مقابلة مع جريدة الرأي - 2008

 السيّد  رينيه أنطون 


1- أنت ابن طرابلس، هل هي حقيقةً في طَور التحوّل من مدينة منفتحة إلى مدينة متزمّتة، كما يجري تقديم صورتها؟

يصعُب كثيرًا أن تتحوّل طرابلس إلى مدينة متزمّتة. فالمدينة متأصّلة في هويّتها القوميّة، وإن أدّت الظروف السياسيّة الحاليّة إلى تلهّيها، بعض الشيء، باهتمامات أخرى. هذا التأصّل، جعلها حتّى الأمس، مدينة تعجّ بالتيّارات الثقافيّة والاجتماعيّة وهيئات المجتمع المدنيّ التي تألّق دورها، خصوصًا، إبّان الحرب اللبنانيّة، فساهمت في إدارة شؤون المجتمع الطرابلسي وحفظت وحدة أبنائه ورفدته بالقراءات السياسية المتعدّدة والأنشطة الثقافيّة والاجتماعيّة وغيرها. ومن الهيئات التي جمعت أهل المدينة على هذا الصعيد أذكر، مثالاً لا حصرًا، التجمّع الوطني للعمل الاجتماعيّ وروابط ومجالس ثقافيّة عدّة في كلّ من طرابلس والميناء. لكنّ بعض مناطق المدينة كانت تعاني من إهمال الدولة لحاجاتها التنمويّة الأساسيّة ولا زالت تعاني من هذا الإهمال إلى اليوم حيث تفتقد إلى الحدّ الأدنى من الشروط البيئيّة، الصحيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة، إضافةً إلى أبسط مقوّمات العيش وضروراته. هذا ما آل بها مجتمعات مشرَّعة أمام التفاعل السريع من التيّارات السياسيّة والدينيّة العقائديّة، وكذلك الأزمات والتجاذبات السياسيّة بأبعادها الاقتصاديّة وغيرها. في أيّ حال، إنّ تأثّر طرابلس بالأزمات السياسيّة، ومنها الأزمة الأخيرة في لبنان، ليس بجديدٍ أو بمُستَغرَب، فلطالما مرَّت المدينة، كغيرها من المُدن البحريّة، بمراحل مشابهة. لكنّ هذه المراحل لم تُضْفِ عليها صورة مغايرة لحقيقتها الحضاريّة والتاريخيّة. فهي لا زالت إلى اليوم المدينة المنفتحة على خصوصيّات شرائحها السكّانيّة والتي نسجت بين أبنائها وأبناء المناطق المجاورة علاقات وطيدة ساهمت في تثبيت هويّتها العربية بآفاقها المتعدّدة الوجوه. وهي المدينة التي أثبت تاريخها، رغم الفِتَن والحروب التي مرَّت عليها، أنّها تختصّ بدورٍ حضاريّ وحضور وطنيّ مميَّز يرتبطان، عميقًا، ببُعدِها القوميّ وبكونها حاضنة دائمًا للآراء والمشارب المتنوّعة.

 

2- كأمين عام حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تعرف أو تعيش في مدنٍ لبنانيّة ذات طابع مسيحيّ، هل تجِد فارقًا في القدرة على التعبير وممارسة عملك اليوميّ بين المنطقتَين المفترضتَين، وهل من موانع تحول دون قيامك بكامل واجباتك؟

الحقيقة أنّني لم أشعر يومًا بغربة عن هذه المدينة أيًّا كانت الحالة السياسيّة السائدة فيها، كما لم أشعر يومًا بما يقيّدني ويحدّ من حرّيّة المبادرة لديّ، خصوصًا وأنّ طرابلس هي المكان الذي وُلِدتُ ونشأتُ وتعلّمتُ وعملتُ في ظلاله. والفارق الحقيقيّ الوحيد هو فيما تقدّمه طرابلس من نسيج وطنيّ قلّما تعرفه المُدن اللبنانيّة الأخرى التي تتحدّث عنها. فهنا نعيش تداخلاً، اعتدنا عليه، في العادات والتقاليد الإسلاميّة والمسيحيّة ومشاركة في الأعياد والتبريكات والتعازي والأفراح ومناسبات أخرى. هذا التداخل لا أراه يتعارض مع أيّ وجه من وجوه عملي، كمسؤول في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، بل يساعد كثيرًا في ما نسعى إليه من انفتاح على الآخر بهدف معرفته وفهمه بشكل أفضل. من هنا تلحظ أنّ عملي في هذه المدينة لا تعوقه أيّة مصاعب أو مضايقات ولا تختلف فاعليّته في طرابلس عنها في غيرها من المدن، لا بل فإنّ كثيرًا ما يتميّز عملنا هنا من خلال حضورنا في منابر مشتركة مع أبناء المدينة لنشهد عبرها بأصوات متنوّعة ونساهم، معًا، في تظهير واقع طرابلس الحواريّ واعتزازنا بالانتماء إليه.


3- كيف نحمي طرابلس وكلّ لبنان، برأيك؟

كلّنا يعلم أنّه منذ استقلال لبنان وإلى اليوم لم نلمس أيّ مسعى جدّيّ لبناء دولة فعليّة. فالنظام الطائفيّ اللبنانيّ المعمول به يشكّل أحد المعوقات الأساسيّة في وجه بناء هذه الدولة. أضِف إليه ما هو، بشكل أساسيّ، وليدٌ لهذا النظام وأعني به نُدرة الأحزاب الكبيرة الجامعة لأبناء الوطن على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم الدينيّة. هذا الأمر هو ما يؤول بالحياة السياسيّة في لبنان إلى أن تتمَحوَر حول زعامات شخصيّة، وأن تُحَدّ أبعادها بالمحلّيّ والمناطقيّ والطوائفيّ الضيّق، لكونها باتت محكومة بخدمة مصالح هذه الزعامة والفئة أو تلك وعدم تعارضها معها. إنّ هذا الواقع استحال بشرائح الشعب اللبناني فئات متواجهة بعضها مع بعض، تهدف كلّ فئة منه إلى تحقيق مكاسب إضافيّة على حساب الفئة الأخرى، في حين أنّ المطلوب أن ينصهر هذا الشعب، كمعظم شعوب العالم، في رؤيةٍ وطنيّةٍ واحدة جامعة تعبُر الغايات والمصالح الطائفيّة باتّجاه المصلحة العامّة الكبرى، تتمّ التربية عليها في ظلّ دولة تقوم على العدالة السياسيّة والاجتماعيّة والتنمويّة، وتتّسم بالقدرة على حماية أمن شعبها وسلامته وحقوق كلّ من أبنائه. في إطار هذه الرؤية فقط، يُمسي الاختلاف السياسي وتمايز الآراء بين المواطنين مصدر غِنى للوطن يساهم في تحسين أداء حكّامه على المستويات كافّة.

قد يرى البعض في الحديث عن تخطّي الحالة الطائفيّة وبناء النظام الوطنيّ حُلمًا يعكس جهل صاحبه بمكوّنات لبنان اليوم، وواقعه وتاريخه وأسباب نشوئه. لكنّ الحقيقة هي أنّ أيّ سعي لبناء الدولة والتحكّم بمسار الأزمات السياسيّة والأمنيّة في لبنان خارج هذا المسار سيبقى، في يقيني، دورانًا في حلقات مفرغة. فنظام المحاصصة الطائفيّة يشكّل رحمًا خصبًا دائمًا للأزمات، وما من أمر يحصّن طرابلس وكلّ الوطن ويحميهما غير أن ننطلق، اليوم قبل الغد، في بناء ورشة تربويّة، مدرسيّة، جامعيّة، عائليّة ومجتمعيّة، تهدف إلى غرس المفاهيم الوطنيّة الرحبة وثقافة الانفتاح والحوار مع الآخر، غرسها في النفوس والعقول والنُّظُم سبيلاً إلى زحزحة الأُسس الطائفيّة منها. هذا لن يزحزح القيَم الدينيّة الإيمانيّة، الإسلاميّة والمسيحيّة، من النفوس بل سيرسّخها أكثر ويُكسبها مزيدًا من الفاعليّة والتأثير في حياة اللبنانيّين ومجتمعهم، ليكون لنا، حقيقةً، لبنان وطن الرسالة الذي طالما نادَينا به.

 

 

المشاركات الشائعة