كلمة - عيـد الحركة جبل لبنان 2004

رينيه أنطون                                             


اذا كان من بديهيات الأمور أن أفرح وأنا أشارك الأخوة التأملّ في أبعاد ومعاني الذكرى، إلا أن هذا لا يغيّب خصوصية الموقف التي تكمن في نعمة أجازت لي الكلمة في مقام سيّد الكلمة وأمام آباء و إخوة، لرسوليتهم أشهد وبها أعتزّ.


حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة

أُسأل أحيانا عما يدفعنا في حركة الشبيبة الأرثوذكسية للاحتفال بذكرى الانطلاقة كلّ عام. ويغيب عن السائل إن إصرارنا على  هذا لا تحكمه المفاهيم الدنيوية الساعية الى تسخيف الأعياد وحدّها بأوجه الضجيج ومظاهر التجمّع، بل تنطلق من مفاهيم إيمانية ترى في كل مناسبة كنسية محطة تامّل وتقويم وتجدّد. وعيدنا هو مناسبة كنسية إنطاكية بامتياز. لا أقول هذا الكلام تحديا لأحد ولا تعصبا وتحزبا لجماعة أحببتها لحدّ العشق. أقوله إيمانا وإعلانا إن رؤيتنا الأولى أو محبتنا الأولى كما يحلو للمطران جورج أن يسمّيها، هي غير قائمة بفعل البشر بل بفعل الله في البشر. فهل من يشهد على غير ذلك وثمارها، بعد اثنين وستين عاما، لا زالت تنبت في حقل العمل الكنسي الأنطاكي ؟ أفعل بشر هو ما غيّر وجه هذا الكرسيّ على أصعدة التكريس والترهبّ والنشر والثقافة والحضور والشهادة وملء الكنائس بالمصلّين. أفعل بشر هو ما جعل هذه الرؤية تمتد، عبر حفنة قليلة من الشباب، الى العالم لتلد أطرا للعمل الارثوذكسي و لتطبع أطرا للعمل المسكوني. وهل غير فعل الله، ما يقود شبابنا اليوم، على ضعفاته، الى تكريس ذاته لأوجه الخدمة الكنسية المختلفة وسط مغريات عصر تفوق الوصف. 

إنها فعل الاله. ولهذا فقط نحن نتمسّك برؤيتنا الأولى منطلقا لكلّ تأملّ وقبلة لكلّ توجّه. غير أن هذا لا ولن يقودنا يوما الى التعامل وهويتنا الحركية كمصدر افتخار،  بل نتعامل معها كمصدر تحدّ يتلخّص في أن نكون أبدا أهلا لعمل الروح فينا.


الحياة الحركيَة والتربية والارشاد

هذا التحدي يتخذّ اليوم أوجها متعددة ومنها أوجه تجارب. ولعلّ بعض جوانب واقعنا الحركي أقرب الى التجارب منها الى التحديات. ساصارحكم القول أن من ظواهر هذه التجارب غياب المصداقية لدى البعض وافتقاد المحبة لدى البعض الاخر وميوعة التزام نلحظها هنا وهناك. وهي ظواهر تشير، في بعض  ما تشير إليه، الى ضعف حياة الصلاة  لدينا.

إن التأمّل في واقع الحركة، اليوم، يبيّن أن النمط الدراسي التثقيفي الذي ساد منذ عقود في معظم فروعنا ومراكزنا، والذي أتبّعناه سبيلا لمعالجة الأزمة الارشادية بوجوهها المختلفة، لم يشكلّ حلاّ لهذه الأزمة. حاجتنا الى المواكبة الشخصية تبقى هي الأساس، حيث يتمثّل شبابنا بمن يرعاه ويواكبه ويتلطّف بضعفاته وينمّي حياته في المسيح فتزرع، هذه التلمذة، في نفوس الشباب حوافز التألّق الثقافي والانساني. ان افتقاد مراكز وفروع الى معلّمين متلمذين لا يستدع منّا البحث عن بدائل دراسية، بل يتطلّب السعي الى تعميم النفس الرسولي الذي ساد في حقبة الانطلاقة لينطلق متلمذ من هنا الى هناك. سعينا هو الى لا ندع الأطر والهيكليات الادارية تحجب الوجوه بعضها عن بعض وتحجب إمكانات وطاقات بعضنا عن البعض الآخر. فلا ينسى أحد إننا أبناء حركة واحدة مهما ترامت أطرافها. سعينا اليوم هو الى تفعيل  تلمذة  تبعد عن الحركة شبح الخلل والانحراف. لا أقول هذا  لغياب الاخلاص أو لقلّة النشاط. فالحمدلله أننا نلمس الكثير من الاخلاص ودفعا هائلا من النشاط. أقول هذا  لأن الواقع قد دفع بشبابنا الى  حصر بحثه عمن يتمثّل به ويواكب منه في صفوف إكليريكية ورهبانية. وهذا الحصر، وقد غلّب الوجه الاكليريكي على مظاهر الحياة الحركية في أماكن كثيرة،  يهدّد بظاهرة غير صحيّة تبرز مؤشّراتها، اليوم، في الفصل الذي نعاينه بين ما هو إيماني ومن هو غير إكليريكي. ودليلي على ذلك هو تغييب الوجوه الغير اكليريكية عن الأحاديث الكثيرة التي أصطلح على تسميتها "بالروحية" والتي تقام في أبرشيات مختلفة. فحذاري يا إخوة من  أن تتخّذ الحركة هويّة غريبة عن ذاتها لكونها أولاً حركة الكلّ.


الهويّة النهضويّة

أما تجربتنا الأخرى فهي تقزيم الرؤية النهضوية لتحدّ بالاهتمامات الداخلية والمشاغل الحركية اليومية. فالويل لنا إن  فقدنا هويّتنا الانطاكية واستحلنا كباقي الناس. الخلل أن نتعامل ووجوه العمل الحركي، التربوية منها الاجتماعية والرعائية، كسبل نصبو للعبور من خلالها الى النهضة،  في حين انها، في حقيقتها،  ترجمة لنهضة الرؤى وانعكاس لها. ولذا لا تستقيم أيٌ من  هذه الوجوه ما لم تعكس رؤية نهضوية مولودة من شمولية الهمّ الكنسي. فالتعليم الديني، مثلا، المجرّد عن هذه الرؤية يصل بالاطفال الى معرفة تاريخ ديانة وقصّة اله. أما ذاك الموسوم بها فينقل اليهم حسّ الانتماء ويزرع في نفوسهم بذور القيامة. فإن كان من هيكليات لدينا تعيق ان يمتلك شبابنا هذا الحسّ وأن يعملوا على تنمية تلك البذور فعلينا ان نجرأ على ازالتها لنستحق مسؤوليتنا عن الكنيسة كلّها.


الواقع الكنسيّ والحركة   

هذا ما يقودني الى الاطلالة على الواقع الكنسي المحيط بنا لألحظ تحدّيا آخر يواجهنا عبر مواقف تبنى منّا، وآراء تطرح فينا، وممارسات تهدف أحيانا الى تحجيمنا. والأمر الذي يجمع بينها أنها تستند، في الظاهر، الى مفاهيم تتناقض والمفهوم الذي خطّه بولس الرسول للكنيسة: "فلو كانت كلّها عضوا واحدا فأين الجسد؟ ولكنّ الأعضاء كثيرة والجسد واحد" (1 كورنثوس 12: 19-20).

لن نواجه يوما ما يعنينا من هذه المواقف بعصبية الجماعة بل سنواجهها بتواضع المحبّ. ذلك لأننا، وبالرغم من تشبّثنا بقول الرسول "إن المواهب على أنواع وأما الروح فهو هو"، إلا أننا نعي أننا نحمل المواهب في "أوان خزفية". وهذا ما يمسي بنا قوما يعون ضعفاتهم. لكن وعينا لضعفاتنا هذه هو ما يدفعنا الى أن نواجه خطأ المفاهيم بقامة الحقّ كي لا يستحيل الخطأ، في كنيسة يسوع المسيح تقليدا. خاصة واننا نعاين جهلا يتحكّم بمسارات رعائية هنا وثمة، وأخطر جهالة تلك المولودة من رحم علم أو ثقافة. نحن نتفهّم قلق بعض الرعاة من ان تستحيل الحركة مرجعية كنسية لأعضائها بدلا من مرجعية الأسقف. وهذا خطر قائم علينا التنبّه اليه أبدا. لكننا نتساءل ألا يقلق رعاتنا أيضا لكون مفاهيم العالم ومقاييسه تشكلّ اليوم مرجعية العمل في مؤسسات الكنيسة ومجالسها ؟  يفرحنا، ولا يقلقنا، أن نُسأل عن خطأ في الممارسة أو ضعف في التصرّف. فهذا من نعم الله علينا لأنّه يلفتنا الى الثغرات و يعكس اهتمام الرعاة بنا. لكننا نسأل أين اهتمام الرعاة وقلقهم من هذا الكمّ من الشباب اللامبالي بشؤون الكنيسة والايمان.


الشهادة والانفتاح  

علّ أسباب هذه اللامبالاة هي وجه تحدّ آخر، يواجهنا، كجماعة شبابية، قدر ما يواجه الادارة الكنسية. ذلك لأننا معنيّون أيضا بتقديم يسوع المسيح الى كلّ عصر بلغة العصر. ولنقّر بأننا على هذا الصعيد مقصّرون. فأيّا كانت الطروحات التي تحجب  حقيقة يسوع المسيح عن شباب اليوم وهي كثيرة، وايّا كانت الوقائع والأشكال التي تشكلّ سدّا في وجه تواصل الايمان والعصر وهي كثيرة أيضا، إلا أنه يبقى لنا منارات أضاءت ظلام العصر بنور الايمان وطعّمت اللغة الايمانية بروح العصر. فآن الأوان أن نبحث اليوم في سبل وصل تلك المنارات بشباب اليوم من خلال منابر حوارية أو غيرها. آن الأوان أن نولي الاعلام ووسائل النشر اهتماما أكبر ونعمل على تعميمها بشكل أفضل. آن الأوان أن نطلق وسائل نشر تقارب، من منطلقات ايماننا، الهموم والمواضيع الشبابية والاجتماعية المتفاعلة في محيطنا. آن الأوان أن نقارب، من منابرنا المتاحة، الأدب بكلّ وجوهه والفنّ بكلّ وجوهه لنؤكّد اهتمامنا بكل إبداع لكونه لمسة الخالق. آن الأوان أن نتصدّر كلّ سعي للعدالة وكلّ توجّه حقّ لنزيل تلك الغربة المصطنعة بين الملكوت والأرض. ولعلّه آن الأوان كي نعيد، في حركة الشبيبة الارثوذكسية اليوم، صياغة خدمتنا في إطار توجّه جديد وبلغة جديدة لنتوجّه الى اهتمامات أخرى مكمّلة.  

ألا أعطانا الله أن نعمل معا، في محبة ووحدة، من اجل أن يتألّق عالمنا بيسوع المسيح. وشكراً

 

 

المشاركات الشائعة