كلمة - عيـــد الحركـة طرابلــس 2004

رينيه أنطون


لنحفظ الوديعة

        

يتميّز شأن الكلمة في الكنيسة عن شأنها في العالم. ذلك لأن الكنيسة مقام المحبة ومنطلق الصدق. فإن تجسّدت الكلمة، فيها، فعلا أنارت عقول  الناس بحقيقة الله ووعى إنسان العالم أي محبوب هو.  أما إن عرّت هزالة الفعل أمام بلاغة القول استحالت دينونة للناطق بها. وفي كلّ الأحوال، أنت في الكنيسة تمتحن، بكلمتك، أمام واحد فقط هو جسد المسيح المذبوح حبّا وتواضعا على الصليب. 

 

فعلى الرجاء الأول، رجاء الصدق المولود من رحم المحبة، نتحدث في الذكرى الثانية والستين لانطلاقة حركتنا ونحن في غمرة فرح يدفعنا الى إحياء الذكرى كلّ عام. ليس همّنا أن نرتكز الى تاريخ مشرق لاثبات وجود أو لتغييب ضعفات في ظلّ تحدّيات كبيرة تواجهنا. وحده هذا الكمّ  من الفرح الذي نعيش، بانتمائنا الى حركة الشبيبة الارثوذكسية، يحرّك لدينا الرغبة ببسطه أمام جماعة المؤمنين، علّ منهم من يجد سبيلا لتفعيل التزامه قضية يسوع المسيح كما وجدناه نحن في رحاب الحركة الانطاكية.

 

ولأننا على هذا الكمّ من الفرح نسعى لنكون على قدر من الحبّ يدفعنا الى مصارحة الذات ومصارحة الجماعة. ففي المصارحة شيء من التوبة. والتوبة توثبّ دائم نحو الحبيب. نحتاج مصارحة الذات اليوم كما نحتاجها كلّ يوم لأننا نعي أن الضعفات، بانتظار تحقيق ملكوت الله، لم ولن تغادر يوما وسَط الحركة. ونحتاج مصارحة الجماعة الكنسية استكمالا لمصارحة الذات. لأننا بها نقوى إن قويت، وبنا تضعف إن ضعفنا.  فما يؤصّل حركة الشبيبة الارثوذكسية في الجماعة الكنسية أبلغ من وصف وأمتن من رباط. إنها أعمار جهاد وتكريس استحالت دما يحيي عروق الجسد الانطاكي، والكلّ يعلم أن لا حياة للجسد دون الدم، وإن لا دور للدم خارج الجسد.  ولهذا يبطل كلّ فصل يصطنع في هذا الاطار. فحركة الشبيبة الارثوذكسية، إن  تألّق أعضاؤها أو تعثّروا، ستبقى، أبدا، رسمًا للجماعة الكنسية في سعيها لالتماس جسد المصلوب وفي تطلّعها للنهوض بقيامته.  

 

لا ننطق بهذا الكلام إنفعالا أو تحزّبا. ولا نعتقد أن هذا مدعاة تبجّح وافتخار. إنه، فقط، إعلان لحقيقة أودعتنا اياها إيقونات حيّة، تسري في عروقها مواهب الروح،  صنعت لنا رؤية حركة الشبيبة الأرثوذكسية الأولى. نقول مواهب الروح، ولا نخاف، لأن ما أثمرته الرؤية الحركية الى اليوم من ترهّب وتكريس ونشر وتبشير وتعليم وثقافة ليس هو من قوّة بشر بل من فعل الله في البشر.

ولأن الله أحبّنا بهذا الكمّ أمست هويتنا مصدر تحد يتمثّل في أن نكون، أبدا،  أهلا لعمل الروح فينا. وليس سرّا القول أننا، أمام هذا التحدّي، نجرّب كثيرا.

 

نجرّب، أولا، على المستوى الشخصي، حيث أشدّ التجارب إيلاما أن يكون سلوكنا في الظلمة مخالفا لسلوكنا في النور. أي أن نقول ما لا نفعل وأن نفعل ما لا نقول. أقول أشدّ التجارب ايلاما لأن الصدقية، في كنيسة المسيح تحديدا، هي منطلق كلّ شهادة. فإن واجهت هذه التجربة البعض منا  كان هذا أولا إيذانًا بضعف حياة الصلاة لدينا. نعم تضعف حياة الصلاة، ولو مُلئت الكنائس بنا أو شكّلت الأديرة قبلتنا، لأن ما يفصل بين أن تكون الصلاة سعيًا وتمثّلاً وبين أن تكون شكلاً خيط رفيع. فلا تستقيم صلاة أيّ منا ما لم يتخذ خشوعه في صلاته فعل صمود أمام الأهواء في حياته. وكذلك لا تستقيم صلاة أي منا ما لم تتخذّ انحناءته في صلاته فعل انحناء أمام أخطاء الآخر في مسيرته. 

 

أقول هذا لأطلّ أيضا على تجربة أخرى أراها تتهددّ كلا منا، وهي تجربة قداسة تقودني الى صلب الآخر على مذبح "طهرية" أدّعيها بدل من أصلب ذاتي على مذبح خطاياه. قداسة تتخلّى عن الاحتضان والرعاية والمواكبة الشخصية لتترعرع في أجواء من الادانة و التكفير والتصنيف والتسلّط.  فحذاري، يا اخوتي. حذاري أن ننخرط في التنكّر للدم الالهي الذي افتدى حرّية أبناء الله، وأن نتصدّى لحاجة الكلّ الى قداسة محبة، راعية، متلطّفة بالضعفات ومهّذبة لها. لأن سعينا لقداسة كهذه، هو ما يجعلنا امناء لرؤية أودعناها حيث خلاص كلّ نفس، لا هلاكها،  يبقى هو الغاية.

 

هذه الأمانة للرؤية الأولى هي قبلتنا أيضا في مواجهتنا لكلّ ما يعترض شهادتنا، كجماعة، من عثرات ومخاطر نتبينّها في وجوه الحياة الحركيّة هنا وثمّة. ولعلّ أكثرها إيلاما أن يَحجب الغبار المتصاعد من تراكم السنين في عمر الحركـة عن أبنائنا ماهية الحركة وأصالة رؤيتها. ولذلك أتحسس، اليوم، ضرورة التذكير الصارخ بأمور ثلاثة:

الأمر الأول إننا لا نعرف انتماء الى حركة الشبيبة الارثوذكسية يحصر القداسة والمعرفة باكليريكانية والسعي اليهما بعلمانية لنرى ما نراه، في غير مكان،  من تغييب للعلمانيين و سيادة  لوجوه اكليريكية، دون غيرها، على منابر التعليم والتثقيف والتبشير. ولعلّ أخطر ما يمكن أن يقود إليه هذا الحصر هو أن يجرّ النشء الى الاعتقاد الخاطئ بأن المتلمِذ هو، بالضرورة، اكليريكيا وإن المتلمَذ هو، بالضرورة، علمانيا. نحن نعرف انتماءً واحداً هو الى أمّة تعي أن كلّ عضو فيها هو كاهن خادم، معلِّم ومتعلّم، بقدر سعيه التقديسي، عبرها، وبقدر المواهب المسكوبة عليه المسّخرة دائما لخدمتها. دون أن تتجاهل الأمّة ما لخدمة الخادم الأول  فيها من خصوصية وتمايز.

الأمر الثاني إننا لا نعرف انتماءً مجرّداً عن بعده الشهادي، متعالياً عن هموم الناس وقضاياهم في المجتمع والمحيط. نعرف انتماءً يجسّد الصلاة انفتاحاً ومقاربةً لقضايا الإنسان والعدل بوجوهها كافة  دون خوف أو قلق، وذلك انطلاقا من ما تختص به رؤيتنا الإيمانية الأرثوذكسية.   

والأمر الثالث أن انتماءنا إلى حركة الشبيبة الارثوذكسية هو، أولا، التزام شامل بهموم الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة وحمل لها. فما لم تُصهر الأنشطة الحركيّة في خدمة هذا الهمّ وما لم تهدف إلى تنميته في النفوس أمست أنشطة لا لون لها ولا نكهة. فالأنشطة تصحّ بقدر ما تعبّر عن الهوّية وتخدمها. وهويّتنا لا تتجلّى في كوننا جماعة محلّية ذات بعد كنسي بل في كوننا جماعة كنسية إنطاكية واحدة  تتلوّن بنهضوية فكر وخصوصية رؤية وشمولية همّ. من هنا نتلمّس جدّية ما يحذّر منه القادة الحركيّون دائما من أن يُحدّ عمل الحركة بالأطر والاهتمامات المحلّية الداخلية الضيّقة، دون تخطّيها الى ما يقود أبناء الحركة لحمل الهمّ الكنسيّ والتفاعل مع المحيط الرعائي. "فرادة المؤسسين أن كلا منهم كان يشعر بمسؤوليته عن الكنيسة بأجمعها" يقول المطران جورج. لذلك فلنحذر من أن تصبح اهتماماتنا الداخلية وحدها، على أهميّتها، غاية التزامنا. لأن والحال هذه، نكون قد تغرّبنا عن محبتنا الأولى وصرنا كسائر الناس، وحقَّ، حينئذ، للجماعة الكنسية أن تنظر إلينا على غير ما نستحق.

نقول حقّ للجماعة الكنسية، لأننا نرى  إن السهر على استقامة التوجّه الحركي هو مسؤولية الجماعة الكنسية، رعاة ومؤمنين، بقدر ما هو مسؤولية قادة الحركة وأعضائها. هذا ان استقامت العلاقة وسلمت المفاهيم. ذلك أننا تربينا على إن الكنيسة هي عائلة الله الواحدة، وهي كذلك. ولذا تسلم المفاهيم، في الكنيسة، حين ينظر الكلّ الى الأمور من هذا المنظار ليُرى من خلال تألّق كل عضو فيها تألّق وخدمة للعائلة بأكملها، ويُرى من خلال محنة كلّ عضو فيها تجربة للعائلة بأكملها، لأن في قوة كل عضو تكمن سلامة الجسد بأكمله. حينها، فقط، تمسي غاية كل نقد أو تنبيه أن تستقيم الأعضاء وتتواصل في خدمة الجسد الواحد  لا أن يحجّم عضو ويضعف.

 

نشكر الله لأن هذا المفهوم يسود العلاقة بين أعضاء العائلة الكنسية في في أكثر من مكان، ونقلق، في الآن نفسه، لأن مفاهيم مختلفة تحكم هذه العلاقة في أمكنة أخرى. فيُحجب الكثير من حريّة أبناء الله عن شباب ساع لتفعيل معموديته على قدر ما سكب الله عليه من نعم. وإن تفاوتت الأسباب بين سعي لوحدة صفّ أو رصف لطاقات يبقى الأمر مصدر قلق لا ينبع من خوف على إسم أو من تشبّث بشكل. ففعل الروح لا يحصر بأسماء ولا بأشكال. منبع القلق هو أن ينظر الى تراص الأشكال، المقيّد لعمل المواهب، كسبيل لوحدة في الكنيسة، بدلاً من أن تكون وحدة الروح المطلق للمواهب في الجسد الواحد، وحدها، هي السبيل.

إن عكس النظر الى الأمور بمنظار خاطئ بعض المفاهيم الكنسية وأمسى الانتماء إلى حركة النهضة، في بعض الأماكن،  تهمة، فهذا شأن نتقبّله بانحناءة رأس. لكن انتصاب قامة الحق فينا يوجب علينا التحذير من أن تصبح اللامبالاة بشؤون الكنيسة والإيمان، بهذا المنظار، شأنا مقبولا. رجاؤنا أن لا تضيع  الأولويات ونتلهّى بالتجاذبات التي هي من الأهواء، فيغيب عنا جميعا، كعائلة كنسية، التحديات الحقيقية التي تواجهنا اليوم حيث سنسأل عن مواجهتها جميعا.

فكلّنا مسؤولون عن رصد ومعالجة الأسباب التي تدفع بشرائح واسعة من شبابنا الى اللامبالاة بالشؤون الإيمانية.

كلّنا مسؤولون عن ضرورة ابتداع لغة بشارية تخترق ضمائر الشباب وإصلاح لغوي طقسي يسهم في ازالة الغربة بين الطقس الكنسي وحياة المؤمن.

كلّنا مسؤولون عن  الاعداد لاعلام أرثوذكسي بشاري يؤسس لحضور الرؤية الأرثوذكسية في صلب هموم عالم اليوم ويحرّر مؤمنينا من سطوة إعلام مغرّب وآخر مسخّف.  

كلّنا مسؤولون عن تفعيل واستكمال أطر مشاركة المؤمنين في إدارة الشؤون الكنسية وهمومها.

كلّنا مسؤولون عن مواجهة تسرّب المفاهيم الدنيوية الى مؤسسات الكنيسة وأطرها ومسؤولون عن ترسيخ الهوية الكنسية فيها.

كلّنا مسؤولون عن التأسيس لأطر مشاركة ماليـة تسهم في بلسمة جروح الفقراء وتحرّر العائلة من أي سيادة لغير المسيح عليها.

كلّنا مسؤولون عن تفعيل وحدة مفتقدة بين الرعايا والأبرشيات.

كلّنا مسؤولون عن تفعيل رعاية تجعل الله حاضرا  في حياة كل فرد وعائلة.

 

أيها الأخوة

رجائي، في العيد، أن تحفظوا ما أودعتموه، لأنكم به تحفظون المسيح. وشكرا 

                                                      

  

 

المشاركات الشائعة