حديث الأمين العام - لقاء العائلات جبل لبنان

 رينيه أنطون - 2009


إن الأساس الذي قياسًا  عليه نحكم  على جدوى أي  خطوة حركية نقدم عليها هو مقدار مساهمتها في تحقيق غاية الحركة التي هي الوصول بكل عضو من أعضائها وبكل عضو في الكنيسة الى أن يكون يسوع المسيح هو الهمّ لديه، أو هو مدى مساهمتها في ترجمة  هذا الهمّ  وعكس صدارته للآخرين ما يساهم في تربيتهم عليه.

 لهذا فإن أول ما تكستب منه  اجتماعاتنا الحركية ولقاءاتنا أهميّتهـا وخصوصيتها هو صدقيـة كلّ منّـا في سعيه الى هذه الغايـة الحركية، وهذا ما لا أشكّك به  أبدًا.

 

حركة الشبيبة والعائلات

أذكر هذا فقط لأقول أنه كلما كنّا صادقين في سعينا الى يسوع المسيح كلما أمست هذه اللقاءات واحـة نجتمع فيها، ليس بعضنـا الى بعض وحسب، بلّ، حقيقة،  الى الربّ المتجلّي في كلّ وجه من وجوه  أبنائـه ومحبّيه. وهذا ليس بمجرّد شعار أطلقه أدبنا الحركيّ  وسحرنا بل إنـه إيمـان صادق وعميق بأن المسيح يكون بيننا كلّمـا اجتمعنا باسمه. 

هذا الايمــان هو ما يجعل من لقاءاتنــا أطرَ امتداد حياتي  لوحدتنـا في الايمان  والكأس المقدّســة والشهادة  لنكون  جمــاعــة  أبنــاء متحدّين بالربّ  لا مجموعـة بشر يتحزّب بعضها الى بعض.

ولأن لنا هذا الإيمان نشعر بأن لقاءاتنا تساهم في دعم الجهاد الشخصي لكلّ منـا وتحصّنه بإحاطة جماعـة  محبّة  محتضنة راعية،  ونشعر بأن حياتنا  كجماعة  تُروى بالعطـاء  الشخصي لكلّ من أعضائها الذين يؤمنون بأن في  عطاءهم هذا يكمن معبرهم إلى لقاء الربّ.  

ارتكازا إلى ما سبق وذكرت، إذا شئت التحدّث قليلًا عن جدوى هذا اللقاء بالذات، فإن أمرًا  أذكره بدايـة وأراه عميقًا جدًّا وإن اعتقد البعض أنه يرتبط بالشكل.  وهو أن هذا اللقاء، ككل اللقاءات والاجتماعات الحركية الني تنعقد في أوقات اعتاد الناس اعتبارها أوقات عطلة وراحـة، فإنمـا يحمل للناس  مدلولًا هامًا الى أن هذه الحركـة لا تزال فاعلـة ومؤثّرة في النفوس، لأنها لا تزال تحسّس الشباب بأن فرحه العميق وراحته الحقيقية  إنما هي قائمـة في يسوع المسيح. في قناعتي أن تكرار مثل هذه اللقاءات وتكثيفهـا يساهم، من   حيث نعي أو لا نعي، في التربيـة على صدارة يسوع المسيح في الحياة. 

 أما في المضمون الأبعد فإن خصوصية أيّ لقاء أو اجتماع للعائلات عندي تنبع اليوم من أمرين: 

الأمر الأول أنّه يؤشّر الى انتهاء فترة طويلة سادتها إشكاليـة علاقة بين الجسم الحركيّ بآليته اليومية وشريحـة العائلات. هذه الاشكالية تُرجمت بصعوبات واجهت الحركة في ترسيخ  شرائح العائلات في التزامهم الايمانيّ . 

هذا كان سببه الأساسي، من جهة،  شعور الشاب والفتاة المتزوّجين بأنهما قد تخرّجا من صفوف التعليم والإرشاد،  حيث ساهم انهماكهما في شؤونهما العائلية  في تغذية  هذا الشعور ما دفعهما إلى البحث عن أطر التزاميـة "مريحـة" تنسجم مع أوضاعهم الحياتية وتتخطّى الاجتماع الدوري في إطار الفرقة الحركية وغيرها من وجوه الحياة الحركية، ومن جهة أخرى  ثبات الموقف الحركيّ في قناعته بأن أحدًا لا يتخرّج من بنوّتــه ليسوع المسيح ومن ترجمة محبّته له التزامًا يوميًا.

 حضور العائلات في الحياة الحركيـة اليومية، اليوم، هو دلالة على أن الانشغالات الدنيوية عجزت عن أن تنال من هذه الشريحـة وصلابة التزامها، وأن هذه الانشغالات "المشروعة" لم تستطع أن تحفر مكانًا عميقًا لها في الحياة الحركية، وإن المؤسسة الحركيـة لم تساوم على ثوابتها أمام صعوبة كبرى واجهتها.

ولا أبالغ بالقول أنها صعوبة كبرى مؤلمة لأنهـا، فعلًا، شغلت الجسم الحركيّ وأطره القياديـة فترة لا يستهان بها من الزمن، ولأن تخلّي البعض من العائلات  عن حضوره الحركيّ  لم يقتصر على هذا الجانب وحسب بل تخطّاه إلى حدود التخلّي عن حضوره الكنسيّ بمجملـه. وهذا ما يفسّر ضعف الحضور العائلاتي العريق في الحياة الحركية.

 

البُعد الشهاديّ

الأمر الثاني يرتبط  بما أراه مسؤولية استثنائية كبرى تلقيها تحدّيـات عالمنا اليوم على كاهل العائلـة المسيحية ما يزيد من حاجة هذه العائلـة الى إحاطة الجماعـة بها وتعاضدهما معًا. 

ما أقصده بالتحدّيـات هي، اختصارًا، الرواسب السلبية للعولمة ووجوه التطورّ علميّ  التي تستبيح عصرنا بالميوعـة والتفاهـة والفراغ واللهو والاستهلاك،  على أنواعه، والعنف ومنطق القوّة  وما الى ذلك. 

أحصر التحدّيات بالرواسب السلبية لأنني أعتبر أن  العولمة ونتائجها أمر لا  يتناقض، بالمطلق، مع ايماننا وأهدافنا. فمثالًا أن أحدًا لا يستطيع القول أن الانترنيت لا تخدم البشارة وتفعيلها. تبقى قضية اللغة البشارية التي نطلّ بها عبرها وكيف نطلّ على الناس بيسوع المسيح ومن خلال ماذا ؟ فهذا موضوع آخر. 

 الاشكالية التي تعترضنـا كمؤمنين على هذا الصعيد، وباختصار، هي كيف نستطيع أن نتلقّى ثمار التطوّر الانساني  ونتفاعل معها ونسخّرها لخدمة الكلمة، ونصدّ، في آن، القيّمين على شؤون هذا التطوّر، لأنهم من ثقافة مختلفة، عن تحقيق أهدافهم التي هي جعلنا وقودًا لتنمية قواهم الاقتصادية.

وبالتالي كيف نستطيع أن نربّي شبابنا وأبنائنـا على عدم الخوف من التطوّر  لا بل دعوتهم إلى اقتحامـه، إنما محصّنيـن بما يمنع عنهم السقوط في التشييء ؟ 

والسؤالان مصيريان لأنهما يعنيان كيف نصدّ محاولة تجريدنـا من صورة الربّ التي فينا ومن بنوّتنـا له ومن الأبعاد الشركوية التي اكتسبناها من إيماننا، وبالتالي تلافي جعلنا عبيدًا للذات والأهواء والأنانيات؟ 

الجواب واحد وهو أن نرسخ في المنحى ألالتزامي  بيسوع المسيح ونرسّخ أبناءنا فيه.

 أهمية دور العائلة المسيحية اليوم تنبع من قناعة بأن كلّ ثقافة التزام، في المطلق، يكتسبها الشخص من قناتين لا ثالث لهما: إما من تحلّيه في مرحلة نضوجه، وبسبب ظروف معيّنة، بحال من الوعي الايماني، الفكري، الثقافي، الاجتماعي، البيئي الخ  تقوده إلى التزام أحد هذه الوجوه، حيث يشكّل هذا الالتزام في كثير من الأحيان حصانة للمجتمع ومعبرًا إلى الالتزام الإيماني. وإما لكونه تربّى على هذه الثقافة من قبل أهله أو من قبل القيّمين على فسحات التزامية تبرز في محيطه، كانت فيما مضى كثيرة وحيث يكون للتأثير الشخصي دوره الأساسي. 

أما اليوم فإن حجم الإمكانات المسخّرة في مواجهة الفكر الإنساني بهدف تطويعه ساهم في تقزيم وتغييب هاتين القناتين إلى حدّ بعيد ما يجعل من أهمّ أدوار العائلة المسيحية اليوم أن تستحيل فسحة التزامية نافرة، إلى جانب الحركة.

فإن أجرينـا مقارنـة بين حال مجتمعنا اللبناتي مثلًا في الأمس وما كان يتحلّى به من هيئات ولقاءات ومنتديات فكرية وثقافية واجتماعية، وفعالية  ما يسمّى اصطلاحًا المجتمع الأهلي، وبين حاله اليوم  نكتشف هول مأساتنا على هذا الصعيد. 

وإذا أجرينا مقارنة بين كثافة حضور الأهل في حياة أبنائهم في الأمس وتأثيرهم فيهـا، وغيابهم اليوم واستقالتهم من أي دور وتأثير، لاكتشفنا أيضًا هول المأساة التربوية التي نعيش.

وهذا ما يضعنا أمام السؤال الكبير: أي غد ينتظرنـا ما لم نستحل بكل عائلة مسيحية واحة التصاق شخصي وجماعي بكلّ ما يخصّ يسوع المسيح ويعنيه يتأثّر بها أعضاؤهـا وينمون في أجوائها ومن خلالها لتكون لهم الحصانة الشخصية والقدرة على تحصين الوسطين الكنسيّ والمجتمعي من خلال حضور نوعيّ مطلوب فيهما .

وهنا سألفت الى أمرين على هذا الصعيد:

أولّهما أن غيابنا  عن الحضور الفاعل  والاهتمام اليوميّ بحياة الكنيسة في عصرنـا  هو ما يرسّخ الوجه المؤسّساتي للكنيسة في ما هو عليه اليوم بسبب استباحته من قبل ما ذكرته قبلًا. 

الوسط الكنسيّ المؤسساتي يدور بين فلكيـن كلاهما مسيء لوجه الكنيسة وحضورها في العالم. فلك يستسلم لهذه المفاهيم الدنيوية ولاغراءات المال والسلطة والمجد والذي يبعد الكنيسة عن غايتها في تعميد العالم والمساهمة في خلاصه ويستقيل كلّيًا من مسؤوليته تجاه هذا الأمر    

وفلك آخر  يتوهمّ بأنّه يحصّن نفسه من شرور العالم  بالحضور التقليدي الجافّ في حياة العالم، لغة ومضمونًا وضيق آفاق وحصر اهتمامات وما إلى ذلك، ما يؤدّي إلى حضور ظاهري سطحي غير فاعل للكنيسة في حياة العالم.

ما علينا أن نتربّى ونربّي عليه  في عائلاتنا اليوم  هو الحضور المحصّن بمحبة الربّ وأولويته ومحوريته في الحياة وبفضائله، والمتحلّي برحابتـه ورغبته في ضمّ كلّ وجوه الكون والحياة إليه، والقادر على تشريع  كلّ السبل التي تصل به الى هذا الهدف انطلاقًا من الالتصاق يسوع المسيح. فترفّعنا عن الحضور في وجوه حياة المجتمع لا يكسبنا المزيد من القداسة بل، ببساطة،  يسمنا بسمة المستقيلين من دور شهاديّ دعانا اليه الربّ لنكون في العالم دون أن نكون منه.

ما يعني تحديدًا أن علينا أن نتربّى ونربّي على مسؤولية إيمانية تدعونـا الى الحضور الفاعل والمؤثّر في حياة مجتمعاتنـا بكل وجوههـا واهتماماتهــا يساهم في تحصين محيطنـا الانساني في وجه الشرور وأنسنة العلاقات الانسانيـة. و هذا كلّه من أجل الربّ وله،  بمعنى أن لا يشغلنا شيء عن الربّ، وسط هذا الحضور، أو يأخذنـا منه.

 

شؤون الأرض

وهنا لا نستطيع الحديث عن الحضور الفاعل في وجوه حياة المجتمع ونتجنّب تنكيه وجهه السياسي بتأثيرنا  إيمانيّ. في منظاري الايمانيّ الخوف من السياسة خطأ والانغماس فيها، خطأ، وكلاهما لا يعكسان استقامة مسار إيمانيّ.

ما علينا أن نفهمه، أن حضورنا في أي شأن في الدنيا منبعه خدمة الربّ الذي به نخلص ويخلص الآخرين. بالربّ نخلص ويخلص به العالم لا بأي أحد آخر. ولهذا نقول ونعلّم أن الربّ هو ألف وجودنا وياؤه. أيّ منحى تحزّبي، بالمطلق، يتخّذه حضورنا في الشأن العام، أو أيّ ارتهان لفكرة وعقيدة وموقف يجرّدنا من قدرتنا على النقد والتطوير  أو من حريّتنـا الانسانية، بوعي أو بغير وعي،  يتناقض مع ايماننا بشكل جذري ولا يخدمـه لأنه يحصر الحقيقة في غير محلّها الالهي.

أيّ عدائيـة مطلقة يجرّنا اليها الحضور في الشأن العام تجـاه أي شخص أو موقف أو فكرة تجعل من هذاالحضور متناقض مع إيماننا ولا يخدمه لأنه يحجب عنّا إمكانية التواصل الانساني، كشهود للمسيح، مع هذا الآخر، أيا كان،  واكتشاف وجوه الحقيقة لديه مساهمة في خلاصه.

 وأمام حجم ما هو مطلوب منّا إيمانيًا أختم بالقول، بأن ما من أمر يتيح لنا النجاح في هذا الدور المطلوب منّا اليوم غير أن نغذّي تعاضدنا العائلي بحياة الصلاة والشركة ووجوه الالتزام الشخصي وأن نحصّن هذه الحياة بتفعيل حضورها في حياة  هذه الجماعة وحضور هذه الجماعة في حياتها.




 

المشاركات الشائعة