المال في الكنيسة بين الواقع والرؤية

رينيه أنطون


نشرة صوت المركز  - 1999 



التساؤلات التي وردت عبر مقالة رئيس المركز في العدد السابق أتت معبِّرةً عن قلق يحياه الشباب تجاه الوضع الكنسيّ القائم. وقد بلغ هذا القلق ذروته في ضوء ما حملته الفترة الأخيرة، على الصعيد الكنسيّ، من إشارات إلى تغليب المفهوم العالميّ للمال والسلطة على المفهوم الكنسيّ. وباعتقادي أنّ هذه الإشارات قد أتت مكمِّلةً لسوابق عديدة عاينها المؤمنون، خاصّة في هذا العقد الأخير، تشير إلى أنّ الدور غيرَ المرجوّ المُعطى للمال ورموزه المتنفِّذة في مجالات الخدمة الكنسيّة المتعدِّدة الأوجه بات يشكّل خروجًا عن رؤية الكنيسة إن لم نقل نقيضًا لها.

بادئ الأمر نشير إلى أنّ أحدًا منّا لا ينزّه نفسه، على الصعيد الشخصيّ، عن تجربة المال والسلطة في مسعاه الإيمانيّ، فتجربة "حنانيا وزوجته" (أعمال 5: 1 – 2) اللَّذَين اعتقدا بإمكان الجمع بين تكديس المال وعبادة الله تواجه كلًا منّا باستمرار. لكنّ سعينا لتخطّي التجارب، المرتكز على الصلاة والرجاء بالله، قائم أبدًا. غير أنّ ما يقلقنا كثيرًا هو أن تنطبع حياتنا اليوم كجماعة كنسيّة – وهي التي تغذّي، مع الصلاة والصوم، جهاد كلّ منّا في وجه التجارب –بهذا القدر من الدينونة وكأنّ مفاهيم النظام العالميّ "الجديد" التي تسود هذا الزمن، وقوامها أنّ المال والقوّة - لا الله - هما مصدر كلّ سلطة، تطأ بثقلها علينا.

فقد عادت هذه المفاهيم لتتسلّل إلى عالم الجماعة المؤمنة انطلاقًا من الرعايا ووصولًا إلى الأصعدة كافّةً، فحلّ مفهوم رفع الشأن مكان مفهوم التواضع. أمست وثاقة العلاقات – ومصدرها وفرة المال – منطلقًا للخدمة عوض نقاوة الإيمان والقدرة على التعليم. باتت قوّة الكثير من مؤسّساتنا تكمن في إنشاءاتها لا في خدمتها. عمّت أسماء المتبرِّعين الكثير من النشرات الرعائيّة. غابت أسماء القدّيسين وبسطت أسماء المتموّلين امتنانًا على أبنية بعض المؤسّسات كما زيّنت صدورهم بأوسمة القدّيسين الشهداء.

باطلٌ القول إنَّ الكثير من هذه المعالم لا يجدر التوقّف عنده. فالأشكال في الكنيسة ليست كالأشكال في الدنيا كما "أنَّ المال في الكنيسة هو غير المال في الدنيا"، حسب تعبير الأخ جورج نحّاس. الأشكال في الكنيسة يجب أن تعكس فرادة الجماعة الكنسيّة من خلال مفاهيمها وعلاقاتها وحياتها وذلك ترجمةً لإيمانها بيسوع المسيح، فتمسي الأشكال بحدِّ ذاتها جزءًا من التعليم لا يتجزَّأ. فكم وكم من الأشكال في كنيستنا باتت شبه تقليد قائم يناقض كلّ تعليم. وهنا يكمن الخطر، الخطر أنَّ هذه المعالم ليست بوليدة اليوم. إنَّها وليدة مسار تصاعديّ خيّم، ومنذ سنوات، على الوضع الكنسيّ ولا يزال، وسينتج، بالتأكيد، المزيد ممّا يُقلِق المؤمنين طالما لم يخترق الوعي الإيمانيّ الصمت المخيّم على الواقع المناقض للرؤية. الأزمة المتفاعلة في كنيستنا اليوم هي أنَّ الكنيسة تحيا مسلّمة بما يناقض رؤياها ويحجبها.

رؤية الكنيسة المحجوبة اليوم، وهي لا تتوانى عن تفعيل دور المتموّلين بتأثير المدّ الدنيويّ، قائمة في مفعول فلس الأرملة القائل "إنَّ هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من الجميع لأنّ هؤلاء كلّهم ألقوا عطايا الله ممّا فضل عنهم، وأمّا هي فمع عَوَزِها ألقت ما تملك" (لوقا 21: 3 – 4).

رؤية الكنيسة للمال قائمة في كونه – أي المال – وككلّ شيءٍ آخر، في خدمة البشارة. فإن أُخرِج عن هذا المفهوم فإنَّه ليس بشيء "لأنّهم كانوا يبيعون ما يملكون ويأتون بالأثمان ويضعونها عند أقدام الرّسل" (أعمال 4: 34 – 35).

رؤية الكنيسة للعطاء قائمة في أن لا تَمْتَنّ لمن يعطي لأنّه لم يكن هناك من يدّعي "أنّ شيئًا من أمواله له بل كان عندهم كلّ شيء مشتركًا" (أعمال 4: 32).

رؤية الكنيسة للمؤسّسات، وقد فقد معظمها فرادته، هي أنّها مرتعًا ليسوع وواحةً لخِدمة الجماعة كلّها للجماعة، هي تتميّز في علاقاتها وخِدمتها وشهادتها وتربيتها. 

رؤية الكنيسة للفقراء أنّهم صدارتها، ويكفيهم في غربتهم اليوم أنّهم أحباب الله.

أَلَم يَحِنِ الوقت كيّ تختبر الجماعة الكنسيّة رؤياها عيشًا، فيعطيها الله أن تنقلها إلى العالم ليتخمَّر العالم بها، لا أن تبقى هي أسيرة قيود العالم؟

 

 

 

المشاركات الشائعة