الكنسيون والشأن العام

رينيه أنطون - "النهار"  2005


يتخّذ هذا العنوان طابع الحدّة كلّما اهتزّ المجتمع بحدث سياسي كبير، إذ تكثر، حينها، التساؤلات وتتناقض الأجوبة حول دور الجماعة الكنسية المرجوّ إزاء أوضاع مصيرية يحياها الوطن. وهذا ما حصل بعيد الاغتيال البشع للرئيس رفيق الحريري ومرافقيه ولا سيّما ما نتج عنه من تداعيات أصابت الوطن.

ليس من شكّ في أن هذا المشهد، مثله مثل أي مشهد عنفي آخر، قد استباح الرؤية الايمانيـة للجماعة الكنسية واغتصب قدسية الانسان القائمة فيها. ولا شكّ في أن كثيرين من الناس قد شعروا، نتيجته، بطعنة أدمت قلوبهم وجعلتهم في ضياع وشعور هائل بالفراغ نظرا لفرادة المعاملة والعلاقة التي تجمعهم بالرجل المستهدف، ولتلاحم نظرتهم للحياة مع وجود الكبار فيها. وهذا ما أكسب الحدث أولوية في اهتمامات الناس  وتوجهاتهم.

إن أولى توجّهات الجماعة الكنسية، وسط هذه الاحداث، هو أن تستوعب ألمها بالصلاة وأن تودع عهدة الربّ كلّ الذين استشهدوا حبّا، وضعاء كانوا أم كبارا. لكنّ هذا لا يعفيها من أهمية التكيّف مع أولوية الحدث وضرورة الحضور في صلب اهتمامات الناس. فالحدث لم يعنها فقط بل عنى كذلك الآخـر المتألّم كثيرا، وهو الآخر الذي من أجله، كما من اجلنا، صلب الربّ. وقد بات من الغرابة أن ينزع بعض المؤمنين إلى تحييد ذواتهم عن هذا  الحضور لأن في نزعتهم تلك ترفعّا طهريا عن هموم الناس وتنكّرا  لماهية الكنسية  كجسد المسيح الممتدّ في الكون. كما أن في هذه النزعة ما يتجاهل دعوة "المؤمنين إلى أن يكونوا لله ويعملون على إعادة العالم اليه" (الأب ايليا متري – مجلة النور العدد الأول 2005)، وما ينقض إيماننا بأن الله قد أزال، بتجسّده، " التجافي بين البشر والملائكة". 

غير أن ما يجب ألا يغيب عن الكنسيين، ازاء حضورهم المرجوّ وسط الأزمات، هو كونهم أبناء القيامـة التي هي منطلق تعاطيهم وحضورهم في  صلب آلام الوطن، مهما بلغ حجمها. فهذه القيامة، أو الإيمان بها، هو ما يعلو بحضورهم فوق الفعل الغرائزي  فيتميّز، حضورهم هذا، بمواقف تصوغها رؤيتهم الإيمانية، فقط، وينفرد ببُعد شهادي يعكس أهداف هذه الرؤية. وفي هذه الحال يمسي رجاؤهم وهدفهم أن ينتصر الكلّ على خطيئته وضعفه - لا أن ينتصر أحد على أحد - لأن في هذا الانتصار تكمن سلامة  الذات الإنسانية وبها تأفل الازمات لكون الأزمات هي، أبدا، صنيعة  الخطيئة الكامنة في البشر.  

ولربّما أهمّ ما يلفتنا إليه هذا الأمر هو حتمية الربط بين الشهادة والصلاة  بحيث تكون باكورة التزامنا لشؤون الوطن هي الصلاة التي  ترتفع بنفوسنا ونفوس أهل الوطن إلى الله  وتُسهم في شفائنا جميعا من الألم. "فهل فيكم متألّم ? فليصلّ" يقول يعقوب الرسول (5 : 13).  ففي شفائنا من الألم يسهل التعاطي مع الحقد بالمحبة ومع العنف بالسلام ومع الأنانية بالتضحية. وهذه الأوجه من التعاطي هي ما ينأى بشهادتنا عن أن تكون مجرّد فعل غضب وانفعال من جراء  ظلم أصابنا وتضفي عليها خصوصية إيمانية تؤول بنا كي نكون، في الوطن، شهودا لمحبة المسيح لا كتلة من كتل أو جماعة من جماعات. "فغضب الانسان لا يعمل لبرّ الله"  يقول الرسول نفسه (1 : 20).  

إن هذه الشهادة لمحبة المسيح هي غاية التزامنا لأي شأن في الأرض. فنحن أبناء كنيسة تنبع عنايتنا بالوطن من سعينا  إلى العناية بالإنسان وقد اكتسب، في رؤيتنا الإيمانية، قدسية مستمدّة من صورة الله الذي فيه،  هذه الأرض وخدمة كلّ إنسان فيها، أيا كان انتماؤه، تجسيدا لمحبتنا لله  وسبيلا إلى  تحرّرنا من الخطيئة التي تعيق خلاصنا. ولذا، إن تخلّل ممارساتنا استعداءً لأحد بطلت الشهادة، وإن اعتراها التحزّب بوجه أحد شوّهت الغاية. ذلك أن سعينا، كمؤمنين، للاعتناء بالعالم قائم على رجاء أن لا تغيّر هذه العناية شيئا من الأسس التي تحكم علاقتنا به. فالمؤمن ليس لأحد، هو للمسيح "الذي اختاره الله قبل انشاء العالم" (1 بطرس: 1 : 20)،  وهو إن وجد في العالم  فإنما لينهض به إلى المسيح وليشارك في خلاصه دون أن يكون  أبدا  من هذا العالم.  المؤمن ليس من العالم لأنّ "الله، وحده، غاية ايمانه ورجائه" (1 بطرس : 1 : 21). 

غير أن تجرّدنا عن التحزّب لا يقتضي الحياد ازاء أهداف تشكلّ قبلة سعينا كمؤمنين في إطار الشأن العامّ. فالتزامنا بهذا الشأن، الذي يقتضيه ولاؤنا للربّ، محكوم بسعينا الى تعميد المجتمع بالأسس التي تصون كرامة الحياة الإنسانية، وتحفظ قدسيتها، لأن بقدر ما الانسان يعني الربّ يمسي الحياد ازاء ما ينتهكهما حيادا ازاء الله. وبهذا المعنى لا مفرّ من تبنّي الجماعة المؤمنة للأسس التي، في شرعة كلّ الأمم، تصون الكرامة الإنسانية، وترتكز على حقّ الانسان في أن ينعم  بحريته ويحيا في رحاب العدالة.  وهذا  التبنّي لا يمنع من أن تختصّ الجماعة المؤمنة بقراءة لتلك الأسس تتميّز بشموليـة مفتقدة أكثر الأحيان.  ذلك بأن منشأ الحرّية  والعدالة فينا قائم منذ أن ترجمت محبة الله فداء  بحيث منحتنا هذه المحبة، منهما، ما يعجز انسان أو ايديولوجية عن منحه لنا . فحريّتنا قد افتديت  بالدم الالهي، وهو الدم الذي افتدى الجميع وهو ما جعل الحرّية في، رؤيتنا، "تفترض وجود الآخر في فرادته وبالتالي في مشاركته" كما يقول المطران جورج خضر،  وتفترض أن يكون المبتغى هو حرّية الشخص الانساني في سعيه الى كلّ ما من شأنه أن يؤول به شخصا مستحقا صورة الله التي فيه.  إن سعينا ليس هو إلى حريّة تطال الجماعة وتتجاهل الشخص، بل إلى أن ينعم الشخص، في  إطار جماعته، بحرّية التألّق، فكرا وممارسة سبيلا إلى حرّية الجماعة. فيقيننا، إن تكثّف هذا التألّق، أمسى الوطن، بما فيه من جماعات، إطارا ينعم فيه الكلّ بحرّيته ويحمل سمات العدالة الحقّ. وكما تفترض الحرية، في مقاربتنا الايمانية، وجود الآخر في فرادته، تفترض العدالة، في المقاربة ذاتها، أولوية تحرير الإنسان من الظلم  دون تجاهل الحرص على الإنسان في الظالم، وذلك تلافيا لاستحالته مظلوما.  فالمؤمنون هم في موقع الرافض للظلم والساعين أبدا لإزالته لإيمانهم أن الظلم "يشوّه انسانية" الظالم والمظلوم معا. وهذا ما يعيق خلاص كليهما. فهم، أي المؤمنون، في سعي الى العدالة لأن غايتهم أن يحررّوا الانسانية مما يشوّهها. وهذا ما يفترض أن لا يعتري سعيهم  أي تشويه لغايتهم، وهذا يدعو إلى التأنّي بممارساتهم كي لا يطالها حقد يصيب ظالم بظلامة. "فالحقد مرفوض انجيليا لأن الانسان الذي ينقاد اليه يضحي مغلوبا من الشرّ الذي أراد مكافحته" يقول الدكتور كوستي بندلي.

فإنطلاقا مما سبق وجب علينا أن نعي، أمام التساؤلات التي تواجهنا حول سبل حضورنا في الشأن العام،  أننا دائما في خطر أن يغلبنا الشرّ  إن نظرنا الى هذا الحضور متجرّدين عما تخطّه لنا رؤيتنا الايمانية المصاغة في تراثنا الكنسي النهضوي. سيكون لكلّ منا الأساس السليم لأي شهادة في المجتمع إن انكبّ على عشرة ذاك التراث خاصة منه كتابات المطران جورج خضر والدكتور كوستي بندلي المتعدّدة، لأن بقدر ما يقلقنا ويعيبنا أن يكون المؤمنون أقل الناس تأثّرا وتأثيرا في ما يحيط بنا من أزمات، فإنه يقلقنا ويعيبنا أيضا أن تكون شهادتنا خالية من حضور الله ونكهته. والشهادة للحقّ، التي نصبو اليها، لا تبنى بغير "القداسة التي بغيرها لا يرى الربّ أحد" (عبرانيين: 12 : 14). 

إن استقامت شهادتنا،  وتكلّلت بهذه القداسة، كان لنا  دورنا في قيامة الوطن.  

المشاركات الشائعة