سلام الى المتنسّك في صومعة الحبّ

من وحي مناسبة مرور خمسين عامًا كاهنًا

رينيه أنطون - مجلّة النور العدد الأوّل 2005


أوحت إليّ مكالمتي إيّاك ليلة العيد أنّ الانهماك بتراكم السنين وتعدادها تفاهة. وهل ثمّة تفاهة أكثر من أن يَلهث المنهمكون  بالكمّ خلف ما يتآكلهم غير معنيين بجمال الأثر؟ هؤلاء، فاتهم، سيّدي، أنّ العمر بحرٌ صاغته  السكينة  لوحـة إبداع  فيما نحته الموج مفترسًا الجمالات، وأنّ لا كمّ  فيه  سوى ما يخصّ وزنات الحبّ التي لديك.  فبها، وحدها،  يتثاقل البحر ويترنّح  ليستحيل رسمًا يشابه  خالقك أثرًا  وجمالًا.  أما كلّ عديم أثر يصبو إلى الفراغ  فخفّته تقودُ العمرَ، مهما بلغت به السنون، الى طمره في مقلب الأمواج. ولأن مثيليه في عالمنا كثر، تكبر حاجة هذا العالم، سيّدي، الى إيمانك بأنّ لحظةً واحدةً من الحبّ  تهب العمر جمالًا يَحجُب عنه بشاعةَ  دهر. فإن اقتنى قومُك العمرَ هنيهات حبّ، كتلك التي عَشِقتَها، تتصاعد  لتبني جيل الخلاص، لا سنين تعدو كهذه التي نعيش، أكرمَك القوم بما يليق بك.  

يقيننا، معلّمي، أنّ  أحدًا  لن يدرك، يوما، حكمة الله من كلّ هذه النِعم المسكوبة عليك. غير أننا نتحسّس مشيئةً له في أن يصير، بك، اليسيرُ من تلك النعم الينا. وكأنّ الله، وقد هالته غشاوةَ عيوننا أمام دمه المسفوك، شاء أن يختصر متاعبه معنا فمدّ زماننا بعجنةِ ابداعٍ محيّر ونبوغٍ نادر خمّرَها ببساطة الانجيل ونصبَها في رجل. فابتدع النصبُ الحيّ كلمةً تليق بمسيحنا حكى بها الخلاص وقدّمه بأجملِ صورةٍ ليمسي من عجائب هذا الزمن أن ينهضَ أولادُ  اللهو في الأزقّة نحو أن يصيروا أبناءً للّه، ويسير هواةُ الجهالة نحو أن يلتصقوا بالمعرفة، ويتطلّع أطفال الفقراء الى أن يغتنوا بتحسّس اله لا يرون وبعشقِ طقسٍ لا يفهمون. 

وبَعد، هل يبقى من لومٍ، سيّدي، إن انحازَ ذوّاقةٌ من الناس الى الجمال وأُخِذوا بمواهب جَمّة لبستك  قد لا يكون لك منّة فيها؟ ذلك أن سعيَك قد أُختصِر، فقط، في كونكَ نسجتَ عشقًا عجيبًا، مِن لا لونٍ ولا مادةـ استحالَ بك واحةَ وصالٍ وبعض مواهب الله، وأدركتَ به ما لا يَسهل على الناس ادراكه. أدركتَ أن تُهيِّأ كيانكَ ليرتاحَ الله فيه كثيرا وليُسكب الباقي كلّه عليك. فارتاحَ الله وانهالت النِعم. ارتاح الى افتقاده بالدموع  حين يهابُه آخرون. ارتاح الى توبـةٍ تُسابق خطيئة. ارتاح الى حبّ يواكِب انفعال. ارتاح الى بساطةٍ توسِم ارتقاء. ارتاح الى صُدقٍ قلَّ ان عَهِده في بشر. ارتاح الى من لم يُظهر يومًا غير ما هو، بالحقيقة، عليه.

لهذا سيرصع اليوبيل، سيدّي، إن تعلّم الجمعُ بَعد. فعلِّم الذين شبّوا على النهضة في المسيح وشابوا عليها، علِّم من شابهك موقعًا أو جاراك موهبة، علِّم الكهنة والرعايا وكلّ من اغتنى بالدنيا أو افتقر اليها. علّمنا، جميعا، كيف نبني الزمن الذي في عينيّ الربّ لا الزمن الذي رصَفَته خطيئتنا. علّمنا، بَعد، كيف نَسخر من الّلهو ونزهد بالمال. كيف نعمّد سلطة ونطوّع موقعًا. كيف نقتني معرفة دون انتفاخ. كيف نَصهُر الثقافة والانفتاح بالايمان. كيف نحمل الآخر. كيف نصلّي. كيف نعشق الانجيل. كيف نُبدع ونُحني القامات. فبربّك، سيّدي، لا تكفّ وتعتقد أن بذور الحنطة، فينا، قد غَلبت الزؤان. بلّ، أيضًا وأيضًا، عِظّ واكتب وحاضِر وارع وتَلمِذ وألهِم وصلِّ لننمو مع المسيح، اكثر، علَّ الله يتمجّد فيك أكثر وأكثر.