميرها، وحضورها فيه، هو من ثمار مرحلة فعل الروح في الكنيسة، مرحلة العهد الجديد المستمرّة، في رؤيته، إلى اليوم وحتّى اليوم الأخير. لهذا اصطحب الياس مرقص الحركـة في كلّ لحظة صلاة، وأينما حلّ ووجد.  اصطحبها ليبقى على عُشرتها أينما كان وفاءً للربّ على ما وهبَه وشُكراً له وسعياً الى مزيدٍ من النموّ في حبّه. 

اليوم يُقيم الأب الياس حيث جاهد ليُقيم عُمراً. عَبَر عتبة الموت بعد أن تجاوز مأساته، إيماناً ومفهوماً وفكراً ورؤية وسار إلى الحياة الحقّة بسلام وفرح. وبهذا الفرح دعانا، كغيره من صدّيقي كنيستنا، إلى تخطّي ألم الانتقال أياً كانت قداسة المنتقل عنّا وتداعيات انتقاله. فألمنا الانسانيّ، الناتج عن الموت، هو باطلٌ لأن المسيح قد قام. وألمنا الايمانيّ، وليدُ شعورنا بحاجة الكنيسة الى وجوه قداسة كهذه، ألمٌ باطلٌ أيضاً. فنحن، الخطأة،لم ولن نحبّ كنيسة المسيح قدرَ ما يحبّها، ويحبّنا، ربّ الأطهار والقدّيسين. وهو، القائم في وسطها، سيُعوّضنا حاجتنا من هذه الوجوه حتّى نُعطى أن نلملم أشلاءنا الانسانية ونصير، أشخاصاً وجماعةً، في وحدةٍ به وإليه. فلا نُشكّكن في أنّ بذور القداسة حيّةٌ وناميةٌ في كنيسةٍ فاح فيها عبير الأب الياس مرقص وأمثاله ممّن سبقه وعاصره من الأحياء والراقدين. فالبذور ستتفتّح وكنيسة أنطاكية سيكثر شفعاؤها، والمسيح حقاً قام.

 

 


المشاركات الشائعة