مقابلة مع الأمين العام

 الأخ رينيه أنطون

مجلّة النور - العدد الثاني 2006

في هذا العدد الخاصّ "بحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وشهادتها في عالم اليوم" توجّهنا إلى الأمين العامّ الأخ رينه أنطون وطرحنا عليه أسئلة نابعة من الواقع الحركيّ والكنسيّ اليوم. 


شؤون الأرض

1-هل ترى تأثيرًا للتجاذبات السياسيّة القائمة على وحدة الشباب الحركيّ، وكيف يمكن مواجهة هذا التأثير إن وُجِد؟ وهل ترى أنّ بإمكان الحركيّ أن يلتزم تيّارًا سياسيًّا دون آخر؟ وما هو موقع وثيقة التزام شؤون الأرض في هذا السياق؟

أوّلاً، أنطلق في الإجابة عن هذا السؤال، من ضرورة الفصل بين ما اصطلحنا على تسميته بالتزام شؤون الأرض، وما يستتبع هذا الالتزام من متابعة وتعاطف مع هذه المبادئ السياسيّة أو تلك، وبين التحزّب لهذه أو تلك من المبادئ والجماعات، وما ينجم عن هذا التحزّب من صراع وتجاذب. وعلينا، في هذا السياق، أن نتحلّى بالموضوعيّة والجرأة في مقاربة هذا الجانب. فشبابنا يعيش اليوم في مجتمع أمست فيه السياسة، بتفاصيلها اليوميّة، هاجسه الدائم. ولعلّ الأمر يعود إلى حجم التطوّرات السياسيّة وكثافتها في الفترة الأخيرة وإلى عودة الحياة السياسيّة إلى لبنان بعد طول غياب. لذلك أجد أنّ من غير الموضوعيّ أن ندعو الشباب إلى التعفّف عن الأجواء السياسيّة، في حين أنّه يعيش في صُلب هذا المجتمع، يعاني ما يعانيه الجميع وينعم بما ينعم به الكلّ. وكذلك أجد أن ليس من خدمة الإيمان بشيء أن نشجّع الشباب على أن يكون نصيرًا للّامبالاة بشؤون الوطن والناس، فاللّامبالاة تجاه هذه الشؤون تُناقض شهادتنا لقضيّة يسوع المسيح في الأرض. الأمانة لإيماننا تقتضي أن نضيء على منطلقاتنا الإيمانيّة وخصوصيّتها في مقاربة موضوع الالتزام السياسيّ لتشكّل، هذه المنطلقات، حصانةً يتسلّح بها الشباب في مواجهته لتداعيات التأزّم السياسيّ الحاصل.

باختصار، تنبع خصوصيّة منطلقاتنا من كون الله هو منطلقنا وغايتنا من كلّ أمرٍ نُقدِم عليه في هذه الحياة. منه ننطلق، وإليه نرنو. وإنّ خدمة الإنسان هي، في رؤيتنا، طريقًا إلى الله، لكونه قد وحّد ذاته بالإنسان بيسوع المسيح. أمّا اهتمامنا بالسياسة، فينطلق من نظرتنا إليها كوجه من وجوه خدمة الإنسان، لكَوْن تعريفها العلميّ هو إدارة شؤون البشر وحاجاتهم والعلاقات في ما بينهم. الأمانة لمنطلقنا الإيمانيّ هذا تضعنا في موقع المتمايز عن كُثُر من المهتمّين بالشأن السياسيّ، حيث نحن مدعوّون إلى أن نترجم هذا التمايز بخصوصيّة موقف وممارسة تعكس أبعادًا عدّة منها:

حضور الشأن العام في صلاتنا ومواكبة الصلاة التزامنا هذا الشأن، فنخاطب الله به دائمًا، ونستدعيه للحضور أبدًا فيه، وكذلك نحصّن أنفسنا بالصلاة في وجه الجنوح عن الغاية المرجوّة من التزامنا هذا.

وعينا مسؤوليّتنا عن إعادة العالم إلى الله. وإحدى سُبُلنا، لملامسة هذا الهدف، هي العمل على إزالة ما يعيق تحقيق إنسانيّة الإنسان التي هي سبيل إلى ارتقاء الإنسان بذاته نحو الله. وطبعًا، علينا أن نعكس قناعاتنا بأنّ هذه الإنسانيّة لا تتحقّق إلاّ بتحرير الإنسان من الظّلم وبتنعّمه بحرّيّته المُفتَداة بالدمّ الإلهيّ وبعيشه في رحاب العدالة.

 وعينا كوننا مسؤولون عن كلّ إنسان لا عمّن نتشارك معه في الإيمان والرأي والفكر فقط، ووعينا أهداف سعينا وهي أن ينتصر كلّ إنسان على خطيئته المعيقة تقرّبه من الله، لا أن ينتصر أحد على أحد.

إن اقتنى شبابنا هذه الرؤية الإيمانيّة، لحكمت تلك الرؤية ممارسته السياسيّة، إن وُجِدَت، وحفظت وحدته وسلامة مواقفه. بالرؤية هذه تتحرّر ممارسته من كلّ بُعدٍ فئويّ وعدائيّ وعُنفيّ تجاه الآخر. وهذا ما يشكّل حصانةً له في وجه التجاذبات السياسيّة الضيّقة. أمّا في حال العكس، أي غياب هذه الرؤية عن ضمائر الشباب، فإنّني أقلق من أيّ شكلٍ من أشكال تحزّبه السياسيّ لكون شهادته، والحال هذه، ستمسي موقفًا فئويًّا من الآخر لا سعيًا من أجله ومن أجل خلاصه. 

أمّا في ما يتعلّق بوثيقة التزام شؤون الأرض، وهو الشقّ الأخير من السؤال، فلا شكّ في أنّها تكتسب موقعًا مفصليًّا في هذا السياق. الوثيقة حدّدت لنا، وبشكلٍ واضح، المنطلقات الإيمانيّة للالتزام السياسيّ، وما يجب أن تكون عليه غايتنا من هذا الالتزام. ومكمن الأهمّيّة في هذه الوثيقة، هو أنّها عبّرت عمّا أجمعت الجماعة الحركيّة، أو اتّفقت عليه، من توجّه في ما يخصّ وجهًا من وجوه شهادتنا بالغ الحساسيّة. وعينا أهمّيّتها هذه لم يكن بالمستوى المطلوب، فأتى تعاملنا معها، مسؤولين وأعضاء، بغير مستوى، ما غيّبها عن ضمائر شبابنا طيلة عقود، وأفقدها موقعها المفصليّ في هذا الإطار. ما أراه قد بات ضرورة، ونحن نشهد نهضة الحياة السياسيّة في بلدنا من جديد، هو أن نتصالح وتاريخنا في ما خصّ هذا الشأن، فنقارب، بشكلٍ موضوعيّ وعلميّ، الأسباب العميقة التي ساهمت في عدم تفعيل الوثيقة عقودًا من الزمن، وأيًّا كانت هذه الأسباب، لتشكّل هذه المقاربة منطلقًا لإعادة تفعيلها مجدّدًا ومدخلاً لتطويرها إذا ما ارتأينا ضرورة لذلك. وهنا ألفت إلى قراءة الأخ كوستي بندلي لهذه الأسباب المنشورة في صفحتنا الالكترونيّة تحت عنوان "الأرض والملكوت"، والتي أرى بها باكورة هذه المصالحة التي أدعو إليها.


الوحدة

2-كيف تواجه الحركة انعكاس الصدع في العلاقات بين لبنان وسوريا، الذي يتوسّع يومًا بعد يوم، على العلاقة بين الحركيّين في البلدَين؟ وهل من مساهمة لها في توطيد أواصر الوحدة الأنطاكيّة؟

لا شكّ في أنّ تصدّع العلاقات بين البلدَين يُرخي بثقله على عملنا الحركيّ ووجوه شهادتنا الأنطاكيّة، أقلّه لناحية الصعوبات العمليّة التي تنشأ في وجه التواصل الدائم واللقاءات المشتركة. لكنّ هذه التداعيات تبقى، برأيي، في الإطار العمليّ فقط، خصوصًا وأن الحكمة في إدارة الأمور تقتضي أحيانًا بعض التريّث في هذا الإطار. وإنّني أؤكّد هنا، أنّ التداعيات لا تطال صُعدًا مبدئيّة تلامس آفاق الوحدة الحركيّة. فوحدة الإيمان التي تجمعنا، والتي تضعنا جميعًا في وحدة رؤية وشهادة وهواجس وهموم، هي أقوى من كلّ الظروف السياسيّة التي يمكن أن تؤثّر في بعض وجوه هذه الوحدة. وقد سبق لنا أن جسّدنا هذه النظريّة في أكثر من مناسبة، أذكر منها، مثالاً لا حصرًا، انعقاد اجتماعات الأمانة العامّة في مواعيدها، وبشكل مستمرّ، وانعقاد المؤتمر العامّ السادس والثلاثين بمشاركة أعضائه كافّة. هذا لا ينفي أنّنا نواكب هذا الموضوع في اجتماعاتنا، ونبحث في إيجاد الآليّات والأُطر المناسبة للحفاظ على الحدّ الأدنى من التواصل ولقاء الوجوه بعضها مع بعض، إصرارًا منّا على عدم الخضوع لهذه الصعوبات. أمّا الأمر الذي طالما شكّل ضمانةً لوحدتنا وحفظها، هو وعي كلّ منّا شموليّة انتمائه الإيمانيّ وأولويّته على أيّ انتماء آخر يتعارض معه، وكذلك يقيننا أنّ وجوه شهادتنا تجاه الأوطان، إنّما هي وليدة قناعاتنا الإيمانيّة التي نتشارك فيها مع إخوة لنا في أوطان متعدّدة. إنّ استمرار العمل الحركيّ بآليّاته المعهودة، هو أهمّ وجوه مساهمة الحركة في توطيد أواصر الوحدة الأنطاكيّة. فليس سرًا القول أنّ آليّة العمل الحركيّ هي من تعابير هذه الوحدة الأكثر وضوحًا، طبعًا من دون أن نتجاهل ما للمجمع الأنطاكيّ المقدّس من موقع على هذا الصعيد. وهنا لا بدّ من القول أنّ ما يشكّل أيضًا مساهمةً مهمّة في توطيد هذه الوحدة هو إصرارنا جميعًا، كمؤمنين، على عدم الفصل بين حدود الوطن وحدود أبرشيّاتنا الأرثوذكسيّة التي تتخطّى حدود الوطن، كأبرشيّة عكّار مثلاً. أمّا الأمر الذي بات اليوم حاجةً أكثر من أيّ يومٍ مضى، فهو تأسيس أو تفعيل الأُطر والمؤسّسات ذات الآفاق الأنطاكيّة التي تسمح بتفاعل المؤمنين الأنطاكيّين معًا في الهموم الكنسيّة، بغضّ النظر عن جنسيّاتهم. وأذكر منها، مثلاً، المؤتمر الأرثوذكسيّ العامّ الذي اتّخذ إطاره المؤسّساتيّ وفق القوانين الأنطاكيّة. أمّا المساهمة الأهمّ، فتبقى في إطلاق مبادرات عمليّة تفعّل العلاقة بين الشباب في البلدَين. وهنا أُلفت إلى أهمّيّة توجّه الحركيّين إلى رعاية الشباب الأرثوذكسيّ السوريّ الموجود في لبنان لطلب العِلم في جامعة البلمند، أو في غيرها من الجامعات.


العلاقة الكنسيّة بالحركة

3-كيف تقيّم العلاقة بين الحركة والرئاسة الكنسيّة؟

تتّخذ الإجابة على هذا السؤال منحيَين. المنحى الأوّل هو ما يعني المجمع الأنطاكيّ المقدّس، والثاني ما يعني مسار العلاقة مع السادة المطارنة في الأبرشيّات المختلفة. وقبل الدخول في تفاصيل الإجابة، أُوضح أنّ ما نطمح إليه، في كِلا المنحَيَيْن، هو أن ترتكز علاقتنا مع الرئاسة الكنسيّة على الاحترام والثقة والمصارحة ووضوح المواقف. فهذه الركائز تحرّر العلاقة من انعكاس المزاجيّات الشخصيّة عليها. هذا لا يعني أنّني لا أقدّر ما للبُعد الشخصيّ من دَور في تهيئة الأجواء للوصول بالعلاقة إلى ما نرتجيه، لكنّ قناعتي هي أنّ ما يحفظ ثبات هذه العلاقة هي تلك الأسس الواضحة التي سبق وذكرت. وهنا أذكر أنّنا، على هذا الصعيد، نحفظ لصاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس الرابع، استعداده الدائم للقائنا، كشباب حركيّ، وتوفيره ما نحتاج إليه من وقت لطرح أفكارنا وهواجسنا عليه. هذا لا يمنع أنّ لغبطته وجهة نظر تتعلّق بالحركة وآليّة عملها ومرجعيّة هذا العمل. إلاّ أنّ غبطته يصرّ على أن تكون وجهة النظر هذه موضوع حوار مع الشباب الحركيّ، ونحن بدورنا نقدّر كثيرًا هذا التوجّه لدى غبطته.

بالنسبة إلى المجمع الأنطاكيّ المقدّس، فقد سبق لنا ووجّهنا إليه في نهاية شهر آب من العام 2004، رسالةً ضمّنّاها رؤيتنا للعديد من العناوين الكنسيّة. وحدّدنا في هذه الرسالة ما نرتجي، كشباب مؤمن، أن يلتفت إليه المجمع الأنطاكيّ من حاجات وقضايا أساسيّة. باعتقادي أنّ هذه الرسالة تحلّت بالموضوعيّة في مقاربتها للأمور، حيث نوّهنا بما يجدر، برأينا، التنويه به، وأشرنا إلى مواقع الضعف التي تقلقنا كأبناء. غير أنّنا تألّمنا كثيرًا لكَوْن المجمع المقدّس والسادة المطارنة تجاهلوا رسالتنا. ومصدر ألمنا أمران: الأمر الأوّل هو أنّ التفاتة المجمع إلى القضايا المطروحة كانت ستُسهِم في تفعيل حضور كنيستنا وشهادتها على مستويات عدّة، خصوصًا على مستوى حضورها في حياة المؤمنين، وتاليًا فإنّنا قد فوّتنا فرصة إطلاق ورشة كنسيّة تُسهم في تفعيل ثقة الشباب الأرثوذكسيّ بكنيسته. والأمر الثاني هو أنّ تجاهُل الرسالة عكس لنا تجاهُل الآباء لجهودٍ بذلناها كأبناء، إيمانًا منّا بخدمة الكنيسة تفعيلاً لمعموديّتنا بالمسيح يسوع.

أمّا العلاقة مع السادة المطارنة، فإنّها تختلف باختلاف المكان والأشخاص والأوضاع المحيطة بالعمل. في بعض الأماكن، نشعر بالرعاية والإحاطة والتقدير والثقة، ونشكر الله على ذلك. وفي أماكن أخرى، نشعر بعدم الرضى وبالصعوبات والعثرات تنتصب في وجه عملنا. أمّا قراءتي للأسباب، فهي أنّها تعود إمّا إلى أخطاء يرتكبها الحركيّون في ممارستهم الكنسيّة، وجُلَّ من لا يُخطئ، وإمّا إلى قناعة لدى هذا المطران أو ذاك بانتفاء الحاجة إلى وجود الحركة وشهادتها، نظرًا إلى وجوده هو في سُدّة الأسقفيّة، وإمّا إلى سبب ثالث لا أرى ضرورة لذِكره. في كلّ الأحوال، فإنّ الموقف مُستغرَب. إن عادت الأسباب إلى أخطاء يرتكبها الحركيّون – وهذا لا ننكره – فإنّنا نسأل هل من عمل من دون خطأ؟ وهل في الكنيسة مَن هو معصومٌ عن الخطأ؟ وانطلاقًا من هذا، فإنّه لا يجوز أن يسود في كنيستنا ما يُشابه منطق المحاسبة والعقاب. في الكنيسة، يُسأَل الكلّ عن أخطائه، أمّا المحاسبة فهي بمزيد من الرعاية والتعهّد والاحتضان. يقول الأب باييسيوس أنّ العدالة الإلهيّة هي "أن تحرّر الآخر من أثقاله"، أي أن تحمل عنه ضعفاته وأعباءه. كلّما أخطأ أحد في الكنيسة، وَجُبَت محاسبته بمزيد من المحبّة، لأنّ رأس الكنيسة، ربّنا يسوع المسيح، قد افتدى ضعفاتنا جميعًا بدمه الإلهيّ. أمّا إن عادت الأسباب إلى شعور المطران بأنّ نهضة الكنيسة محقَّقة بوجوده في سدّة الأسقفيّة، فإنّ لدينا في هذا الجانب أكثر من قراءة. أوّلاً، نحن نفرح ونشكر الله لكَوْن العديد من رؤسائنا الكنسيّين وآبائنا الرُّعاة يُشهَد لهم بالمعرفة والثقافة وعِفّة الكفّ والنفس. لكنّنا نرى أنّ النهضة لا تُحصَر بصِفات الرُّعاة فقط، بل تعمّ الكنيسة بجميع أعضائها، بحالٍ كنسيّة حيّة تقود الأعضاء إلى التزام حياة الكنيسة والعيش في صُلب همومها واقتناء شهادتها مسارًا لهم وخلاصًا. ونحن في واقعنا، ما زلنا بعيدين عن معاينة ما نرجوه، حيث لا يختلف اثنان أنّ نسبة الأرثوذكس الذين يلتزمون هذه الوجوه ما زالت ضعيفة جدًّا. وهذا ما يجعلنا نرنو إلى تضافر جهودنا والرعاة لتوجيه الاهتمام نحو الشباب اللامبالي بشؤون الكنيسة والإيمان، وإيجاد السّبُل المساعِدة على تحقيق هذه الغاية. ثانيًا، نحن لا نرى أنّ استمرار شهادتنا أو انتفاءها مرهونٌ بتحقيق هذا أو ذاك من وجوه النهضة في الكنيسة. نحن، إن التزمنا خدمة الكنيسة عبر الحركة أو غيرها من الأُطر الكنسيّة، فإنّما سعيًا منّا لتجسيد عضويّتنا في الكنيسة وتفعيل معموديّتنا بيسوع المسيح. ويقيننا أنّ الكلّ سيُسأل يوم الدينونة عن إغفاله مسؤوليّته عن حياة الكنيسة، لأنّه بذلك يكون قد أغفل ترجمة كهنوتنا الملوكيّ. من هنا فإن شهادتنا لا تُحَدّ بتاريخ ولا ترتبط بواقع معيّن لأنّ منشأها هو إيماننا بما سطّره لنا كتابنا المقدّس. ولذلك أرى أنّ الرئاسة الكنسيّة، حين أصدرت الطرس البطريركيّ في العام 1946، إنّما شاءت أنّ تقدّر وعي الشباب الحركيّ لمسؤوليّته الكنسيّة وأن تساهم في تثبيت وعيه هذا. وأخيرًا، لا بدّ من التأكيد أنّ ما قلته لا ينفصل عن تشبّثنا برعاية الآباء لكلّ وجه من وجوه شهادتنا، وبأن تقترن وجوه هذه الشهادة باللياقة والترتيب الكنسيَّين.


الحضور الرعائيّ والصوت النبويّ

4-هل ترى أنّ الحركة ما زالت تحافظ على هوّيتها النهضويّة وصوتها النبويّ؟ وهل التطلّع إلى علاقة إيجابيّة مع السلطة الكنسيّة ينفي عنها هذه الهويّة؟

هذا السؤال، بشقَّيه، يوحي بتناقض أراه مصطنعًا بين الهويّة النهضويّة وصوتها "النبويّ"، وبين التطلّع إلى علاقة إيجابيّة مع السلطة الكنسيّة. وأعتقد أنّ هذا من تأثير أمرَين. الأوّل التوصيف الخاطئ للنهضة وللمواقف "النبويّة" التي حملها تاريخنا، والثاني قراءة مغلوطة لماهيّة الحركة ودورها المرجوّ في الكنيسة. وأبدأ من النهاية لأقول أنّ أحد وجوه النهضة التي تدعو إليها الحركة هو أن تتّصف علاقة أبناء الكنيسة برؤسائهم بالمحبّة والاحترام والروابط العميقة التي تسمح بتفهّم كلّ منهم للآخر. هذا ما يؤول بالجسد الكنسيّ إلى العمل بآليّة سليمة تساعد على تفعيل شهادته وبشارته بيسوع المسيح. وهنا أريد أن أؤكّد أنّه إن اعترى العلاقة بيننا وبين الرعاة بعض الشوائب أحيانًا، فإنّ هذا ليس بنتاج سعينا النهضويّ، بل هو نتاج الظروف والضعفات التي تعترينا، رعاةً كنّا أم أبناء. فنحن في الحركة لم نقرأ النهضة يومًا كموقف من هذا أو ذاك من الرؤساء، أو كتشهير بصعوبة واقع كنسيّ هنا أو هناك. النهضة التي طالما رجتها الحركة وعلّمتنا إيّاها هي نهضة الذات الحركيّة، على الصعيدَين الشخصيّ والجماعيّ إزاء واقع كنسيّ مرير، لأنّها رأت في هذه النهضة، إن شعّت في محيطها، مسحًا للمرارة عن وجوه الواقع. 

أهمّ ما أثمرته هذه النهضة، وما تزال، هو التكريس الشخصيّ على أصعدته المختلفة، والحضور الثقافيّ والالتزاميّ الشاهد بوجوهه المتعدّدة، والنشر وتحديد الرؤى لعديد من العناوين والقضايا الكنسيّة. هذه الرؤى يعبّر عنها، كما كلّ الثمار الأخرى، بأساليب وتعابير مختلفة وعبر سبل متعدّدة، وذلك بحسب تبدّل الأشخاص والظروف العمليّة المحيطة بالعمل الحركيّ. فمن الأشخاص من يعبّر بهدوء، ومنهم من يعبّر بحدّة، ومنهم من يعبّر بهدوء أو بحدّة بحسب الظرف. منهم من يفضّل الكتابة، ومنهم من يفضّل المخاطبة. منهم من يرى في إعلان المواقف سبيلاً إلى نقل الرؤى، ومنهم من يرى في تبليغها سبيلاً أفضل. وهذه كلّها وسائل فقط. غايتنا ليست إطلاقًا أن نعلن المواقف، بل أن يكون لآرائنا ومواقفنا التأثير الفاعل في القضيّة التي تختصّ بها هذه الآراء والمواقف. والصفة "النهضويّة" نراها تختصّ بمضمون الرؤية لا بوسيلة التعبير عنها. ومن ناحية أخرى، ما علينا الانتباه إليه أن ليس كلّ ما نعتقده نهضويًّا هو بالضرورة كذلك.

الأمر يتعلّق أحيانًا بكيفيّة قراءتنا للحدث الكنسيّ ولنتائجه. لذلك أرجو أن نكفّ عن حصر الهويّة النهضويّة بحدّة الطرح والموقف وعن تقزيم تاريخنا الحركيّ بهذه الحدّة، لأنّ هذا الأمر بحدّ ذاته يتناقض والنهضويّة. فتاريخنا أرحب من ذلك بكثير. أخيرًا أختم بالقول إنّ الانفتاح على الآخر هو ترجمة للروح النهضويّة، وإنّ السعي إلى الحفاظ على ما أمكن من الوحدة الكنسيّة وتجنيب الكنيسة مزيدًا من الشرذمة، هو ترجمة للروح النهضويّة، وإنّ مضامين رسالتنا إلى المجمع الأنطاكيّ المقدّس قد جسّدت الروح النهضويّة والصوت "النبويّ" بحقيقتهما.


الحياة الارشادية

5-برأيك، أين تكمن نقاط الخلل أو الضعف في الحركة اليوم، وكيف يمكن معالجتها؟

لا أعتقد أنّه يمكننا أن نحدّد نقاط الضُّعف في الحركة من دون دراسة وتقييم عميقَين. ذلك لأنّ الحركة، كغيرها، تتعدّد فيها نقاط الضّعف وتبرز فيها نقاط القوّة. لكنّني سأتحدّث عن أهمّ ما ألحظه من أوجه الضعف في بعض المراكز، ألا وهو ضعف الإرشاد، وانعكاسات هذا الضّعف على سلامة الرؤية الحركيّة. وكلّنا يعلم أنّ غياب الرؤية السليمة يفتح الباب واسعًا أمام تعدّد الضعفات واختلاطها. بدءًا، علينا الاعتراف بصعوبة متابعة العمل الحركيّ بكلّ وجوهه، في ظلّ الامتداد الجغرافيّ الواسع للحركة، خصوصًا وأنّ المسؤولين الحركيّين يمارسون مسؤوليّاتهم بشكل تطوّعيّ. ثانيًا، علينا أن نلحظ أنّ ثغرات لا يُستَهان بها قد نشأت نتيجةً لهذا الامتداد، لأنّ أسبابًا أخرى، منها الحرب اللبنانيّة، قد حالت دون أن يواكَب الامتداد الحركيّ بمتابعة مركزيّة جدّيّة تساعد على ثبات الرؤية الحركيّة المنطلقة هنا أو هناك وفي تأمين سلامتها. وثالثًا، فإنّنا لا نستطيع أن نتجاهل ما كان لهجرة الشباب من تأثير في الموضوع الإرشاديّ بعامّة. أمّا على صعيد معالجة النتائج، فقد سعت المراكز الحركيّة إلى ذلك، واعتمدت سُبُل تكثيف الحلقات الدراسيّة والكتابيّة والتدريبيّة وما شابه. وبرأيي، هذا التوجّه، على أهمّيّته وضرورته، لا يصل بنا وحده إلى ما نرجوه على هذا الصعيد. فيقيني، وأنا أرتكز في هذا المجال على الخبرة الحركيّة، أن علينا أن نحدّد بوضوحٍ غايتنا ممّا نرتجيه من التربية الحركيّة والسبل التي تصل بنا إلى تحقيق هذه الغاية. غايتنا، برأيي، هي أن نصل بشبابنا إلى أن ينحو منحى الالتزام الإيمانيّ في حياته ارتكازًا على رؤيتنا الكتابيّة لوجوه الترجمة الإيمانيّة المتعدّدة. أي أنّ غايتنا، وباختصار، هي أن ينهض الشباب بوجوه حياته كافّة محرّرًا إيّاها من أوجه التفاهة واللامبالاة. ويكون هذا النهوض ترجمةً لوعيه الإيمانيّ وليقينه أنّ هذه النهضة المرجوّة، على الصعيد الشخصيّ، سبيلٌ لا بدّ منه لخلاصه وتقرّبه من الله. هذا المسعى النهضويّ، على الصعيد الشخصيّ، يُسهم في دعم مسعى الجماعة، وأوجه شهادة الجماعة تُسهم في دعم المسعى الشخصيّ. من هنا أقول إنّ الفرقة الحركيّة، التي يواكبها مرشد مؤهّل، تبقى هي الإطار الأهمّ الذي يصل بنا إلى هذه الغاية. فالتعاطي المكثّف بين المرشد والعضو، وتعهّد المرشد الشخصيّ للعضو وتأثيره فيه، والدفع الالتزاميّ الذي يؤمّنه احتضان الفرقة للشخص عبر بعض الوجوه المشتركة كالدراسة والصلاة والشهادة معًا، كلّها أسس تسهّل أمام الشابّ اقتناء الالتزام مسارًا له، فيمسي، حينها، سعيه إلى مزيد من التحصيل الثقافيّ، أكان ذلك عبر الحلقات الدراسيّة أو عبر الجهد الشخصيّ، ترجمةً لهذا المسار الالتزاميّ. لذلك فقد سبق لي أن قلت، في أكثر من مناسبة حركيّة، أنّه من الخطأ أن نتعامل والفرقة الحركيّة كأمر واقع يفرض نفسه علينا. بمعنى أن نشعر بأنّنا ملزمون بتأمين مرشد لكلّ فرقة تبرز أمامنا أيًّا كانت أهليّته. الصواب هو أن نبني الفرق الحركيّة على قياس ما لدينا من مرشدين مؤهّلين، وأن نتوجّه، مؤقّتًا، إلى ابتداع أطر أخرى تسهّل تواصل ما يفيض لدينا من أعضاء مع مرشدين مؤهّلين، كاجتماعات عامّة دوريّة والاستعانة بمرشدين من مراكز أخرى وتمديد الفترة بين اجتماع وآخر ...

انطلاقًا من هذا التوجّه، انحصر سعينا على هذا الصعيد كأمانة عامّة، ومنذ المؤتمر الحركيّ الخامس والثلاثين، بالعمل على تخطّي الحواجز الجغرافيّة والإداريّة وتأمين تواصل الشباب في المراكز المختلفة مع مرشدين يتمتّعون بسلامة الرؤية الحركيّة، وكذلك على مساعدة المراكز على ربط أعضائها بالفكر والتراث الحركيّين. وقد وضعنا لذلك خطّة عمل متعدّدة النقاط. مع الأسف تنفيذ بعض بنود هذه الخطّة يتعرقل بعض الشيء بسبب الأحداث الأخيرة في لبنان وانعكاساتها على إمكان تنظيم المواعيد والتواصل الدائم.

6-هل ترى أنّ هناك مذاهب فكريّة تتواجه اليوم في الكنيسة؟ وهل هذا دليل عافية أم دليل خلل؟

أوّلاً، أعتقد أنّ عبارة مذاهب فكريّة لا تَفِ بالمعنى المطلوب. لعلّ الأصحّ أن نشير إلى اجتهادات أو مدارس فكريّة متعدّدة. ذلك لأنّ الآباء والأخوة، المقصودين بهذا السؤال، إنّما ينطلقون في اجتهاداتهم وبحوثهم، مهما تباينت مضامينها، من إيمانهم الأرثوذكسيّ الواحد. ولا أشكّ في كون هذا التعدّد بحدّ ذاته شأنًا طبيعيًّا ودليل عافية، خصوصًا وأنّ لدينا في أنطاكية هامشًا رحبًا تعوم فيه حرّيّة الفكر الإيمانيّ. ونحن نتمسّك بهذا الهامش، ليس فقط لكونه كان للحركة، بتاريخها وتراثها وأدبها، دورًا أساسيًّا في جعله وجهًا من وجوه الواقع الكنسيّ الأنطاكيّ، بل لكوننا أيضًا ننظر إلى كلّ توثّب فكريّ إيمانيّ لا يخرج عن العقيدة المستقيمة الرأي، وتاليًا عن شركة الجماعة كوليد للالتصاق بمحبّة المسيح. إلّا أنّ توصيفنا هذا للجُهد الفكريّ هو الذي يُحدّد رؤيتنا لما يجب أن يكون عليه مساره. فنحن نتحدّث في الكنيسة – جسد المسيح – لا في العالم، وقُبلتنا أن نجعل من العالم كنيسة، لا أن نشرّع الكنيسة لتصير كالعالم. من هنا، سبق لي وقلت في إحدى المناسبات الحركيّة، أنّ النهضة الفكريّة المجرّدة لا تعنينا. ما يعنينا هو النهضة الكلّيّة، أي نهضة الفكر المقترنة بنهضة القلب والكيان. ومن دلائل هذه النهضة أن لا يفقد الآخر صدارته في ضميري الإيمانيّ مهما قلّ تمايزه عنّي أو كَبُر. هذا يُترجم بأنّني، إن فكّرت أو ابتدعت أو كتبت، فإنّما أقوم بهذا بمحبّة المسيح. ولا أعتقد أبدًا أنّ محبّة المسيح، بتعابيرها المختلفة، تنفصل عن محبّة الآخر. لهذا أنا في الكنيسة أكتب لأبني في المسيح، لا لألبّي انفعالاتي وغرائزي. أكتب لأعلّم، لا لأشكّك الناس. أكتب لأصحّح لا لأدين. باختصار، أكتب لأخلص ولأشير للجميع، ومنهم هذا الآخر، إلى طريق الخلاص، لا لأحجب الخلاص عن أحد. 

بأسفٍ أقول أنّ الواقع الذي عشناه، خصوصًا في السنوات الأخيرة، لا يعكس هذه الصورة بأمانة. نعم، لقد شهدنا خللاً. أوّلاً، شهدنا بعضًا من الفوضى والتشرذم، أكان هذا على صعيد الاجتهادات أو على صعيد مواقف المؤمنين والمسؤولين الكنسيّين منها. ثانيًا، قرأنا وسمعنا بعض الإدانات والتكفير. ثالثًا، ومن تداعيات ما سبق، عاينّا أزمات وتحريضًا. باختصار، أقول إن كانت الحرّيّة الفكريّة الإيمانيّة هي من وجوه سعينا إلى "قامة ملء المسيح"، فإنّ الكثير ممّا عشناه لا يعكس للناس هذا السعي. لا أريد التوسّع كثيرًا في هذا الموضوع، لأنّ التوسّع هنا لا يخدم الكنيسة. لكنّني أنهي بأمور لا يجوز لنا، برأيي، الاستمرار بها. لا يجوز أن يستمرّ غياب الرئاسة الكنسيّة، محلّيًّا ومجمعيًّا، عن مواكبة الأمر وعن معالجته والقطع بكلمة الحقّ حيث يجب ذلك. كما لا يجوز أن تتعدّد مواقفها منه، وتختلف باختلاف الأمكنة. ولا يجوز السماح بتعدّد المرجعيّات القاطعة باستقامة التعليم، فيحرّم على أحد التعليم هنا، ويُسمح له هناك. إمّا تعليم هذا أو ذاك من الأشخاص هو تعليم مستقيم، ولو قدّمه بحضور وتعابير وقوالب مختلفة وبإضاءات علميّة تكثر أو تقلّ، وإمّا هو تعليم خاطئ وغير مستقيم. والأهمّ الأهمّ أنّه لا يجوز أن نقنّن الفكر لدى مؤمنينا، خصوصًا الشباب منهم، فيطعي كلّ منّا نفسه حقّ الوصاية عليهم وحصر تعاطيهم الكنسيّ والتعليميّ بلون واحد من ألوان اللوحة الكنسيّة، لأنّنا حينئذٍ نحجب عنهم بهاء صورة المسيح.

7-ما هي رؤيتك لمجلّة النّور ولدورها في التوعية والنهضة؟ وكيف يمكن توسيع نشرها؟ 

أوّلاً، حين أتحدّث عن مجلّة النّور فإنّني أتحدّث عمّا يعنيني في الصميم. هذه المجلّة قد أسهمت، إلى حدٍّ كبير، في الآلية التربويّة التي كان لها دور أساس في تغذية الثقافة الإيمانيّة لدى الكثير من الحركيّين، وأنا منهم. كذلك ساعدت المجلّة على تأمين المراجع والموادّ المطلوبة للعديد من الباحثين والدارسين الكنسيّين. وكلّنا يشعر بالحاجة إلى استمرار المجلّة في دورها هذا، خصوصًا وأنّ الكلّ يُجمع على تقدير ما قدّمته وتقدّمه مجلّة النور للمؤمنين. أمّا الانتقادات والمواقف من هذا المقال أو ذاك، فهو أمرٌ طبيعيّ لن يؤثّر في موقع المجلّة المتصدِّر في ضميرنا الإيمانيّ.

ثانيًا، من المهمّ القول أنّ انتظام صدور المجلّة الملحوظ منذ زمن، وتطوّر مضامينها وجدّيتها، هو خطوة متقدّمة جدًّا. فليس من السهولة أن تصدر مجلّة شبيهة بشكل شبه تطوّعيّ. وهنا أسجّل تقديري لأسرة التحرير والإداريّين. هذا لا ينفي أنّ المجلّة بحاجة، ككلّ وسيلة إعلاميّة، إلى تطويرٍ دائمٍ وإلى توسيع نشرها قدر الإمكان. على مستوى الشكل، فإنّ تطويرها يتمّ بشكل تدريجيّ ووفق الإمكانات المتوفّرة. وأعتقد بأنّ خطوات مهمّة قد نُفِّذَت على هذا الصعيد. أمّا على صعيد المضمون، فإنّ المجلّة، منذ صدورها وإلى اليوم، قد اكتسبت هويّة فكريّة إيمانيّة إعلاميّة. وقد شكّل كونها قناة عبورٍ لمواقف الحركة وآرائها إلى المؤمنين جزءًا من وجهها الإعلاميّ. ويجب الاعتراف هنا بضعف الوجه الإعلاميّ في المجلّة إزاء الوجوه الأخرى، خصوصًا لناحية نقل أخبار العالم الأرثوذكسيّ، ومقاربة القضايا الأساسيّة المطروحة عليه. أمّا التوجّه لتطوير المجلّة، وهو من العوامل المسهّلة لتوسيع نشرها، فإنّه يقتضي، برأيي، تحديدًا أوضَح لهويّتها، بمعنى تحديد أوضح لشريحة المؤمنين التي على المجلّة أن تتوجَّه إليها وتحديد أوضَح للحاجات الفكريّة والإعلاميّة لهذه الشريحة. هذا موضوع بحث سبق أن أطلقناه في الفترة السابقة، وشاركتنا فيه مجموعة من المهتمّين. وأعتقد بضرورة استمراره للوصول إلى رؤية واضحة حوله.

أمّا في ما يتعلّق بتوسيع نشرها، فإنّني أرى، في هذا الجانب، أنّ المسؤوليّة الأولى تقع على عاتق الحركيّين في الأبرشيّات المختلفة، حيث عليهم أن يُولوا هذا الجانب من الاهتمام ما يولوه للجوانب الأخرى من عملهم. بصراحة، المجلّة لا تحظى بحقّها من الاهتمام في المراكز الحركيّة. أوّلاً، يمكننا تعميم المجلّة على الصعيد الداخليّ بشكل أفضل. ثانيًا، يمكننا تعميمها على أعضاء الجمعيّات العاملة في الكنيسة ومجالس الرعايا والأبرشيّات. ثالثًا، يمكننا تعميمها على أصدقائنا ورفاقنا الأرثوذكس في الجامعات وأماكن العمل. ولعلّ في هذا التعميم بشارة أهمّ وأفعل وأعمق من العديد من وجوه بشارتنا الأخرى. ما علينا أن نفهمه هو أنّ كلاًّ منّا مسؤول عن كلّ وليس منّا من هو متفرّغ لهذه المسؤوليّة أو تلك. أمّا على الصعيد المركزيّ، إضافةً إلى كَوْن المجلّة تُنشر على الصفحة الإلكترونيّة الخاصّة بالحركة، فلا أرى مانعًا من أن نسند إلى أخصّائيّين بشؤون التسويق والإعلام مهمّة تقديم اقتراحات يرَوْنَها مناسبة بهذا الخصوص.

8-انبثقت من المؤتمر الحركيّ الأخير لجنة متابعة رعائيّة مشتركة. فهل أدّت اللجنة المهمّة التي أُنيطَت بها؟ وما هي الخطوات المقبلة؟

هذه اللجنة انبثقت من لقاء تشاوريّ حول الوضع الكنسيّ والرعائيّ في أنطاكية. وقد عُقد اللقاء على هامش المؤتمر الحركيّ الأخير حيث شاركت فيه، إلى جانب أعضاء المؤتمر، مجموعة من المؤمنين من غير الحركيّين المهتمّين بالشأنَين الكنسيّ والرعائيّ. إنّ ما سعينا إليه عبر انعقاد هذا اللقاء، هو ترجمة التوجّهات الانفتاحيّة التي يزخر بها أدبنا الحركيّ، وذلك في محاولة للوصول إلى قراءة مشتركة مع غيرنا من المؤمنين للوضع الكنسيّ والرعائيّ، وكذلك للوصول إلى خطّة عمل مشتركة نساهم عبرها، مع السادة الرعاة، في تحريك هذا الوضع نحو الأفضل.

التقت اللجنة في اجتماعات متعدّدة، ووضعت مشروع ورقة عمل تضمّنت قراءة للوضع مع توجّهات عامّة عمليّة. وقد حدّدت هذه الورقة ما يمكننا القيام به على هذا الصعيد كمؤمنين، وما يمكن أن نقترحه من مشاريع وأفكار على السادة الرعاة. بحثنا هذه الورقة في لقاء ثانٍ عُقد بتاريخ 11 شباط، وسنعود إلى اجتماع نهائيّ في فترة ما بعد الفصح لإقرار الخطوات العمليّة النهائيّة. ما يمكنني قوله إنّنا نتوجّه، بشكل جدّيّ، إلى تأسيس ما يُشبه منتدى ثقافيّ أرثوذكسيّ ومكتب علميّ للبحوث ورصد الأوضاع والحاجات وما إلى ذلك. علمًا أنّ اللجنة مكلَّفة الآن بوضع توصيف تفصيليّ لهاتَين المؤسّستَين لإقراره في اجتماعنا المقبل. تقييمنا الأوّليّ لهذه الخطوة هو إيجابيّ لناحية التجاوب مع الأهداف الموضوعة، علمًا أنّ الجميع يُدرك الحاجة إلى توسيع دائرة المشاركين في هذا العمل، وهذا ما سنتوجّه إليه لاحقًا. كذلك فإنّ موضوع الإعلام الأرثوذكسيّ سيكون مدار تأمّل وبحث في لقاءات لاحقة فور الانتهاء من هذا الجانب.

9-هل من تعاونٍ مع اللجنة المنبثقة من المجمع المقدَّس بهدف التحضير لمؤتمر أنطاكيّ عامّ؟

إلى اليوم لم يبدأ أيّ تعاون على هذا الصعيد، لكنّنا على استعداد لكلّ تعاون. وكما فهمنا، فإنّ اللجنة ما تزال تعمل في إطار التشاور مع السادة أعضاء المجمع الأنطاكيّ المقدّس، ولديها الرغبة في التعاون مع كلّ الطاقات والهيئات الكنسيّة في سبيل إنجاح هذا المؤتمر. من جهتنا، فقد سبق لنا أن أبدَينا فرحنا في المؤتمر السادس والثلاثين بهذا التوجّه، ورأينا به خطوة مهمّة لاستكمال تنفيذ قانون المجالس والأبرشيّات، ولتفعيل الوحدة والمشاركة والرعاية في كرسيّنا الأنطاكيّ. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى رغبة صاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس الرابع، وقد عبّر عنها أكثر من مرّة، في أن يكون انعقاد هذا المؤتمر استكمالاً لتنفيذ قانون المجالس في الكرسيّ الأنطاكيّ.

10-ماذا تفعلون لإيصال الهمّ الأنطاكيّ إلى المغتربين، وكيف ترون السبيل إلى التواصل معهم؟ 

منذ أكثر من عام خيّم هذا الهاجس على تفكيرنا، خصوصًا وأنّنا نلحظ غربة الكثيرين من المغتربين عن مواكبة هموم الحركة والكنيسة، حيث كانوا في صُلب هذه الهموم قبل اغترابهم. وقد سمَّينا، حينها، مسؤولاً عن العلاقة والتواصل معهم بهدف مشاركتهم في ما نتوجّه إليه، على الأقلّ عبر تزويدهم بما يصدر عن الأمانة العامّة من تقارير وأوراق عمل، وطلب آرائهم. وكذلك استمرّينا في إيلاء هذه المسؤولية لأحد الأخوة في الأمانة العامة الجديدة. جرت وتجري محاولات للاتّصال بالبعض منهم وإيجاد آليّة التواصل، لكنّ التجاوب لم يتبلور بعد. وكذلك طُرحت بعض الأفكار ومنها عقد مؤتمر خاصّ بهم في الصيف. وهذه الفكرة ما تزال مطروحة، ويتمّ البحث حولها. إلى الآن لم تتمّ بلورة أيّ توجّه نهائيّ، لكنّ العمل مستمرّ. ولإنجاح هذه الخطوة، لا بدّ أوّلاً من تعاونهم معها ومن تعاون المراكز لأنّها الجهة التي تملك المعلومات المطلوبة حول مغتربيها وسبل الاتّصال بهم. وهنا يمكن القول أنّ الصفحة الالكترونيّة الخاصّة بالحركة، بما آلت إليه، باتت تشكّل صلة مهمّة معهم، وكذلك ما اصطلحنا على تسميته بـMJO GROUP.

11-ما هي رؤيتك للمؤسّسات الكنسيّة اليوم؟ وهل ترى أنّ هذه المؤسّسات تقوم بدورها الرياديّ والشهاديّ المطلوب؟

سبق أن حدّدنا في رسالتنا إلى المجمع المقدّس، نظرتنا إلى الدور المرجوّ للمؤسّسات الكنسيّة. ورأينا بهذا الدّور ما يساعد على خدمة الفقراء وعلى تفعيل شهادة الكنيسة الأرثوذكسيّة وانفتاحها على الآخرين. وقلنا، صراحةً، أنّ سبيل مؤسّساتنا للاضطلاع بهذا الدور هو تطعيم نُظمها وآليّات عملها بروح الإنجيل، لتعكس بذلك وجه الكنيسة لا وجه الطائفة. وأعتقد، على هذا الصعيد، أنّ رؤية الجماعة الكنسيّة الواحدة للمؤسّسات الكنسيّة ودورها لم يتبلوَر بوضوح بعد، أو أقلّه يمكن القول بتعدّد القراءات لهذا الدور.

على صعيد الواقع، لا أملك المعطيات الكافية لأقيّيم بدقّة مدى أمانة مؤسّساتنا لدورها المرجوّ. وأعتقد أنّ من هو قادر على هذا التقييم هم القيّمون على المؤسّسات. لكن، كما يمكننا أن نلحظ الكثير من الإنجازات العلميّة لمؤسّساتنا، وعلى هذا نشكر الله، يمكننا أن نلحظ، مع عامّة المؤمنين، غياب ما يميّز الكثير من مؤسّساتنا الكنسيّة عن غيرها من المؤسّسات. ونشعر كثيرًا من الأحيان بأنّ التعامل فيها ومعها لا يوحي بكونها إطار خدمة وشهادة، وأنّ الأولويّة، في كثير منها، ليست للبُعد الخادم. ما أعتقده جازمًا، رغم كلّ الاعتبارات الإداريّة والحاجات وأعباء التطوّر، أنّه بإمكاننا، إنْ شئنا، أن نجعل من خدمة الفقراء في مؤسّساتنا أولويّة كالأولويّات الأخرى. لأنّ بهذا الوجه من الخدمة تحديدًا، تستقيم الأبعاد والوجوه الأخرى لشهادتها، وبه يعرف الناس أنّ مؤسّساتنا هي للمسيح. حينها، نصل إلى ما نبتغيه وهو أن تكون مؤسّساتنا محمولة في ضمير الجماعة وعاكسة، في آنٍ، لشهادة الجماعة كلّها.

 

 

 

 

المشاركات الشائعة