الالتزام الاجتماعيّ في رؤيتنا الإيمانيّة

 رينيه أنطون

 مجلّة النور- العدد الأوّل 2002


يقول الأب أفرام (كرياكوس)، في لقاء عُقد في الميناء قُبَيل عيد الميلاد، ردًّا على سؤال، "إنّ الكلام في موضوع الخدمة الاجتماعيّة قد فاق بكثير الأفعال". لا أعتقد أنّ أحدًا لا يشارك الأب أفرام رأيه في هذا الموضوع، لكنّني أراها مناسبة لأُضيف إلى قلق الأب المعلّم، الذي أجلّ وأحترم، قلقًا آخر ينبع من معاينتي لاضمحلال شموليّة رؤيتنا الاجتماعيّة بسبب مفاهيمنا المجتزأة للخدمة الاجتماعيّة والتي تعكسها آليّة العمل الاجتماعيّ المعمول بها اليوم. وحين أتحدّث عن هذه الآليّة لا أقصد عدم تقدير الاهتمامات والجهود الاجتماعيّة المبذولة في أطرنا الحركيّة والكنسيّة، بل أبغي الإشارة إلى ثغرات تعكسها ممارستنا، على هذا الصعيد، إزاء المنطلقات الأساسيّة لرؤيتنا.

أنطلق، للتأمّل في الأبعاد الاجتماعيّة لإيماننا، من تلخيص واقع التزامنا الاجتماعيّ، فأراه يُحصر، اليوم، بالوجه المساعداتيّ الذي يمارَس بشكل مجرّد من البُعد الرعائيّ وفي ظلّ غربة الجماعة عنه وكأنّه أمر يخصّ فقط الأخصّائيّين أو المكلّفين به. وما يؤكّد هذا الواقع أنّ مراكزنا الصحّيّة الاجتماعيّة – كما لجان العمل الاجتماعيّة – وأينما وجدت، تشكو عدم مواكبة الجماعة لاهتماماتها وهمومها، الأمر الذي أدّى إلى حصر هذا الهمّ بقلّة تجهد في هذا السبيل. أضف إلى ذلك أنّ ترجمة هذا الهمّ تقتصر على مساعدات مادّيّة بسيطة، طارئة أو موسميّة، وطبّيّة اجتماعيّة متواضعة، وأنشطة محدودة جدًّا. علمًا أنّ تعاطينا مع هذا الوجه المساعداتيّ يتمّ في غياب رؤية واضحة وموحّدة لأهداف تعاملنا والآخر، ولموقع هذا الآخر في آفاقنا الرعائيّة.

هذا ما آل بعملنا الاجتماعيّ إلى أن يكون وجهًا نشاطيًّا لا همًّا إيمانيًّا في وجدان الجماعة. وهذا

ما يعبّر عن تحجيم مفهومنا للخدمة الاجتماعيّة إلى حدود الوجه المساعداتيّ فقط وعن تحجيم رؤيتنا الاجتماعيّة إلى حدود الخدمة الاجتماعيّة. وعلى الرغم من أنّ لهذا الوضع أسبابًا متعدّدة، إلّا أنّه لا بدّ لنا، في سعينا للخروج منه، من ضرورة التذكير بمفهوم الخدمة، في رؤيتنا الاجتماعيّة، وتحديد منطلقات هذه الرؤية وآفاقها. علّنا بذلك نعيد لعملنا الاجتماعيّ هويّته كونه ترجمة لإيماننا بيسوع المسيح وبشارة به.

في مفهوم الخدمة الاجتماعيّة

في قراءة مفهوم خدمتنا الاجتماعيّة أقول إنّ هذه الخدمة هي سبيل لا بدّ من سلوكه لتحقيق بشارة "الصغار" بيسوع المسيح مخلّصًا. فهذه البشارة هي غاية أساسيّة عندنا نحن المسيّحيّين، من أجل خلاصنا وخلاص العالم. أمّا لغة بشارتنا هذه فهي المحبّة، ذلك لكوننا قد ذُقنا، بتجسّد المسيح وصلبه وقيامته، حلاوة محبّته إيّانا، فباتت شهادتنا، في العهد الجديد، أن نستحيل قنوات لنقل تلك المحبّة إلى العالم. من هذا المنطلق نؤمن بأنّ هذه المحبّة التي تفيض على المحتاج عطاءً وعلى المريض دواءً وعلى السجين افتقادًا وعلى الوحيد رعايةً وعلى المظلوم دعمًا، هي البشارة المرجوّة لهؤلاء الأخوة. فالعطاء والإطعام والافتقاد والدواء وكلّ أوجه العمل المساعداتيّ ليست بحدّ ذاتها، بشارة، بل هي واجب قد نقوم به نحن – كما يقوم به البعض – من منطلق إنسانيّ مجرّد من أيّ بُعد إيمانيّ. البشارة هي أن يشعر هؤلاء "الصغار"، أنّنا نعطيهم ونداويهم ونفتقدهم ونرعاهم وننصرهم لأنّنا نحبّهم، فيلمسون هذا الحبّ حين نلتزمهم كجماعة، لا كأفراد مختصّين فقط وبشكل كيانيّ يصل مداه إلى مواكبة أوجه حياتهم كافّة ورعايتها. كما يلمسون هذا الحبّ أيضًا حين يعاينون محوريّة همّهم، في ضميرنا الإيمانيّ، المترجمة بسعينا إلى تحقيق تحريرهم من أسباب الفقر والاضطهاد لا بمساعدتهم على تحمّل نتائجهما وآلامهما فقط. أليست مفارقة لا تفسّر أنّنا جماعة إيمانيّة تتعاطى العمل المساعدتيّ، من جهة، ولا تبالي بالهيكليّات الاجتماعيّة المنتجة للفقر، من جهة أخرى، ليساهم صمتها، من حيث لا تدري، بتغذية الظلم وتعميم الفقر.

تحرّر الفقراء هذا أراه سعيًا بشاريًّا لا بدّ منه، لتحقيق تطلّع لنا، وهو أن نصل بكلّ إنسان إلى ما يرتجيه الله منه من تألّق ونهوض. فالفقير – إلى جانب كونه مصدر ألم بشريّ عميق – يشكّل حالة مانعة لهذا التألّق الذي من أهمّ صُوَرِه، في عالمنا اليوم، أنسنة العالم ومواكبة العلم والتطوّر وتعميدهما.

من هنا أرى أنّ استقامة خدمتنا الاجتماعيّة مرتبطة، أوّلًا، ببُعدها الرعائيّ البشاريّ، ومرتبطة، ثانيًا، بالتعامل معها كوجه من وجوه رؤيتنا الاجتماعيّة الشاملة. فهذه الرؤية تتخطّى، بكثير، حدود خدمة الفقراء لتصل إلى التزام شؤون الأرض التزامًا كيانيًّا لتعمّ فيها الجمالات المتعدّدة المعبّرة عن حضور المسيح فيها، والعدالة وجه أساس من وجوه هذه الجمالات. أمّا ما يمكن قوله عن الغربة التي نحيا، على هذا الصعيد، فهو أنّها – في أكثر الأحيان – نتاج طُهْريّة مزعومة أدّت إلى فصل مصطنع بين الأرض والسماء وحجبت عنّا هذا البُعد الأساس من أبعاد إيماننا.

منطلقات رؤيتنا وآفاقها

ففي مقاربة لمنطلقات رؤيتنا وآفاقها لن أكرّر ما كتبه معلّمون كثيرون، في مقدّمتهم المطران جورج (خضر) والدكتور كوستي بندلي، لكنّني أستخلص من هذه الكتابات ما مفاده أنّ ترجمة هذه الرؤية تلخّص في "مساهمة الكنسيّين في بناء الإنسانيّة تطعيمًا للكون بنكهة المسيح، والتزامهم حياة الأمّة التزامًا كلّيًّا ارتقابًا للملكوت الآتي فلا تبقى حياة الأمّة خارج تأثير المسيح" (المطران جورج (خضر) في كتابه "الحركة ضياء ودعوة").

قد يميل بعضنا إلى الاعتقاد أنّ هذا الطرح هو أمر غريب عن أهدافنا وتوجّه خارج عن إيماننا ولَهْوٌ عنه. وعلى الرغم من أنّ هذا الاعتقاد قد يصحّ حين تُحصر شهادتنا الإيمانيّة بهذا الوجه فقط ليمسي الالتزام الاجتماعيّ دينًا بديلًا، إلّا أنّ ما يقلقني في هذا الموقف هو ما يعكسه من تغريب للمحبّة المتجسّدة عن الإيمان وما يؤدّي إليه هذا الأمر من فصل بين الإيمان والشهادة.

فالخلق هو فعل محبّة الله. والإنسان، في تعليمنا، هو قصد الله من الخلق وتمخّض لمحبّته. والصلب، كما علّمنا المؤسّس، هو سكب لهذه المحبّة في الضعف البشريّ. لذلك من آمن بالله آمن حتمًا بهذه المحبّة المنسكبة في ضعفه، الهادفة إلى الارتقاء به من ظلمات السقوط إلى نور الألوهة. ومن آمن بالتجسّد آمن ببسط هذه المحبّة في ضعفات الكون جسر عبور، لا بدّ منه، لبسط ملكوت الله. تلك هي الشهادة، هي، تحديدًا، ترجمة وعينا حقيقة إيمانيّة تقول إنّ خلاص الإنسانيّة ليس فعلًا سحْريًّا قد تمّ، زمنًا ما، بفعل اقتحام القيامة للإرادة البشريّة، بل إنّ هذا الخلاص يتمّ بفعل سعي البشريّة إلى الارتقاء بذاتها، في كل حين، حبًّا وانفتاحًا لتلتحم بالقيامة. البعد الاجتماعيّ لإيماننا يستقيم ويتّخذ منحاه الشهاديّ حين نساهم في دفع البشريّة إلى هذا الارتقاء تحقيقًا لملكوت الله.

من هذا المنظار، الكون كلّه مسرح شهادتنا ليسوع المسيح، فهو الإله الذي لا يحدّه زمان ومكان. والبشريّة كلّها مفتداة ومدعوّة إلى المشاركة في عرس الخلاص هذا. غير أنّه، وبسبب من محدوديّة الإنسان، المعيقة لتفعيل شهادته على المستوى الكونيّ، تمسي الأطر المحدودة حاجة أساسيّة في متطلّبات العمل الشهاديّ. من هذا المنطلق ننظر نحن للوطن، بعيدًا عن كلّ مبالغة في تقديس الأطر، على أنّه الإطار الذي وضعنا في لخدمة إيماننا حيث يسمح لنا كلّ من التاريخ المشترك واللغة والعلاقات بتفعيل التعليم والشهادة تجاه الآخر سعيًا إلى الارتقاء المرجوّ. وانطلاقًا من هذا، فإنّ ترفّعنا عن آلام الوطن وأفراحه – كما الترفّع عن آلام العالم وأفراحه - باسم الإيمان بيسوع المسيح، هو ترفّع عن بسط محبّة الله في الكون.

لمحبّة الله هذه ترجمة لا بدّ للبشر من أن يتحسّسوها، من خلالنا نحن المسيحيّين، وذلك من دون أن نفقد تميّزنا عن العالم ومن دون أن يكون تميّزنا هذا ترفّعًا طهريًّا عن التواصل والتفاعل مع سقطات العالم ونهضاته. مسيحنا يبقى دائمًا في العالم ساعيًا إلى إنهاضه من سقطاته، على الرغم من كونه ليس منه، كما يبقى راعيًا هذا العالم مواكبًا نهضته في كلّ حين.

صحيح أنّ من الشائك جدًّا أن يحصر أحد سبل التفاعل ومحبّة الله في العالم. لكن تبقى لهذه المحبّة عناوين تعبّر عنها ولا تحدّها، تستشفّ من الحاجة لمواجهة ما ينمّي مآسي الإنسانيّة ولمواكبة ما يساهم في تألّقها في أيّ عصر أو زمن وعلى ضوء حاجات هذا الزمن وتحدّيّاته. ولذلك لا بدّ من أن يكون أوّل سبل الشهادة لمحبّة الله قراءة واقع الأزمنة وعلاماتها وصولًا إلى تحديد أولويّات الشهادة وحاجاتها. ولعلّ هذا ما حاولت حركتنا القيام به، لثلاثين عامًا مضت، حيث أثمرت قراءتها واقع ذلك الزمن صدور "وثيقة التزام شؤون الأرض" التي ارتأت، في حينه، أنّ سعي المؤمنين لإلغاء الطائفيّة وتحقيق العدالة الاجتماعيّة ونُصرة القضيّة الفلسطينيّة تشكّل ترجمة إيمانيّة وشهادة ملحّة.

أمّا لماذا لم يكن تفاعلنا مع هذه الوثيقة بحجم التزامنا الإيمانيّ، فهذا شأن قد يجيب عنه بعض ما سبق من هذا الطرح. أمّا ما علينا الإجابة عنه اليوم فهو هل إنّ أوجه الشهادة التي لحظتها هذه الوثيقة تعبّر، بما يكفي، عن قراءتنا واقع زمننا الذي نعيش؟ 

باعتقادي أنّ المنطلقات الإيمانيّة التي ارتكزت عليها الوثيقة تبقى هي هي لكون "يسوع المسيح هو أمسًا واليوم وإلى الأبد"؛ لكن ما يبرز هو الحاجة إلى قراءة هذه الوثيقة وعيشها بطريقة جديدة حيث علينا أن نستخلص من التراث المكتوب أو ممّا سيكتب ما يعيد صياغة أولويّات الشهادة للمسيح، اليوم، بما يترجم رؤيتنا المتحرّكة المتخطّية كلّ جمود وتفاعلنا مع أفكار هذا الزمن وتحدّيّاته. ولعلّ محاولة متواضعة للغوص في علامات هذا الزمن تقودنا إلى اقتراح أولويّات شهاديّة يجب أن تطالها تلك القراءة الجديدة، مع إيماني بأنّ ماهيّة بعض هذه الأولويّات قد تختلف باختلاف المواهب المعطاة لكلّ منّا.

فإلى جانب السعي لتحقيق العدالة الاقتصاديّة الذي يبقى شهادة لا بدّ منها في ظلّ طغيان الجشع وسيادة المال في عالمنا، وإلى جانب رفض الطائفيّة المتمادية والتي تحجب عنّا كلّ انفتاح على الآخر ومعرفة له، وإلى جانب نصرة كلّ قضايا الشعوب العادلة، من دون خجل، بما فيها قضيّة فلسطين التي تغدو اليوم، أكثر منها في أيّ يوم آخر، رمزًا لسيادة منطق القوّة وتسلّطه على منطق الحقّ، تتوسّع التحدّيّات الشهاديّة لتطال أيضًا عناوين أخرى منها: حقوق الإنسان – الإعدام – الإسلام والعلاقة مع المسلمين – الأصوليّة –العنف بوجوهه المباشرة وغير المباشرة – البيئة – مجتمع الاستهلاك – مفهوم الحرّيّة الشخصيّة – العولمة والنظام "الجديد" – تطوّر العلوم (كالاستنساخ البشريّ والإخصاب الاصطناعيّ) حيث كلّ من هذه التحدّيات يضعنا يوميًّا في أكثر من موقف أو تساؤل.

فهل لنا أن نستجيب لنزيل غربتنا عن الآفاق الرحبة لإيماننا ونجدّد بذلك فعل إيماننا بيسوع المسيح فاديًا الكون؟

 

 

 

 

 

المشاركات الشائعة