كلمــة افتتــاح مؤتمـر مركز طرابلس 2010

رينيه أنطون


بداية أشكر الله على كلّ شيء، وخصوصاً لكونه أنعم علينا أن نحظى، في هذه الأبرشية، برعاية سيادة المتروبوليت أفرام خلفاً  للمثلّث الرحمة المطران الياس قربان. رجاؤنا الدائم أن يؤهّلنا الربّ لنستحق هذه النعمة التي عكست لنا احتضانه لكنيسته وحضوره في وسطها.


النظام والمأسسة

في يقيني أن ما يُرضي ربّنا يسوع المسيح اليوم، وقد جَمعنا في هذا المؤتمر حول همّ كلمته والشهادة له، هو أن نخلص منه إلى ما يُرسّخ وحدتنا فيه، وهي وحدة في الحقّ. فمؤتمراتنا الحركية تبقى هي المعجن الذي، فيه، نُعيد عجن قلوبنا وعقولنا وأفكارنا بخمير الوحدة وبنور الرؤية التي ولدتنا في كنيسة الله، أكنّا ونحن نقوّم وجوه شهادتنا في الأمس واليوم، بتألّقاتها وعثراتها، أو ونحن نتلمّس ما يكشفه لنا الربّ من وجوه شهادة للغد.

وإذ يبرز، إلى جانب هذا، اهتمامكم، اليوم، بموضوع النظام، أسمح لنفسي، أن أذكّركم بالأساس. إن الأمر الأهمّ الذي نبتغيه من أي نظام في الحركة هو مساهمته في ضبط حياتنا الحركية في الاتجّاه الذي يصون الوحدة فيها ويُغذّي أمانتها لمبادئ الحركة وفكرها وأهدافها، أيّ أمانتها لقضية الله. لذلك نحن لا يهمّنا منطق الحقوق والواجبات قدر ما يهمّنا أن تحكم العلاقات بيننا المحبّة ويحضر فينا الروح الالهيّ. هذا لايماننا أننا من محبة الله وُلدنا في هذه الجماعة، وأننا ما وُلدنا فيها إلا لنُبنى في  هذه المحبّة وبها، ونبني فيها وبها.  

من هنا أؤكّد أن كلّ موقف حركيّ وممارسة لا تتجلّى فيهما المحبة، التي من أولى مُقتضياتها الثقة بإخلاص الآخر أيّا كان رأيه وموقعه، وكلّ رأي لا يُعجن بروح هذه المحبّة وبالتوثّب الشركويّ لدى صاحبه، لن يكتسب أي تأثير في ضمير الجماعة، ولن تكون له، في منظارها، سمة غير سمة الفراغ في فراغ. أقول هذا الكلام وكلّكم يعلم قساوة التجربة التي تعرّض لها هذا المركز العزيز، على هذا الصعيد، في الفترة التي تلت انتقال المطران الياس قربان وسبقت انتخاب الراعي الجديد للأبرشية.

وإذا كانت أسباب هذه التجربـة تعود، برأيي، الى أن الكلّ أخطأ إبان هذه المرحلة، دون أن أنزّه نفسي، كمسؤول عن التعاطي بالقضايا الكنسية في وسطكم، عن هذا الخطأ، فإنني ألفتكم إلى أنه لا يخدم شهادتنا بشيء أن نعود الى مساءلة بعضنا بعضاً، مساءلةَ المُخطئ للمُخطئ. ما يدعونا إليه الربّ هو أن نتوب عن انتهاكنـا، بالأمس، لما يحمي وحدة هذه الجماعة، التي هي حاجة لكنيسته الأنطاكية، وللثقة بين أعضائها وبين أعضائها ومسؤوليها. وهذا يتمّ بأن نتوب الى إيلاء التربيـة الحركية الأصيلة الموقع المتصدّر في اهتماماتنـا والعودة بالحركـة، في هذه المحلّة، ورشة حيّة مستمرّة لبناء الشخص في يسوع المسيح. الشخص المتّطلع الى الله مصدراً للخلاص، والناهض به، والقادر على فهم عناية الربّ بوجوه الحياة كلّها، والمؤهّل لأن يعكس هذه العناية للناس. الشخص الذي يُعنى بالربّ كغاية، كألف الوجود ويائه، لا كقناة ينفذ منها الى ما يُشفي تحزّبه لغير الله أو يلبّي ضعفاته ومصالحه.

ما عنيتُه، تحديداً، وأراه ضرورة اليوم هو أمرين: الأمر الأول أن نهتمّ  بالارشاد اهتمام الواعي لدوره المحوريّ في حياتنا الحركية وعدم جواز التضحية بالمقوّمات المطلوبة لشخص المُرشد مهما كانت الأسباب. وإن اقتضى الأمر، لنتلمّس هذه الغاية، أن نتخطّى إطاراً أو فرعاً أو مركزاً أو حتّى تقليداً حركيّاً. والأمر الثاني، وقد آن الأون لذلك، أن نُحيي صورة التيّار الأنطاكيّ الواحد في الحركة ونزيل التشويه الذي لحق بهذه الصورة ودور الحركة نتيجـة ترسبّات العمل التاريخية. هذه الترسّبات التي أدّت الى طُغيان الوجه الجمعياتي والمؤسّساتي على الحضور الحركيّ وأبرزت حالة الاكتفاء بالاهتمامات الفرعيّة المحلّية بدلاً من المشاركة الفاعلة في ما هو أشمل وأعمّ. ولعلّ هذا سببُ ما بات واقعنا يوحي به حيث يتصرّف بعضنا على أساس أن الحركة إطار يجمع حركات محلّية، لكلّ منها أولوياته واهتماماته، في حين أنها، وهكذا شاءها الله أن تكون، حركةً أنطاكيةً واحدة تتحرّك نحو أهداف واحدة وبأولويات وروح واحدة حيثما يحلّ أشخاصٌ يحملون مبادءها وفكرها.

أيّها الأخوة،

لهذه الأسباب توجّه مؤتمرنا الحادي والاربعون، مرّة أخرى، الى إيلاء الشأن الارشادي اهتماماً مكّثفاً، وإلى تقييم خبرة نظام الفروع لإعادة النظر بما قد يزعزع وحدة الحركة، فيها، ويعطّل أولوية بناء الشخص، في يسوع المسيح، في هواجسها. ورغم أن الأمانة العامّة ستُباشر في اجتماعها غداً بحث السبل التنفيذية للوصول الى المُبتغى، إلا أنني شئت أن أصارحكم بذلك، اليوم قبل الغد، كي تكونوا سبّاقين الى الاهتمام بما يرسّخ سلامة الحياة الحركية في هذا المركز. هذا لأنني أعي موقع مركز طرابلس المتصدّر في ضمير الحركيين، أينما وجدوا، وحاجة حركتنا الماسّة، في مداها الأنطاكيّ، إلى أن يعود الى دوره السبّاق في النهوض بالحياة الحركية والكنسية والحضور الفاعل وسط قضية حريّة المواهب والأبناء، في أنطاكية، ومُشاركة الأبناء في المسؤولية عن شؤون العائلة الكنسية. فلا أخفي عنكم أن حجم الصعوبات التي تواجهنا على هذا الصعيد كبيرٌ، وأن الصعوبات المُنتظرة مستقبلاً قد تكون أكبر ما لم نتب جميعاً، كمعنيين بهذا الشأن، الى الربّ وندعوه إلى أن يتلطّف بكنيسته. 


الوضع الكنسيّ والرعائيّ

فرغم أن العثرات في الكنيسة كثيرة ولا توفرّ، بسبب ضعفنا البشريّ، حالة أو قيادة كنسية إلا ما ندر، إلا أن أسباب ما نواجهه اليوم، على هذا الصعيد وفي أكثر من مكان، تعود، برأيي وبالتحديد، الى جنوحٍ يحصر الطُهر والمسؤولية في الكنيسة بفئة من المعنيين بها دون أخرى، ويتطلّب أن يكون سائر المؤمنين أتباعاً لأهواء البشر لا للربّ الذي أقام البشر في عروشهم الكنسية أينما كان. وهذا سببُ ما بات يُعرف من أن كنيستنا الأرثوذكسية الأنطاكية تعيش اليوم حالة من التفرّد بمعالجة شؤونها لم تعرفها لعشرات عقود خلت. وهي مُناسبة للقول أن حرص المسؤولين على حماية الكنيسة من الذئاب الخاطفة التي بدأت تطلّ، من نافذة هذا الضعف في مُشاركة المؤمنين، لتسود في الكنيسة وتصير بها مسرحاً طائفيّاً، لا بدّ من أن يُترجم إفساحاً في المجال أمام مشاركة المؤمنين، المُلتزمين أسرار الكنيسة والغيورين على نقاوتها، في حملّ همّها ومعالجة شؤونها. أيّ لا بدّ من أن يُترجم سعياً جدّياً، من قبل الرعاة، الى تطبيق القوانين الرعائية الصادرة عنهم، أو مبادرةً الى تعديل ما يرونه مانعاً لتنفيذ هذه القوانين أو سعياً الى إيجاد قوانين بديلة تحقّق المشاركة المنشودة. 

 ولا يسعني أن أتجاهل، في سياق مُرتبط بهذه  الحال، سعي بعض السادة الأساقفة، في بعض الأماكن، الى إضعاف الحركة وقيادتها ووجه وحدتها الأنطاكيّة، الذي هو الأمانة العامّة، وإتهامهم الحركيين بالفئوية، وتسلّحهم، بهذا الاتّهام، ضمناً أو علانيةً، لتقطيع التواصل بيننا وكفّ تعاطينا التربويّ واستبعادنا عن الهيئات الاستشارية والمجالس الرعائية والتأثير في القرار الكنسيّ. وهذا ما يقتضي منّا أن نوضح لآبائنا الرعاة المعنيين بهذا ما يلي: صحيح أنّ من تعهدّ، على ضعفاته الكثيرة، التزام المسيح والبشارة به، هم فئة نادرة من الشعب الأرثوذكسي. وصحيح كذلك أن الشباب الصاعد الذي يسعى ويُكرّس أوقاتاً كبيرة، في عصر المُغريات الكثيرة، إخلاصاً منه لربّه هو فئة من الشباب وليس الكلّ. لكنّ الصحيح، في آن، أن المرجوّ في عينيّ الربّ هو أن يكون لمُحبّيه، الساعين الى أن يكونوا في توبة إليه، التأثير الأكبر والأفعل في كنيسته، لا أن يحلّ عاشقو الدُنيـا الغرباء عنه أرباباً فيها، وإن اقتضى حرص الكنيسة على خلاص الكلّ أن لا يقلّ اهتمامها الرعائي بأيّ من الناس عن اهتمامها بآخر. ليس المرجوّ، بالتأكيد، أن يرتاح كلّ لا مبالٍ بقضية المسيح الى تأثيره في حياة الكنيسة ونجاحه في أخذ هذه الحياة الى حيث يشتهي من حالات دنيوية، ويتألّم المُلتزمون، ايّاً كانوا، من شحّ تأثيرهم في هذه الحياة وفشلهم في شدّها الى حيث يشتهون من حالات ملكوتيّة. ويبقى أن نذكر الأصحّ، وهو أن أحداً لا يمكنه أن يحصر هبوب الروح به مهما حاول، وأحداً لا يمكنه أن يحتكر الحقيقة والاخلاص مهما  إدّعى، وأحداً لن يُمكنه أن يختصر الكلّ مهما سعى. 

 لذلك أدعو كلّ مُخلص في الكنيسة، راعياً كان أم إبناً، إلى أن يكون "وكيلاً" للربّ في كنيسته عاملاً لأجل وحدتها في الحقّ، وسلامها ونقاوتها وما يُفرح الله بها. وأذكّر نفسي وجميع الأخوة الحركيين، أينما حلّوا، بقول الرسول "وأمّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّف"،  وأضرع الى الله كي يزيدكم التزاماً وتألّقاً ونوراً لتبقى شعلته فيكم أبداً وتتحقّق مشيئته في كنيسته والسلام.

 

 

                               

 

 


المشاركات الشائعة