الحركة المستمرّة

رينيه أنطون  


 مجلّة النور -  العدد السادس 2008 




لا يُحرجنا أن  نعود، أحياناً، للتأمّل في موضوع الحركة والتعاطي الرعائي معها، خصوصاً حين نرى أن المناسبة تقتضي ذلك. ففي ذلك بعض إفادة للكلّ خصوصاً وأننا لم ننظر الى الحركة، يوماً، كشأن يخصّنا دون غيرنا. الحركة في حقيقتها، كما في رؤيتها وأدبها وفكرها وحياتها، ما كانت يوما ً إلا شأناً يخصّ  الكنيسة كلّها. ولعلّ هذه الحقيقة، الحاضرة في ضميرها منذ أن أطلقها الربّ في أنطاكية والى اليوم هي، نفسها، ما حضر في ضمير الراعي الجديد لأبرشية عكار المتروبوليت باسيليوس (منصور) حين نطق، في خطابه الرسميّ الأول، بالقول "إن حركة الشبيبة الأرثوذكسية وصيّة مقدّسة في عمليّ". ولعلّها، أيضاً، هي الحقيقة التي دفعت بهذا الراعي الشاب الى دعوة الشباب للانخراط في الحركة في أكثر من مناسبة تلت. 

مناسبة العودة، اليوم، الى هذا الموضوع هي انتقال أحد كبار أعمدة كنيستنا الأنطاكية، المطران بولس بندلي، الى "دفء الربّ وحنانه". ذلك لكون ولادة هذا الراحل، القديس في ضمير الجماعة، من رحم الحركة والتصاقه به عمراً وفخره بانجازات الربّ من خلاله ورفعه لأبناء هذا الرحم في تألّقاتهم وعثراتهم  وتفهّمه  ودعمه لهم  سيجعل لرحيله تأثيرات جمّة تطال حياة الحركة وأبناءها ومحبّيها وتعني، أيضاً، من يصرّ على اختلافه معها ومواجهتها من أبناء كنيستنا ومسؤوليها. وباكورة هذه التأثيرات وأهمّها، برأيي، هو ما كشفه رحيل هذا الرجل عن بدء ولوجنا في مرحلة انتقالية جديدة تدفعنا الموضوعية الى أن نتوقّع اكتمالها يوماً. فنحن، في حقيقة الأمر، قد بدأنا العبور من زمن احتضان عمالقة التاريخ الانطاكيّ الحديث، رعيلنا الحركيّ الأول، لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، وزمن نهل الحركة من فيض هذا الرعيل ونموّها في كنفه، الى زمن الارتكاز، أكثر فأكثر، الى دورنا كأجيال حركية لاحقة وما يتجلّى فيه من فضائل ونفس جهاديّ  ويعكسه من روح شركوية ومسؤولية كنسية وانجازات. لقد بدأنا العبور من زمن رعيل، يوازي وجوده بيننا جهد كلّ جيل حركيّ والتزامه ويسند هذا الجيل في حفظ الحركة ومسيرتها، الى زمن يستدعي منّ كلّ منا مزيداً من الخلق والاتكال على الذات. إنه شأن سيوجب علينا التعايش معه، رغم صعوبته، بشجاعة أبناء القيامة دون أن نهمل الصلاة والتضرّع الى مسيحنا، في كلّ لحظة، لأجل أن تطول فترة اكتمال هذه المرحلة. 

هذا ما يفرض علينا أن نثبت في قامة المسؤولية التي يرميها على عاتقنا هذا المفصل في حياتنا الحركية والتي كنّا عليها أو سعينا اليها دوماً. نحن مدعوّون الى أن نثبت في الجدّية وعدم التهاون مع الذات والتحلّي بما دعينا للتحلّي به، دائماً، من سمات المؤمن وجرأته لنقود، باستحقاق، ورشة تفعيل شهادتنا الحركيّة وتعميمها، المرجوّ، في كافة أرجاء أنطاكية. إن منبع رجائنا هذا هو  يقيننا بأن ما غرسته  الحركة من بذور جمال في حياة كنيستنا الأنطاكية ما كان لينمو ويثمر لولا كونه من ارادة الربّ ومشيئته في كنيسته. ومشيئة الربّ هذه هي من يسألنا، اليوم، مدّ هذا الجمال الى أجيال كنيستنا وفي آفاقها كلّها وغرس بذوره في كل زاوية من زواياها ووجه من وجوهها دون  استسلام لصعوبة أو تسليم بعرقلة. وتدعونا، تأهيلاً لذلك، الى تحصين ذواتنا بسمات معلّمنا المطران بولس ورعيلنا الأول، سمات المحبّة الشاملة الكلّ، والالتزام الجديّ، والمعرفة والثقافة والحكمة والصبر في مواجهة الصعاب والشركوية الحيّة المعاشة والوداعة واللطف واحترام الآخر. كما تدعونا، ونحن متسلّحون بهذه السمات،  الى التصلّب أكثر في الدفاع عن الحق في كنيسة يسوع المسيح وعن بهائها في وجه مغتصبيّ عذريتها أياً كانوا. 

وربّما قد آن الأوان ليترافق هذا مع مصارحة بعض الرعاة والمسؤولين في كنيستنا لأنفسهم ولنا  بحقيقة موقفهم  من هذه الورشة الحركية وقناعتهم بها وبضرورة  دعمها كترجمة لمسؤوليتهم عن النهوض بحياة كنيستنا. بات ما من مفرّ من أن يستجيب بعض الرعاة لما كلّفهم به الربّ ويجيبونا، بخطاب جليّ وواضح، عما تثيره مواقفهم وممارساتهم لدينا، كشريحة كنسية، من تساؤلات. نحن نترجّى هذه المصارحة لا من موقع القلق على وجود بل من موقع  الأبناء المتعلّقين بأبوّة رعاتهم وبركتهم والمصرّين على الغرف منها. وهذا نرتجيه  تجسيداً لعضويتنا في قلب الكنيسة وتطلّعنا الدائم للمشاركة الفاعلة في خدمة جسد الربّ ووعياً لمقومّات استقامة هويتنا كخدام  للكنيسة وأمانةً لهذه الهوية ووفاءً لما بُنينا عليه. أمّا فيما خصّ القلق فنحن، في حركة الشبيبة الأرثوذكسية، لا نقلق من شأن أو نخاف أحداً ومطمئنّون، كلّياً، لرساخة إيماننا بالله واحتضانه ودعمه لكلّ وجوه حياتنا الجماعية والشخصية ولتسليمنا له، وحده، اختيار سبل هذا الاحتضان وقنواته.

فبهذا الوضوح نخطّ بعض ما لدينا من تساؤلات، وليس كلّها، لا غضباً أو موقفاً من أحد بل تعبيراً عما يختلج، حقيقة، صدورنا، وتشجيعاً لبعض رعاتنا على هذه المصارحة المنشودة لأجل أن يظلّل العلاقة بيننا المزيد من الصفاء. أولاً بماذا  خدم الكنيسة ما سعى اليه بعض السادة المطارنة، وما يسعى اليه البعض الآخر اليوم، من تقنين الحضور الحركي وتحجيمه على أصعدة التعليم والتلمذة والارشاد؟ فهل استطاعت الرئاسة الكنسية، حيث نجحت هنا أو هناك، أن تقدّم بدائل فاعلة تملأ الفراغ في أبرشياتها على هذه الصعد وتتوافق مع  الطموحات الايمانية وتلبّيها؟ وبماذا يخدم الكنيسة أن يُستبعد الحركيّون، وهم أبناء الممارسة الايمانية، عن عضوية المطلات الرعائيـة والكنسية في بعض الأماكن  وتُشرّع هذه المطلات أمام الوجوه الاجتماعية والاقتصادية وأصحاب النفوذ بغض النظر عن موقفهم من الالتزام الكنسيّ وموقعهم منه؟ فهل يُرضي الربّ أن تُرتهن الحياة الكنسية لللامبالاة الايمانية ولغير أبناء الكلمة ومحبّيها؟ وأين يكمن وجه المحبّة والحقّ  في أن يُنظَر الى الحركـة من خلال أخطاء هذا أو ذاك من أعضائها أو مسؤوليها ويُغفل عن انجازات جماعتها وتضحياتها، وفي الآن نفسه، يُغفل عن أخطاء وخطايا الكثيرين من الرعاة والمسؤولين والأبناء رغم ما يزرعه بعضها من تشكيك إيمانيّ في النفوس ؟ وهل رعاية الشباب الحركيّ ومباركة عمله تخرج عن واجبات الأسقف إحاطة الرعية بمحبته وخدمتها؟ وهل في اقتناء الشباب للكلمة والتزامه الأسرار  وعشرته للكتاب المقدّس وتحلّقه حوله وسعيه البشاري ما يخدم الحركـة ومجدها أم ما يخدم مجد الربّ وارادته حتى  يُمنّن الحركيون بهذه الرعاية أو تلك المباركة؟ وهل في وجوه التكريس هذه وفي أيّ وجه من وجوه التزام كنيسة الربّ ما يُحزن ويُخجل أم ما يُفرح ويُحمَد الله عليه حتى تستقيل المؤسسة الكنسية من أبسط واجباتها في المساهمة بدعم  متطلّبات هذا التكريس وأعبائه ؟ وهل كثيرة هي وجوه الوحدة والمشاركة في كرسينا الانطاكي حتى يُسعى الى إضعاف الوجه الانطاكيّ الواحد للحركـة؟ وأخيراً  هل نلبّي ارادة ربّنا يسوع المسيح إن تغاضينا عن حال الجمود في كنيسته وغربة الشريحة الأوسع من الناس عنها فلا نحرّك ساكناً ونهمل التجاوب مع رسائل الشباب وطروحاتهم ومشاريعهم وهمومهم سنوات وعقود؟

فكيف، بعد ذلك، نستطيع أن نصدّق أن  أخطاء الحركيين، إن وجدت وحيثما وجدت، هي الأسباب الكامنة خلف هذه الحال؟  يُخطئ الحركيون؟ هذا صحيح، وقد يُخطئون كثيراً، وهم، بالتأكيد، بحاجة الى أن تكتسب معالجتهم لأخطائهم جدّية أكبر، وهذا ما هم مدعّوون اليه ليس اليوم فحسب بل في كلّ يوم. لكنّ الصحيح أيضاً، وبالمقدار ذاته، أن الخطيئة ليست حكراً على أحد، وأن كلّ بشريّ، مهما سمى شأنه، يُخطئ، وأن ما يربّي  الأشخاص، في الكنيسة، ويدفعهم الى مزيد من التوبـة هو تمثّلهم كأبناء بالآباء وتمثّلهم كأعضاء بالمسؤولين الأمناء على الحقّ. فهل لنا، ربّي، أن نعاين، في الكنيسة التي تحب ونحبّ، ما يسير بنا الى توبة أفعل؟  

 

 

   

 

المشاركات الشائعة