كلمــة افتتاح مؤتمـر مركز جبل لبنان 2004

رينيه أنطون


قال المطران جورج، في حديث له، لمناسبة ذكرى تغييب الامام الصدر، ما معناه أن للمؤسس الدور الأهمّ في حياة الجماعة لأنه هو الملهم الذي يمدّ حياة الجماعة بمزيد من الزخم. وهذا القول الصحيح  يفسّر، الى حدّ كبير، ما أشهد له في هذا المركز  من أن الرؤية النهضوية  في هذا الجبل هي الأسلم على ما هي بين المراكز، والنشاط هو الأفعل. وهذا يعود الى  التفاعل المباشر والمكثّف القائم بينكم وبين المؤسس  المطران جورج الذي سيبقى الملهم الأول لهذه الحركة طالما بقيت الحركة. 

حين اتحدث عن تفاوت على صعيد سلامة الرؤيا النهضوية بين المراكز فهذا لا يعني ان هناك تفاوتا في الاخلاص لقضية يسوع المسيح بين مركز وآخر. ذلك لأن هاجس التربية على الالتزام الايماني، الذي هو أعمق انواع الالتزام، والذي يشكّل محور الاهتمام في هذا المركز يشكلّ، هو أيضا، محور الاهتمام في المراكز الأخرى. على هذا الصعيد علينا  أن نشكر الله لان الاخلاص لقضية يسوع المسيح لا يزال يسود هذه الحركة في كلّ مراكزها وفروعها و لأن  الميوعة والتفاهة السائدتين في هذا الزمن لم يؤثّرا كثيرا في مسيرة هذه الحركة.


الحياة الحركيّة والتربية والارشاد والوعي النهضويّ

هذه الجوانب المضيئة في المسيرة الحركية لا يجب أن تغيّب عنا  أوجه الضعف في حياتنا الحركية، خاصة الاساسية منها. لأن تجاهلنا لهذه الأوجه يستحيل بها خللا يعطلّ المسيرة أو يسير بها الى الانحراف. ولكوني من الذين يعتقدون أن عمل المؤتمرات الحركية وتحديدا، الداخلية منها، لايستقيم إذا حدّت اهتمامتها بالشؤون الداخلية  فقط وغاب عنها هاجس استقامة مسيرة الجماعة بأكملها،  ولأن أحدا منا لا يستطيع أن يحيّد نفسه عن تأثيرات الخلل الذي يمكن أن  يصيب أي عضو من أعضاء الجسم الحركي الواحد، فإنني سأشارككم اليوم في بعض وجوه الضعف، التي أراها تهدّد هوية الحركة على أكثر من صعيد  لنتشارك في التأملّ في سبل التحرّر منها.   فهذه هي مسؤولية مشتركة بين الجميع.

أولا: لدينا كثافة اهتمامات محلّية وكثافة لهو بالشؤون الداخلية والادارية لا مبرّر لهما . فلا كثافة اهتماماتنا ولا نوعيتها، خاصة،  تعكس وضوح مفهوم الانتماء للحركة في كلّ أبعاده لدينا.  بل على العكس  فانها تقزّم  هذا المفهوم  الى حدود نشاط ما أو خدمة ما أو سلوك ما  يقوم به شخص أو فرقة في أسرة أو فرع أو حتى رعية في أحسن الاحوال.  وهذا أمر  يحجب عن شبابنا  الآفاق الكنسية الأرثوذكسية الشاملة لأنهم يعتقدون أنهم يحققون أهداف انتمائهم بمجرّد قيامهم بما عليهم على المستوى المحلّي. ولهذا نلحظ غربـة  كبيرة جدا  عن هموم الكنيسة الارثوذكسية الجامعة – وهي جسد المسيح الواحد الممتد في الكون .

لا أبالغ بالقول اذا قلت أنني أشعر دائما أن متابعة الشؤون الارثوذكسية الأنطاكية  والعالمية وبعض الشؤون المسكونية  هي مسؤولية شخصية تطال بعض الأشخاص المعنيين كالأمين العام وبعض المسؤولين في سندسموس والاتحاد العالمي للطلبة المسيحيين وغيرهما دون أن تكون مسؤولية الجماعة بأكملها.

هذا الواقع تُسأل عنه اولا، النخبة الحركية:  القيادات ورؤساء المراكز والمرشدين والمفكرين والمثقفين لأنه واقع نافر وملحوظ في حياتنا الحركية منذ عشرات السنين ولم  يعالج ، ولأن  حدود رؤيتنا النهضوية، في الان نفسه،  واضحة ونافره في أدبنا الحركي.  ويلخص المطران جورج هذه الحدود بقوله : إن قرادة المؤسسين أن كلا منهم كان يشعر بمسؤوليته  الشخصية عن الكنيسة بأكملها.

هذه المسؤولية هي ما علينا أن نربّي شبابنا عليه. نربيه بالممارسة وليس فقط على المستوى النظري. يجب أن يعاين شبابنا، أولا، وعي المسؤولين عنه لهذه الهموم وأولويتها لديهم. علينا إدخالها في صلب توجهاتنا الحركية اليومية، على الأقلّ كباقي التوجّهات ، ليعرف العضو الحركي  أن شهادته المحلّية لا تستقيم إلا في حال أحد أمرين: أما أن تكون  ترجمة لهذا الانتماء، على المستوى المحلّي، أو أن تكون مدخل لوعيـه الكنسي الشامل.  وفي كلّ الاحوال يجب أن لا يغب هذا  لأنه اذا غاب فنحن في خطر دائم أن نصير مجموعة من الحركات المحلّية ذات الاهتمامات المتعدّدة والخاصة، يجمع بينها الاسم والشكل دون أن تربطها  مفاهيم الانتماء الواحدة. 

ثانيـا: لدينا ممارسات  تساهم في إضعاف  هويّة الحركة كتيار شهادي وتبرزها  كحركة تعليم ديني.  وليس سبب هذه الممارسات  وجود الأسر التعليميه في الحركة (كالطفولة والطلائع) ، بل نوعية  التعاطي مع الموضوع الارشادي عامة وعلى مستوى جميع الأسر. بُعد الرعاية والمواكبة وتعهّد المرشدين لحياة الشخص هو بُعد غير حاضر في المستوى المطلوب حتى لا لأقول أنه بُعد غائب. المرشد لدينا هو اليوم معلّم للشؤون الدينيه ولبعض المواضيع الأخرى أو هو مراقب لصحة التعليم، طبعا هذا اذا استقامت رقابته في أحسن الأحوال . ضعفت التلمذة في الحركة على كافة وجوه الحياة في المسيح ولذلك نرى أن شهادة الحركيين، خارج الأطر التي تجمعهم هي شهادة نادرة. 

أنا أعتقد أن النهضة المرجوّة هي نهضة الكيان الانساني كلّه وليست فقط نهضة معلوماتية دينيه وثقافية  دون أن أنفي أن هذه النهضة تشكلّ مدخلا لا بدّ منه للنهضة الكيانية، غير أنها لا تختزلها. لذلك علينا أن نكمّل الأطر التي تتخّذ المنحى التعليمي في الحركة، اذا ما وجدت ، بتفعيل التلمذة على العيش والشهادة.  بمعنى آخر علينا أن نعيد وان نفعّل دور الفرقة الحركية كوحدة دراسة وعيش وشهادة برعاية مرشد متلمَذ أولا على هذه الأبعاد كي يستطع أن يتلمذ عليها.  

هل  هذا المرشد موجود اليوم بقدر ما تدعو الحاجة إليه في المراكز والفروع ؟   بالتأكيد لا ولكن هذا الواقع يطرح علينا تحديا  وسؤالا آخر: هل علينا، في ظلّ هذا الامتداد الجغرافي الكبير للحركـة أن نتعامل مع الأمور بفنّ الممكن ولو أدى هذا التعامل الى ضعف في الهوية ؟ أم علينا  أن نستعين ببعضنا البعض ونعاون بعضنا البعض. أنا أعتقد أنه  اذا عمّ النفس الرسولي مجددا في هذه الحركة  وتخطينا الحدود الادارية والجغرافية، وكانت لنا جرأة إعادة النظر بالهيكلية الحركية التي تجمعنا  نستطيع ان نسير الى الامام في هذا المفهوم. في كلّ الأحوال يجب أن يبقى قول الرسول بولس في رسالته الى تسالونيكي حاضرا امامنا: "فليشدد بعضكم بعضا وليبن أحدكم الآخر كما تفعلون".

 

المدارس الفكريّة

ثالثا: الموضوع حساس ولكن لا بد من الكلام فيه. نحن نعيش، على الصعيدين الحركي والكنسي حالا من التجاذبات الحادة بين مدارس فكرية متعددة. ومن هذه المدارس ما ينسب اليها الفكر الأصولي ومنها ما ينسب اليها الحالة الانفلاشية. طبعا نحن لا نلتزم هذه التصنيفات. وما يعنينا في الأمر هو اعتقادنا بأن الضعف  لا يكمن في  تعدد المدارس  الفكرية،  لأن هذا الأمر، بحد ذاته، يمكن أن يكون مصدر غنى.  لكّن الضعف يكمن في أوجه تعبير بعض هذه المدارس عن ذاتها ، حيث يرتكز هذا التعبير الى التشكيك بشخص الاخر لا الى مواجهة فكره بفكر. وتوسع هذا التشكيك ليطال الحركة كجماعة كنسية  وليطال أيضا بعض الرموز الحركية. فبعض شبابنا الذين يُشهد لهم بالالتزام والذين يتأثرون اليوم  بمدارس متشدّدة يتساءلون ما إذا كانت الحركة  تتحمل مسؤولية "ما آل إليه الوضع الكنسي اليوم" لكونها سمحت بحرّية الفكر والاجتهاد بشكل واسع !؟. ليس افتقادنا الى ثقافة الحوار هو الجديد لكن افتقادنا للمحبـة أولا و عدم تحديدنا لمفاهيم بعض التعابير  بشكل واضح كالأصولية والانفلاش في الكنيسة ثانيا أدى بالكثيرين منا  الى الخلط بين الأمور: يخلطون بين الأصالة والأصولية وبين الانفتاح والانفلاش . أمست، في كثير من الأماكن، مظاهر التقوى  وممارسة العبادة والأسرار والتشدّد في التزام حياة الكنيسة وقوانينها تهمة في حين انها ، باعتقادي، وجه من أوجه  النهضة التي دعت اليها الحركة. كما أمسى التصدّي لقضايا العصر والحداثة بروح ايمانية والاجتهاد في بعض وجوه الحياة الايمانية انفلاشا في حين أن حاجتنا شديدة اليوم لنعمّد العلم ولننقل مسيحنا الى العالم  بلغة اليوم.  علينا، كي نحصّن أنفسنا في وجه هذه التجابات او أي تجاذبات يمكن أن تليها،  أن نوضحّ بعض المفاهيم كما على المراجع المعنية عدم تجاهل هذا الواقع   وتحديد سقف الاجتهاد المقبول على هذا الصعيد بشكل واضح . 

على رجاء أن نتعاون معا من أجل معالجة  وجوه الضعف هذه وعلى رجاء ان نستمد القوة من الوجوه المضيئة في المسيرة الحركية أتمنى لمؤتمركم النجاح ولمركزكم المزيد من التقدّم وللمطران جورج طول العمر كي يشاركنا دائما في جهادنا.

                                                                       

 


المشاركات الشائعة