كلمة - عيد الحركة جبل لبنان 2009

رينيه أنطون


ماذا يعني أن يأخذك بريق حركة الشبيبة الأرثوذكسية إلى حيث يكتسب أثرها فيك  هذا الموقع المتصدّر في مسار حياتك؟ وما الذي يشدّك، وآلاف الأبناء في كنيستك، إلى أن تضبط وجهتك باتّجاه السماء رغم ما تشدّك إليه الأرض وما فيها؟ وما الذي يجعلك أسير وجه كنيستك الحقّ، وجه الملكوت، رغم غضب التاريخ ورجاله، فيها، عليه وعليك؟ وما الذي يمدّ فيك جراح الجسد الذي، حقّاً، منه ولدت لتحجب عنك الحنين الى ترابية بها جُبلت؟  

أسئلـة يصعب أن تحرّكها فيك عظمة محطّة زمنيـة وحسب، فالتاريخ مليء بمحطّات عُظمى مرميّة في مجاهل الزمان. سرّ السادس عشر من اذار أنّه انعتق من كونه زماناً واستحال حُباً استباح هيكلك، وفعل فعله وغاب، ليبقى نسله فيك. سرّه أنه اقتلع من عمقك الزؤان لتلوح لك صورة الربّ التي فيك وتطلّ منك على الآخرين إن تأهّلت.


في رؤيتنا النهضويّة

ولذا فالجواب هو أن روح الله رماك في خاصّة مسيحه وصار بك غير من هو في خاصّة الدنيـا. دلّك الى طريق الخلاص  وأودعك أمانةً لدى حريّتك، المفتداة  غالياً، على رجاء أن تدرك أن في سماء هذه الحريّة تكمن قيامتك وفي أرضها يكمن موتك. أن تنتمي الى حركـة الشبيبة الأرثوكسية معناه أنك اخترت، على ضعفاتك، أن تفتح الباب للربّ وتكون إبناً، وأنت تشعر أن الكثير فيك وفي دنياك يغريك بأن تكون عبداً. فتصلّي وتصوم وتعلو بصوته في المحيط وترمي رجاءك عليه، وتدعوه الى افتقادك برحمته لتفعل فيك نعمته وتسعى بانتظار أن يزول عتبه عليك ويحكم على وفائك "لمحبتّك الأولى" عبر وفائك، أولاً، لما رماك بين يديه. 

فمن وجوه وفائنا لمحبّة الربّ أن نفي الرؤية التي حملتنا الى أحضانه ما لها علينا. وفي العيد يدوّي صوت الله في آذاننا ليلفتنا الى حيث ينتظرنا، فنلبس الجدّة لنمسح من نفوسنا عتاقة التراخي والأنـا ونسلك طريق الابن الشاطر الى بيت أبيه ونثبت. ولأن بيت الأب محمول، في رؤيتنا، بحدّة الحبّ والنبوءة بات سبيلنا، في العيد، أن نتوب الى تلك الحدّة "لنُبرز كلام الله الذي في فمنا ونستدعي الحاضر الى أن ينطبق على مشيئته العليّة" حسب ما يقول المطران جورج خضر، فنفي، بهذا، الهياكل، التي  عبرتها الرؤية في طريقها الى القلوب، حقّها علينا.


الحضور الرعائيّ

أيها الأحبة، إذ أشعر اليوم بضرورة أن ألفت الى ما يُبعد عائلة الله عن مشيئة سيّدها، فليس من موقع الواعظ المتقدّم ولا لأرمي بهذا العبء عنّا وأوحي بأننا عن هذه المسوؤلية منزّهون. فيقيني  أن ما نشهده من بصمات في العائلة الكنسية الأنطاكية، لا توحي بتجلّي صورة الربّ فيها وتعكس شحّ التأثير النهضوي في مسارها، إنما من أسبابه الأهمّ أننا أغفلنا، في الحركـة، لاعتبارات شتىّ، أمر مسؤوليتنا اليوميّة، الشخصيّة والجماعية، عن شؤون هذه العائلة.

لذلك إن شعر أحدكم، وقد تكونون كثر، بأنني أحدّثه بما لا يعرفه أو يعنيه فهذا دليل الى أننا، في الحركة، نرتكب خطأً كبيراً. هذا لأنني أحدثكم بما أنتم عنه مسؤولون. "فكلّ منّا مسؤول عن الكنيسة بكاملها" يقول المطران جورج خضر. ولذلك أذكّركم، مجدّداً، بأننا مهما نهضنا بحياتنا الحركية ، مهما تحلّينا بالسمات النهضوية، وساهمت تربيتنا ببناء الأشخاص، وتألّقنا بالفكر والتقوى والفضائل، فما لم نحصّن هذا بآفاق إنطاكية ونبن له مسرى الى مدى العائلة الكنسية فإن الأمر لا يخدم رسالتنا بملئها. إن صمَتنا نحن النهضوّيين أو لهونا، بما يشدّنا بعضنا الى بعض، عن خطر أفول تأثير النهضة في الوجه المؤسّساتي لكنيسة أنطاكية، الذي نشهده اليوم، فنحن لا نخصّ النهضة بشيء. إن حجب الانغلاق عنّا ما يجرح ضمير الله في كنيسته، أو تعالى انفتاحنا عن العناية بما يخصّ حياة الجماعة الكنسية أو خاف فكرنا من أن يقول كلمة الحقّ في الباطل البارز فيها وحابى وصمت، فنحن منتحلون للهويّة النهضوية ولسنا روّادها. من هنا أتطلّع الى مقاربتي لشؤوننا الأنطاكيّة، اليوم، كدعوة لنا، جميعاً، قيادات، ونُخباً فكرية وإرشادية، وأشخاصاً، وآباءً ورهباناً، ومعلّمين الى التوبة عن إهمالنا الفعليّ لها، عن تلهّينا عنها وضعف تربيتنا عليها،  عن أيّ جنوح محاباتيّ، إذا وجد لدينا، خدمة لحسابنا على حساب يسوع المسيح. هي بمثابة  دعوة كلّ نهضويّ، انتظم في الحركة أم لم ينتظم، إلى ممارسة مسؤوليته الايمانية عن الحدّ من الوجوه التي  تغرّب العائلة الكنسية عما يرضي الله وتزيد جراح مسيحه. وصدّقوا أن هذه الوجوه كثيرة  أذكر منها، اختصاراً، أمامكم ما أراه الأهمّ وهو:

 

الواقع الكنسيّ الرعائيّ والمشاركة

1.    تحكّم الأمزجة الشخصيّة في إدارة شؤون الكنيسة، بشكل نافر، والركون اليها بديلاً، من ضمير الجماعة وقوانينها، لتحديد ما يخدم الحياة الكنسيّة ويلبّي حاجاتها الرعائية والشهادية. وهو الأمر الذي  غيّب حضور الجماعة المؤمنة في آفاق المسؤولين وحدّ همومها فيهم بما يتوافق مع الأمزجة ويُرضيها، وسخّر القوانين في كنيستنا لهذا الشأن وسهّل استباحتها على أكثر من صعيد. ومثالاً، لا حصراً، أتوقّف عند التعديلات القانونية المتعلّقة بموضوع الأساقفة التي أقرّها المجمع المقدّس في اجتماعه الاستثنائي مؤخّراً. فإن شئنا أن نتخطّى تعارض أحد بنود هذه التعديلات والتعليم في كنيستنا حول لاهوت الأسقف، فإننا لا نستطيع أن نتخطّى جملة من التساؤلات أثارتها لدينا: كيف للجماعة أن تثق بأن خدمة حاجاتها الرعائية، وليس تلبية الرغبات الشخصية، هي ما دفع بالمجمع المقدّس، خلال فترة وجيزة جداً، الى التحوّل الجذري عمّا سبق وأقرّه في هذا الموضوع. وما الذي يحصّن الحياة الكنسية والقوانين إن تغيّرت، غداً، الأمزجة وسارت في اتجّاه معاكس؟ وهل يجوز التسرّع بإقرار تعديلات قانونية في الكنيسة بمن حَضرَ من السادة الأساقفة  ودون إشراك الجماعة في إبداء الرأي وتحديد الحاجات وسبل تلبيتها. منبع هذه التساؤلات لدينا يشير الى بصمة ضعف كبيرة في حياة كنيستنا المجمعية.

 

2.    البصمة الثانية هي استبعاد شعب الله عن دائرة الشورى الكنسية، واستدعاء أصحاب النفوذ اليها. إنها، بلغة أخرى، تهميش أثر القداسة في حياة عائلة الله وطلب أثر الدنيا فيها. إن أهمّ الأسباب، في منظاري، هو غياب الأطر القانونية للشورى في الكنيسة التي تصير بالمؤمنين، الممارسين للأسرار المقدّسة والملتزمين حياة كنيستهم، مساهمين في إغناء الحسّ الرعائي للآباء وتحديد توجّهاته، وبالآباء مساهمين في بلورة هذا الحسّ لدى الأبناء ومواكبة توجّهاته. فإن كنّا نتفهّم أن صعوبات حالت دون أن يُستكمل تنفيذ قانون المجالس في الكرسيّ الأنطاكيّ وتحقيق المرجوّات منه، التي أهمّها مشاركة أعضاء العائلة الكنسية، أبناء المواهب فيها، في ادارة همومها،  فإننا لا نفهم الارتياح القائم، في الكنيسة المواهبية، إلى تفرّد موهبة وتسلّطها، بديلاً من هذه المشاركةوبالقدر نفسه يؤلمنا أن يحلّ بديلاً آخر، في أماكن عدّة، مساهمةُ رجال المال والسياسة في توجيه القرار الكنسيّ وتصدّرهم دائرة الشورى المحيطة بالمسؤولين، بالرغم مما لهذا المشهد من انعكاسات تجرح استقامة حياتنا الكنسية. فحياة الكنيسة تُطعن حين تنهزم، فيها، مفاهيم الايمان ومقاييسه الخلاصية أمام مفاهيم الدنيا ومقاييسها الانتفاعية، وحين تتصدّر معيّة رجالها للنافذين على  معيّتهم للمؤمنين، وحين تحلّ صور الأثرياء بديلاً عن أيقونات القديسّين في القلوب، وحين توحي أوجه الكنيسة المؤسساتية للفقراء عكس ما أوحاه لهم ربّهم. هذا كلّه يُختصر  في أن جسد المسيح،  الممتدّ في التاريخ، يُطعن مرة ثانية بحربة العالم.

 

3.    البصمة الثالثة هي وهن الحياة المجمعيّة والشركوية. وأدرج في إطارها ، أولاً، الغياب الكبير الناتج عن عجز المجمع المقدّس عن معالجة الصعوبات العميقة والأمور التي تهمّ، حقيقة، شهادة كنيستنا اليوم، ومنها معالجة ما يُبعد الأبناء، وخصوصاً الشباب منهم، عن التزام يسوع المسيح والحضور في كنيستنا. وثانياً، ضعف الحسّ الشخصيّ بالمسؤولية، لدى معظم المعنيين، عما يخصّ الوجه الانطاكيّ الواحد لكنيستنا من هموم، واكتفاء كلّ منهم بما يعني أبرشيته وشجونها دون اطلالة، منه، فاعلة على ما يتخطّى حدودها. وثالثاً غياب المساءلة المجمعية للضعفات الخلقية والمرَضية والرعائية التي تبرز أكثر وأكثر ويصمّ الحديث عنها أذنيك. كما لو أن ما تعكسه من إساءة الى يسوع المسيح وما تزرعه في نفوس المؤمنين من تشكيك هو أمر لا يعني الرعاة. ورابعاً بروز ظاهرة المحاور المجمعيّة وظواهر التبعية الشخصية على أنقاض  المجمعية المتألّقة والتلمذة ليسوع المسيح. وهذا ما يرهن القرارات الرعائية والتوجّهات الكنسيّة لمصالح شخصية وطموحات ومساومات، ويبعدها عن أن تكون من تأثير فعل الروح القدس في الآباء. وخامساً  عجز الحالة المجمعية عن تأمين المشاركة المالية بين الأبرشيات الغنية والأبرشيات الفقيرة رغم التفاوت الجارح في الامكانات بينها وتفاقم الحاجات. فمُخجل أن يعيق حبّ الاقتناء في الكنيسة، أيّاً كان صاحبه، امتداد الوحدة، التي تجمعنا في الكاس المقدّسة الواحدة، إلى أبهى وجه شركويّ لها، وهو شركة المال.

 

4.    البصمة الرابعة هي الصمت والتراخي الملحوظان، والمساومة على ما هو غريب عن تراثنا ومتناقض مع فكرنا الأرثوذكسي، رغم ما يُنسب إلى بعض المسؤولين من شدّة تقوى وتعلّق بالأصول. ومن هذه الوجوه أذكر ما نعرفه عن نصب تمثال كبير ليسوع المسيح وتماثيل أخرى في ساحات بعض أديرتنا الأرثوذكسية، وما نلحظه من إحاطة الدعوات إلى بعض الأنشطة الكنسية، الهادفة أصلاً الى إعلاء شأن الايمان والقداسة في حياتنا، بأجواء فولكلورية. المؤلم ألا تلفت المعنيين بنصب التماثيل خطورة هذه الظاهرة وما تقود إليه بُسطاءَ الثقافة الايمانية، وهم يشكّلون الشريحة الأوسع من شعبنا، من غربة عن تراثهم الأرثوذكسيّ. خطورة أن تتصدّر التماثيل، يوماً، ضمائر المؤمنين وتعلو في منازلهم، تماهياً، مع شموخها في واحات القداسة، وأن تمسي أمكنة وجودها محجّتهم بدل الأماكن المقدّسة ويحلّ السجود لها والتبرّك  منها مكان السجود أمام الأيقونة والتبرّك منها. أما في الجانب الآخر فأجدها مناسبة لألفتكم، جميعاً، آباءً ومعلّمين وإخوة ، إلى أن إعلاء شأن القداسة والقديسين في وجوه حياتنا وجب أن يشكّل همّاً  تتمحور حوله كلّ لحظة من لحظات عيشنا، وأن ما يساهم في تربيتنا على هذا الهمّ وجب أن يكون في صلب مهامّنا الارشادية والتعليمية. كما أن استحضار سير القدّيسين إلى يومنا، لتحيي فينا تذكار من التصقوا بالكلمة الالهيّ وشرّعوا كيانهم له وبادلوه الحبّ والدم حتى باتوا شفعاء لنا، هو شأن يغذّي جهادنا ويساهم في صوننا من الضعفات ويخدم التزامنا الربّ. وأن يُتاح لنا التبرّك من طُهرهم وطيبهم، ومن كلّ ما هو مقدّس، والسجود أمام ذخائرهم وتكريمها إنما هو بركة إلهية يُنعم الله علينا بها، دون أن نستحقّها، وتعليم من تعاليم مجامعنا. لكنّ هذا يتكامل مع ضرورة تجريد مبادراتنا، على هذا الصعيد، من الأجواء الفولكلوريّة المحيطة بها، لئلا تشوّه هذه الأجواء  بُعدها التقديسيّ العميق. فيكفي أنها تشرّع رموز القداسة لمن لا يقيم للايمان والقداسة وزناً في حياته، ومن يسعى، عبرها، الى تلبية غرائزه الطائفية. ويكفي أنها قد تَُشغل  الشعب المؤمن عمّا يقدّسه حقيقة، في مناسبة كهذه، من وجوه الصلاة والتوبة والخشوع وطلب الشفاعة، فتُلهيه عن وجوه العبادة الحقّة والأساس الذي هو يسوع المسيح والذي من أجله نشتهي القداسة والقديسين في حياتنا. وللهدف نفسه يقتضي الأمر منّا، في مناسبات كهذه، أن نحصّن المؤمنين باستقامة الفكر ونسلّحهم بالتعليم القويم ذات العلاقة بها وبأبعادها العجائبية. وهذا سبيله أن نواكبها بتعليم مكثّف يعرّف شعب الله بأن المنبع الأساس لإيماننا بيسوع المسيح  هو أن قلوبنا صدّقت أقواله وتحسست محبّته وعاشت فداءه. وأن ربّنا "هو مبدع الكون والوجود"، وهو قادر، في كلّ ومضة، أن يُبدع المزيد مما لا يحّده عقلنا ويهب أحبائه القديسين نعمة هذا الابداع. غير أن العجيبة الأهمّ والأعظم، التي يمدّ إيماننا بها، تبقى تلك التي نعاينها، وتتغذّى بها حياتنا، ونتوحّد بها، في كلّ ذبيحة الهية حيت يستحيل الخبز والخمر جسد مسيحه ودمه.

 أيها الأحبّة،

 شئتها، في عيدنـا، مصارحة تائبة شاخصة الى جمال الهنا. ولأن المصارحة في الكنيسة، على قول الأب الصديق ايليا متري، "تستوجب وعي الذات وما يعتريها من خطايا متعبة، لأنه يستحيل عليك أن تجاهر بالحقّ إن لم تعرف ذاتك"،  فإن مصارحتنا لن تستقيم بغير أن نكلّلها بتوبة تستمرّ فينا نحن الحركيين، توبة تقودنا إلى الانحناء والتواضع وإدراك ضعفاتنا وخطايانا وتعرية ذواتنا أمام الربّ ليخترق، مجده على الصليب وقيامته، هياكلنا.   

على هذا الرجاء أدعكم في محبّة سيادة راعي الأبرشية الجليل لتنهلوا منها ما أمكنكم، فتبقوا، أبداً، شهوداً لحقّ الربّ في كنيسته. والسلام.

 

 


المشاركات الشائعة