الرئاسـة في الكنيسـة

رينيه أنطون

 

مجلّة النور - العدد السادس 2005



حين قال الرّبّ لتلاميذه: "تعلمون أنّ رؤساء الأمم يسودونها، وأنّ أكابرها يتسلّطون عليها. فلا يكن هذا فيكم، بل من أراد أن يكون كبيرًا فيكم، فليكن لكم خادمًا. ومن أراد أن يكون الأوّل فيكم، فليكن لكم عبدًا" (متّى 20: 25 – 27)، رسم، بقوله هذا، معنى أن تكون رئيسًا في الكنيسة. وحين قال متابعًا: 

"هكذا ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدُم، ويفدي بنفسه جماعة الناس" (الآية 28) جعل نفسه مثالًا حيًّا لهذا المعنى. 

لا يستغرب المؤمنون أنّ الرّبّ قال إنّه جاء ليخدم جماعة الناس، ويفديها، وأنّه تمّم، في شخصه، ما قاله تتميمًا كاملًا. ولكنّهم يستغربون أنّ التمثّل بالرّبّ، في زماننا، بات أمرًا نادرًا. فهم يعاينون أنّ الرئاسة أخذت، في غير موقع ومكان، منحى غير سليم بسبب الإهمال حينًا، والتسلّط أحيانًا أخرى. وخطر هذا وذاك أنّهما يشوّهان تكليف الربّ لها ويسبّبان تلفًا في الرعيّة.

لن أتكلّم، في هذه السطور، على الإهمال الذي لا يخفى شرّه، فالرّبّ لم يقصده في قوله المذكور هنا. لقد شاء الربّ، كما هو ظاهر، أن يحذّر تلاميذه من شرّ التشبّه برؤساء الأرض الذين يتسلّطون على رعاياهم. ذلك لأنّ التسلّط لا مكانة له في حياة الكنيسة، فمن يتسلّط على الآخرين، باعتباره أكبرهم، أو أوّلهم، يجعلهم صغارًا دائمًا وتابعين. وبذلك يقمع حرّيّتهم التي لهم في المسيح (غلاطية 1: 5)، ويعطّل مواهبهم التي نالوها في معموديّتهم "لبنيان الجماعة" (1 كورنثوس 14: 12). وهذا كلّه يناقض معنى الرئاسة التي جعل الربّ نفسه مثالًا لها. فالربّ، بقوله، أراد أن يؤكّد لجماعته أنّ الرئاسة، التي تربح العالم لله أبيه، قائمة حيث يتشبّه الرئيس بمن أقامه، وحيث يعمل، جاهدًا، ليغدو المؤمنون كبيرين في الحقّ وأوّلين. هذا هو الأساس. و"ما من أحد يستطيع أن يضع أساسًا غير الذي وضع، أي يسوع المسيح" (1 كورنثوس 3: 11)، لأنّه إن فعل، اختلف الهدف وكانت عاقبة ما فعله وخيمة على الكنيسة.

هذا يقودنا إلى قول آخر وجّهه الربّ إلى تلاميذه، وأعني به: "تتلمذوا لي فإنّي وديع ومتواضع القلب" (متّى 11: 29). لا يصعب تبيان معنى هذا القول. فالربّ أراد، به، أن يؤكّد أنّ الفضائل المرجوّة إلهيًّا، هي تلك القائمة فيه. ومن تتبّع الربّ لا يخفى عليه أنّه لم يطلب من تلاميذه ما لم ينفّذه هو شخصيًّا. فالربّ كان دائمًا وديعًا ومتواضع القلب، ولاسيّما بارتضائه، وهو البريء من العيب، أن يُحكم عليه كمذنب، وأن يُزدَرى به ازدراءً كلّيًّا. وقمّة الوداعة والتواضع هذه، يطلبها من جميع الذين شاء، في كلّ جيل، أن يخدموه. فشأن الرئيس ألّا يغيب عن باله، لحظةً واحدةً، أنّ دعوته، التي لبّاها، هي أن يخضع خضوعًا كاملًا، لمن كلّفه، "كوكيلٍ صالحٍ على نعمة الله المتنوّعة" (1 بطرس 4: 10)، ويجتهد في أن يبقى دائمًا على فضائله المخلّصة. ولربّما هذا ما دفع الربّ، بعد أن دعا تلاميذه إلى أن يتتلمذوا عليه، إلى أن يضيف: "تجدوا الراحة لنفوسكم". فمن ارتاحت نفسه بفضائل المسيح، ارتاح الله وشعبه إليه.

أجل، فالنّاس تريحهم الفضيلة كثيرًا، وهم يدركون أنّ الرئاسة، في الكنيسة، ليست موقعًا دنيويًّا تتحكّم فيه أفكار أهل الأرض وتصرّفاتهم. ولذلك نرى أنّ الكثيرين ينتقدون، وأحيانًا بقسوة، الرؤساء في وسطنا. هذا لا يعني أنّ النّاس هم على حقّ في ما يفعلون. "فقد كتب: رئيس شعبك لا تقل فيه سوءًا" (أعمال 23: 5). لكن ما يجب ألّا نتغافل عنه هو أنّ المسؤول عن الجماعة، إذا أخطأ، يكون، واقعيًّا، المسؤول الأوّل عن إمكان انتشار الخطأ. وعلى الرّغم من أنّ ليس للأخطاء درجات، لكنّها، إذا ظهرت في المسؤولين، فإنّها تشوّه صورة الكنيسة الطاهرة التي لا موقع فيها لاستسهال الشرّ.

إنّ حاجة الجماعة الكنسيّة هي، دائمًا، إلى رئيس يتمثّل بالمثال الأوحد لتثبت هي في الحقّ، وتنمو. فالله لا يثمر بمن يخالفون. وكلّ من يخالف، بعد وصوله إلى سدّة الخدمة، يوحي بأنّه في موقع ليس له أصلًا. الجماعة تحتاج دائمًا إلى رئيس مخلص لله، لئلّا تتبدّد الرعيّة لأنّه إن "ضرب الراعي تبدّدت الخراف" (مرقس 14: 27).

ليس، باعتقادي، من مَثل يوضح السياق، الذي نحن فيه، أفضل من "مثل الوزنات" (متّى 25: 14 – 30). فهذا المثل يبيّن، جليًّا، أنّ الله، الذي يأتمن عبيده على عمله، سيأتي، في يومه، ليكافئ الصالحين، ويدين المخالفين. فلن ينفع العبد البطّال، في ذلك اليوم، أيّ تبرير، ولن يعطى أيّ فرصة ليناقش سيّده ويبرّئ نفسه. الله هو، وحده، من سيقرّر إن كان عبيده قد عملوا بإخلاص وجهد دائمَين، فهو "وحده يعلم العلم اليقين كيف ستجري الأمور، ومن هم أصدقاء له بالمسيح وبالروح القدس"(العلّامة أوريجانس، في المبادئ، 461).

ما يضمن سلامة الرئاسة الكنسيّة والرعيّة في آن، هو، فقط، أن "يصير كلّ تلميذ كمعلّمه" (متّى 10: 25).

 

المشاركات الشائعة