كلمة - عيد الحركـة طرابلـس 2006

رينيه أنطون


"أناشدك في حضرة الله والمسيح يسوع ...أن أعلن كلمة الله وألح فيها بوقتها وبغير وقتها، ووبّخ وعظ وأنذر والزم الصّبر والتعليم" 

قبيل اكتمال العقد الميلادي السابع، ومن ظلمة سجنه الرومي، أطلق الرسول بولس مناشدته هذه الى مساعده طيموثاوس شاخصاً الى أن يفعل صداها، في كنيسة المسيح، بهاء ونقاوة. وفي مثل هذا اليوم قبل نحو أربع وستين عاماً، حلم قوم باستحضار ومضات من بهاء ذاك الزمن الى يومهم. فكان أن جرحت مناشدة الرسول قلوبهم وعصفت روح الله فيهم وكانت لنا حركة الشبيبة الأرثوذكسية.


حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة

قالها جورج خضر، يوماً، وهو الأدرى بما حرّك أحشاءه. "الحركة ليست وليدة ظرف وزمان، الحركة وليدة فعل الروح في الناس". وكأنّه شاء أن يعلّمنا الظروف تُخلق ولا تَخلق، وأن الأزمنة تُنسب إلى إبداعات رجالها ولا يُنسب رجال إلى إبداع زمان. فالمبدع هو ربّك وهو انت إن شرّعت ذاتك رحماً تولد فيه محبة الربّ وتنمو. حينها، يستبيحك الروح ليعجن من ناسوتك إناءً يرشح بما يعكس جمال الله الى الآخرين. والحركة شاءها مؤسّسوها، باختصار، أن تكون هذا الاناء. فأنظروا كمّ طبعت الحركة زمانها، وعاينوا كم طوّعت الأوضاع  لمشيئتها، وأيقنوا كم أنها  ثمرة نشأة على محبة الله وبها. علّكم بذلك تدركون أن احتفالنا بميلاد الحركة إنما هو فرح بما للربّ لا بما لنا. فرح يقترن برجاء أن نستحقّه أبداً.

نحن في هذا الرجاء لكوننا ندرك مكامن الضعف في حياتنا الحركية، وندرك، في آن، حاجة هذه الحياة الى تمتين وصالها بما حملت به ذاكرة الحركة وهو واحد. عشق كلمة الله حتى الالتصاق. أما الباقي وفيه ما فيه من وجوه الخدمة والشهادة فهو وليد هذا العشق المولود من رحم ذاكرة الايمان المستقيم. 

الغاية من حركيتك هي أن تقارب عشقاً كهذا لأنك إن فعلت أعطي الباقي لك. وهذا هو الثابت في رؤيتك. أما ما ورثته من وجوه تعبير عن انتمائك الحركيّ فهي متحرّكة قابلة حتى للنقض. هي تستحيل وجوه خدمة قدر ما أنت مقترب من الالتصاق بالله أو قدر ما أنها قناة تصلك به.


 الحياة الحركيّة والتربية والارشاد

من هذا المنظار أقرأ في بعض وجوه خدمتنا اليوم، وبنور الانطلاقة، دون أن أتجاهل أن لكلّ وزناته. لكنّني لن أتجاهل، أيضا، أننا مدعوّون، بالمكيال الكتابي نفسه، الى عدم التلهّي عن تنمية الوزنات، وهنا أرى مكمناً للضعف اليوم. ذلك أن بعض وجوه خدمتنا قد استحالت، بسبب من تقليدية ثقيلة، محفّزاً على هذا التلهّي وسبيلاً له. وكلّنا يعلم أن حياة الجماعة فيها الكثير من حياة أشخاصها. بيد أن أول ما علينا أن نكسره هو تلك التقليدية التي غيّبت الأولويات وبدّلت الثوابت. فكثيرة هي الخدم والأنشطة التي لا يرشح منها إلا الجمود وكثيرة هي اللامبالاة التي تحيط بشبابنا بسبب تغييب الأولويات. 

سبيلنا الى المعالجة هو الاهتمام بصحة البنيان، وهذا ما يصدّر خدمنا التربوية على الخدم التي علينا أن نعيد تثبيت مقوّماتها. التربية أساسٌ لأنها تكوّن الشخص والأشخاص مكوّنون للجماعة. غاية الجماعة، في الكنيسة، أن تعكس الشركة بين الله والانسان، وما يُنشد من كل تربية في الكنيسة هو خدمة هذه الغاية، وهذا يتمّ  بتأهيل الشخص والدفع به الى عيش هذه الشركة التي بها "تُحفظ الوديعة" وتُسلّم. وبقدر ما تُسهم الجماعة في ورشة تأهيل الشخص، هذه، بقدر ما تؤهّل هي، أيضا، به. من هنا فلا استقامة لتربية دون أنفع المربّين، والأقرب الى عيش هذه الشركة يكون أنفعهم  لأنه هو، من يجسّد محبة الله حياة. ولا استقامة لتربية دون أعلمهم، ومن يقترب من هذه الشركة هو أول العالمين. فالمعرفة التي تخدم بناءنا التربوي ونرنو اليها هي التي حمل مفهومها كتابنا. المعرفة المرتكزة على اختبار الآخر سبيلاً للشركة معه. "على أنه لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر" يقول الكتاب. هي معرفة كيانية تتخطّى البُعد العقلاني، قبلتها أن تصلك بالله لتعرفه لا لتعرف عنه. للمعلومة، فيها، موقع هامّ، لكن كمالها مرهون بالعشرة، عشرة الله صلاة وعيشاً.

هذه المعرفة تضفي على المربّي وجهاً لا نجاح لتربية دونه ألا وهو الانفتاح.  فعشير الله هو أكثر الناس رحابة وإلا  فهو عشير محدوديته وليس عشير ربّه. لا يعتقد أحد أن مظاهر عشرة الله، التي كثيراً ما نراها تواكب حالات التصلّب والانغلاق في وسطنا الكنسي، تثبت خطأ مأ أقوله، فهي، حقيقة، تعكس ضعفات الناس لا غير وأنا أوّلهم ضعفاً. ذلك أن من المستحيل أن تعاشر الربّ، في صلاتك، دون أن تقتحمك رحابته لتدرك كم أنت بعيد عن حصر حقيقته، وأن حضوره فيك محال إن لم يطّوع بشريتك لعكسه حضوراً وعناية بكلّ وجوه الحياة. فإن لم تتحسّس هذا وأنت خارج من الصلاة  فعد وقوّم ما في صلاتك من إعوجاج. 

بهذه المقوّمات يخلي المربّي ذاته ليحلّ الكلمة فيه ويمسي واعظاً بالمحبة، على قول الرسول، لا بغيرها. هذه المحبّة المختبرة والمعاشة هي ما يحرّر تربيتنا من وهن يلمّ بها، ايضاً، لسبب غربتها عن قدرات الناس ومعاناتهم وضعفاتهم. فمختبر المحبّة هو مختبر، في آن، لما حجبها عن قلوب سامعيه الى اليوم. وفي يقيني أن كلمتنا لا تفعل فعلها في أحشاء الناس ما لم يخاطبوا بها انطلاقاّ من قدراتهم  ومعاناتهم كما أنطلق الكلمة، من معاناتهم ولأجلها. ولهذا نشدّد على أن لا بعداً كنسياً لتربيتنا ما لم  تقترن باختبار الشخص وافتقاده.

أيها الأحبّة، إن افتقادنا الى ما يكفي من مربّين نرجوهم بهذه المقوّمات، لا يبرّر استسهالنا التضحية بها، لأن حينها نعكس فهماً مغلوطاً لهويّتنا وغاية وجودنا. وخوفي أن يكون ذلك، احياناً، لكوننا نقدّس أطراً هي، في حقيقة الأمر، قناة خدمة لا غير. فإن لم تعبر الخدمة من خلالها فهي لا شيء. مثالاً، أذكر أن ما يرسّخ قناعتنا بصدارة الفرقة الحركية، في رؤيتنا، هو الامامة المؤهلّة أن تقودها الى أن تكون وحدة دراسة وعيش وشهادة وصلاة  وإلا فلا مبرّر لوجودها. فالأنفع، والحال هذه، أن نكيّف أطرنا مع ما يسمح بتواصل الشباب والمؤهّلين من المرشدين أياً كانت الأشكال والوتيرة.

توسّعت بعض الشيء لايماني أن في صحة التربية ووضوح الأهداف استقامة لباقي وجوه خدمتنا، وحضورنا الرعائي هو الوجه الأهمّ منها. همّنا من هذا الحضور أن نساهم في تعميم  خبرة الشركة في مدى الكنيسة، كلّها. لذا أن يكون هذا الحضور تعبيراً عن  شكل من أشكال الوجود أو امتداداً  لنفوذ لهو أمر لا يعنينا، فبذلك نفقد شرعيتنا الكتابية.


الحضور الرعائيّ

من هنا للرعية موقعها الأولّ في ضميرنا الايماني. فبها، ومن خلالها، تُكمّل رؤيتنا. هي الحقل الذي نُغرس فيه بذوراً لنهضة، نرجو أن تعمّ الكنيسة ونرى فيها تفعيلاً لمعموديتنا بيسوع المسيح، والبذور إن لم تُغرس في أرض صالحة تموت. لذلك فإن أهمّ مهامكم النهضوية هي أن تستحيلوا بتربة كلّ رعية أرضاً صالحة لحمل هذه البذور. وسبيلكم الى هذا واحد وهو المساهمة الفاعلة في حياة الرعايا ومواجهة أوضاعها والصعوبات فيها، فالهروب من هذه المساهمة بتغريب ذواتكم وعزلها عن حياة الرعايا لا أجد فيه تقوى ولا نهضة. لأن ما نرجوه من دور لنا، في الرعيّة وفي مدى الكنيسة، أمر يعني الهنا في الصميم. 

دورنا أن نكون، أولاً، دعاة لحضور الله في كلّ عائلة، حاثّين ومساهمين في تفعيل الرعاية والافتقاد في كنيسة أمسى من معالمها ضعف الرعاية وقوّة المآسي التي تتعرّض لها عائلاتها. أزمات خلق ووعي واقتصاد تتفاقم وترخي بنتائجها المدمّرة على عائلاتنا، وأولى هذه النتائح تنامي الخلافات الزوجية واستشراء حالات الطلاق. فلنساهم في حضور الكلمة المربّية، المبلسمة، المعاونة، والمستحضرة لملكوت الله الى وسط العائلة. 

دورنا الآخر أن نكون خمير وحدة في كنيستنا الأرثوذكسية لا وقود شرذمة، ولا ضير من التذكير أن الوحدة هي من أهمّ آفاق نهضتنا. من هنا فإنني لا أرى ما يخصّ النهضة في أي خلاف أو تحريض يفرزه واقعنا الكنسي، وأيّا كانت أسبابه. أهميّة مقاربتنا لهذا الجانب، اليوم، أنها مناسبة لتوضيح موقفنا مما يعتري حياتنا الكنسية، على هذا الصعيد بعدما كثرت الهمسات حول موقع الحركة وموقفها. وموقفنا، باختصار، هو أن وحدة كنيستنا هاجس لا يعلوه، لدينا، هاجس. أما موقعنا، إزاء أي خلاف،  فهو في صفّ الوفاق الكنسيّ، لا نستغلّ أو نجرّ لموالاة هذا الراعي في وجه ذاك أو العكس. أما، في حال جرحت قضية كنسية ما ضميرنا  وتوفّرت لنا المعطيات الصادقة الخاصّة بها، فإننا نبني، بموجبها، موقفنا  الذي نرى به سبيلاً لاستقامة الحياة الكنسية وترسيخ وحدتها ووفق رؤيانا لما يخدم نهضتها، لا وفق قناعات هذا أو ذاك من المعنيين.  

 ويهمّني، هنا، أن أوضح منعاً لأي تشويه او تقزيم لتاريخنا أن النهضة، في رؤية الحركة، هي محاربة للخطيئة لا محاربة للشخص، لأن خلاص الشخص، بتحرّره من الخطيئة، يبقى هو الغاية. أما الصوت النبوي الذي لازم نهضتنا فإنه اختصّ بالتعليم والموقف المستمدّ منه لا بشكل  الموقف وحدّته. الشكل يخضع للمتغيّرات أما المضامين المرتكزة الى الرؤية النهضوية تبقى هي الثابتة. لذا إطمئنّوا الى أن لا مساومة على هذا الثبات كما لا مساومة على الحركة، أيّا كانت نهضة الواقع الكنسيّ أو عدمها، لأن المساومة عليهما هي بمثابة المساومة على الخطيئة.

دورنا، بعد، أن نكون دعاة انفتاح كنسيّ. فما أؤكّد عليه، وهو ما أوحت لنا به خبرات انفتاحية متواضعة، أن كشف حاجات الكنيسة للناس، أيّا كان مستوى التزامهم، واقتحام برودتهم تجاهها يكشف فعل الروح فيهم ويحرّك لديهم النعم. فكما أن رؤيتنا لخدمة الكنيسة أنها ترجمة لالتزام الكلمة يمكن، أيضاً، أن تكشف هذه الخدمة لكثر سبيل هذا الالتزام وجماله.


المؤسّسات والفقراء    

ودورنا الأهمّ، كيّ لا نستحيل جماعة تلغو، أن نكون صوت الفقراء وحرّاس كراماتهم الانسانية. وألفت الى أن أخطر ما يواجهنا، كعائلة كنسية، اليوم، ليس تنامي حدّة الفقر وحسب، بل استباحة كرامة الفقير وحرّيته لحساب متمولّين وأصحاب نفوذ. والأخطر أن البعض، من الأرثوذكس، يستغلّ موقعاً كنسيّا أو غيره لخدمة غايات شخصية وأبعاد سياسية والفقير الى هذا وسيلته. فدينونتنا، جميعاً، أمام المشهد الذي بات مألوفاً كبيرة. دعوني أقولها بصراحة. نحن، في كنيسة المسيح وفي معظم الهيئات المختصّة بها، لا نولي قضية الفقر الاهتمام الجدّي الذي تستحقّ. أولاّ، ومن جهة، تكبر إنجازاتنا وتنمو مؤسساتنا فنبني المستشفيات والجامعات والمدارس، وعلى هذا نشكر الله، ووحدها قضية الفقراء نبقى عاجزين عن مواجهتها وتنظيم وتفعيل الاهتمام بها. ولذا فقد بات من وجوه خدمتنا، ورغم أن لا معطيات كافية لدينا، السعي كي لا تغيب روح الله عن هذه المؤسسات، أقلّه لناحية أن تتساوى أولوية احتضان الفقير فيها وأولوياتها الأخرى، وأن تتقدّم أولويته بالحق في فرص العمل إن امتلك الكفاءة المطلوبة. ثانياً، لا زال عملنا الاجتماعي يغرق في تقليديته المعروفة وفي إطار الاحسان المهين للشخص. ذلك لأنه لم يمس بعد مسؤولية الجماعة بل مسؤولية فريق فيها. فهذا العمل، في الرؤية الكنسية، ليس هو بوجه نشاطي يكلّف به البعض منّا تلبية لواجب انساني، بل هو حالة تشاركية تعني الشخص والجماعة معاً لأن بها يخرج كلّ من أناه في سعيه الى ملء انسانيته بقامة ملء المسيح. ثالثاً، ضعيف، جدّاً، هو صوت كنيستنا الناقل لمعاناة الناس والمطالب بحقوقهم أمام المسؤولين في الدولة. وأعني بصوت كنيستنا صوت الرعاة وصوتنا جميعاً في إطلالاتنا المجتمعية والاعلامية، أياً كان  منبرها.


التزام شؤون الأرض

ربّ قائل بدقّة الموضوع في ظلّ تنامي الحياة السياسية في الوطن وطغيان التجاذبات السياسية. ورغم علمي بحجم التأزم السياسي وتأثيراته على الشباب الكنسي، خصوصاً في الجامعات والمدارس، أبقى من القائلين أن حضورنا في ما يخصّ الشأن العام، خدمة لما يعني الانسان وصوناً للانسانية مما يمسّها، هو خدمة كنسية بامتياز. الأهمّ أن نلج هذا الشأن من باب السماء لا من باب الأرض،  أي من باب التعالي عن المصالح الضيّقة والتحزّب والفئويات السياسية والطائفية، خدمة لانتصار الانسان في أيّ جماعة كان وايّا كانت تطلّعات هذه الجماعة السياسية. الخوف ليس من ان يقودنا هذا الحضور الى تعاطف مع هذه أو تلك من المبادئ السياسية، فهذا أمر مشروع، خصوصاً وأننا أبناء وطن ننعم بما ينعم به الكلّ ونعاني مما يعانون منه. الخوف أن يرمينا هذا التعاطف في موقع عدائي لمبادئ أخرى يستتبع عداء لحامليها، لأن، إذ ذاك، نكون قد أحللنا المبادئ السياسية مكان الأساس المنطلقين منه اليها، فنفقد حينها كلّ شرعية ايمانية لالتزامنا. لنحصّن ذواتنا بالرؤية الايمانية ولنفعّل هذا التحصين بصلاة يومية، منعاً لأي جنوح، ولتشرّع الأرض وما فيها حقلاً لخدمتنا.

أحبائي، من التواريخ ما رُمي في منسيات الزمن، ومنها ما أمسى ملكاً لبشر، وأحلاها ما تشبّث الله به واحتكره لفعل روحه. فرجائي أن تستحقّوا كونكم أبناء السادس عشر من اذار. 

 

 

     


المشاركات الشائعة