كلمة - عيد الحركة طرابلس 1998

 

رينيه أنطون      


ستّة وخمسون عامًا ونحن في رحم الحبّ مرميّون. ستّة وخمسون عامًا، زمن خاطته لحظة إبداع فأمسى واحة رجاء نرجو أن تستحيل، ونحن نستحضر تلك اللحظة، أيقونة تزهو بفرادة ألوانها، نغرسها في صدر أنطاكية أملاً لشعب المصلوب علَّ هذا الشعب يصير عاشقًا أبدًا للقيامة. عيدنا يا أحبّتي هو استذكار لإبداع لم يحدّه زمان فولد أبناءً ملكوتيّي الهوى. العيد هو وعينا أن المسيح هو ملكوت هذا الزمان وملكوت كلّ زمان.

هذا ليس بأدب نصوغه دون قناعة لأنّنا لا نسكر بجمال الكلمة رغم شغفنا بها، بل نعشق الأعمال المجسّدة لوعينا وإن سقطنا أحيانًا في تجارب مناقضة كوننا في جدّية الخطيئة مولودين. فما يشهد على محوريّة المسيح في حياتنا هو قول معلّم لنا "أنّ كلّ كلام في غير المسيح لغو" (المطران جورج خضر- الحركة ضياء ودعوة). من أعلن المسيح محور حياته أعلن ملء حياته بالمسيح الكلّ وسعيه للقاء هذا الكلّ شاهدًا. فلا إعلان لحياة في المسيح دون شهادة لأنّ حبّه للنّاس أُعلن صلبًا والتزامه خلاصهم أُعلن قيامة، والكنيسة هي امتداد لهذا الإعلان القياميّ في التاريخ سعيًا لخلاص العالم. حضور الكنيسة في العالم سعيًا لصيرورة العالم كنيسة هو تجسيد للإعلان القياميّ وتحقيق لقصد إلهيّ يرتكز على شهادة الكنيسة للربّ.

مدخل:

هذه الشهادة تكتمل حين تبلغ نقاوة الكنيسة نقاوة ربّها. نحن لم نعايش مفهومًا للكنيسة يختلف عن كونها جماعة متحلّقة حول الكأس المقدّسة بإمامة الأسقف، ولم نعاين تعريفًا بالشهادة يناقض كونها امتدادًا للمحبّة المتدفّقة من الكأس عبر الجماعة إلى العالم أجمع. فمن ذاق منّا حلاوة الكأس ذاق حلاوة ربّه وأمسى مسؤولاً عن صيرورته قناة لنقل تلك الحلاوة إلى العالم. من هنا كان إيماننا بأن طهارة الكنيسة ونقاوتها هما من طهارة أبنائها ونقاوتهم، ومن هنا كان وعينا مسؤوليّتنا عن واقع الكنيسة ومرتجاها، إذ أمست بالنسبة لنا مصدر فكر وغاية وجود.

 مسؤوليّتنا هذه هي التي تدفعنا كي نتحرّق شوقًا إلى تنصير الجماعة المؤمنة وجعل هذا العالم أهلاً لربّه. المسؤولية هذه هي التي تقودنا إلى طرح هواجس نرى بها سبيلاً لتحقيق الكنيسة غاية وجودها الكونيّ، فتحيا ملكوتها ليحيا العالم فيه. نطرح هواجسنا بصدق ووضوح وصراحة ولطف، لأنّ بهذه فقط تستقيم المحبّة. بالحبّ علينا أن نحيا لا بالمحاباة لأنّ الحبّ سمة الملكوت والمحاباة سمة العتاقة. فحذار يا أحبّة أن يسود التحابي صفوفنا.

 من موقع مسؤوليّة أبناء الله، وانطلاقًا من الإيمان بكهنوتهم الملوكيّ، علينا أن نعلن حضور المسيح في الكون ونعمل لتحقيق ما نراه مدخلاً لهذا الحضور. وحدها الكنيسة الشفّافة، النقيّة، اللّائقة، المُحبّة، تكون جسرًا لعبور الناس إلى المسيح وما عدا ذلك لغو بكنيسة تستقيم فيها الرعاية وتتميّز فيها العلاقات والأطر، يتصدّرها الفقراء ولا يسودها المال، بكنيسة كهذه يتحسّس شعبنا محبّة المسيح وينعم بخلاصه.

الرعاية:

استقامة الرعاية ترجمة لوعي الكنيسة دعوتها كي تبسط الرحابة الإلهيّة على البشريّة جمعاء، فتطبع الإنسانيّة بما للمحبّة الإلهيّة من سمات دون أن تغرق هي في محدوديّة الإنسان والزمان، متذرّعة بالضّعف البشريّ، وكأنّها لم تفتد بالدم الإلهيّ. لا أُبالغ بالقول إن واقعنا على صعيد الرعاية، في كثير من وجوهه، هو تعبير واضح عن الارتياح لمحدوديّة البشر والانغماس في محدوديّة الزمان. ما أعتقده، وكائنة ما كانت الأسباب المؤدّية إلى ما نشهد في كثير من الأماكن من سوء رعاية وضعف افتقاد وتعليم خاطئ يلقّن للشعب الحسن العبادة ممّن اختار الباب الملوكيّ وسيلة قوت ونفوذ، أن إحجامنا كشباب نهضويّ عن الانخراط في الكهنوت وفق توجّه هادف لسدّ الثغرات الرعائيّة القائمة هنا أو هناك، هو تكريس لهذا الواقع وتشجيع له. إنّ لنا، والألف الثالث للميلاد قد دنا، أن نؤسّس لشهادة الكنيسة في عالم اليوم ببناء ركائزها، والكاهن المصلّي المعلّم الناشط والمواكب لعلوم العصر وجمالاته أهمّ هذه الركائز على الإطلاق. مسؤوليّتنا الكبرى أنّنا ادّعينا إيمانًا، وبيت الله لا يخدم من غير أبناء الله. هذا ما يوجب علينا، أوّلاً، العمل على دعم هذا الكاهن، وأينما وجد، في وجه عتاقة مانعة لمعرفة الحقّ وخلاص الناس. كما يدفعنا، ثانيًا، إلى التعاطي مع موضوع التكريس الكهنوتيّ بجدّية ومتابعة، فنحثّ يوميًّا على الانخراط في الكهنوت، بمباركة الأسقف، من نلحظه أهلاً لهذه المسؤوليّة في صفوفنا ورعايانا، وفق خطّة أولويّات هادفة إلى البدء بتغيير الأوضاع الرعائيّة الأكثر ضررًا القائمة في بعض الرعايا، وصولاً إلى بناء الرعايا الجديدة على أسس كنيسة سليمة عبر الكاهن المرجوّ. كلّ تطلّع لإصلاح رعائيّ يستند فقط على التنظير لشخص الكاهن ودوره ولا يؤسّس لحالة كهنوتيّة جديدة مرتكزة على كهنوت الشباب العالم هو تطلّع محدود المفاعيل والنتائج.

القوانين:

هذه الحالة الكهنوتيّة الجديدة تساهم أيضًا في استقامة الأطر الكنسيّة نظرًا للعلاقة العضويّة القائمة بين الأطر ومفَعّليها. تحقّق هذه الأطر غايتها حين تستحيل فعل تواضع يمارَس بين أعضاء الجسد الواحد، على صورة تواضع إلهيّ تجلّى بالخلق والفداء وكان ترجمةً لمحبّة لامتناهية، فتأتي النّظم الكنسيّة متميّزة في أنّها تحكم بمرجعيّة المحبّة لا بقوّة السّلطة. النّظم الكنسيّة المعبَّر عنها بالقوانين هي ترجمةً لسعي الأطراف الكنسيّة إلى أن تخدم لا أن تُخدَم فتنعكس تلك الخدمة اكتمالاً لمسار الكنيسة، لتتألّق الكنيسة وينعكس تألّقها خدمةً للعالم أجمع. حاجة كلّ منّا للقانون في الكنيسة تنبع من حاجته للآخر كي تستقيم محبّته فتمسي، رعاة ورعيّة، في تناغم هادفٍ لتعميم البشارة "فليس الجسد عضوًا واحدًا بل أعضاء كثيرة" (1 كورنثوس 13، 12) "فلو كان الجسد كلّه عينًا فأين السمع ولو كان الجسد كلّه أذنًا فأين الشمّ؟" (1 كورنثوس 12، 17) يقول الرسول. لذلك برزت حاجتنا ودعواتنا الدائمة لاستكمال تشريع وتنفيذ القوانين الكنسيّة على المدى الأنطاكيّ كلّه كي يتاح للأعضاء جميعًا خدمة هذا الجسد بلياقة وترتيب. في هذا الإطار، ونحن نعلن فرحنا بالجهود التي تُبذل في هذه الأبرشيّة المباركة، برعاية سيادة راعينا الجليل، لإطلاق مؤتمر الأبرشيّة والمجلس الملّي المنتخَب، ندعو إلى أن تستند ممارستنا الرعائيّة التنظيميّة إلى هذه المفاهيم فينعكس ذلك من خلال الخطوات الآتية:

1.    العمل ليكون مؤتمر الأبرشيّة إطار حوار وتفاعل وورشة عمل للمؤمنين بإمامة الأسقف لوضع رؤية موحَّدة حول الإدارة الكنسيّة والتربية والتعليم والأوقاف والمؤسّسات والشهادة والخِدَم الليتورجيّة، يتولّى المجلس الملّيّ المنتخَب وضعها موضع التنفيذ. هذا ما يقتضي وجود نظام داخليّ يعبّر عن هذا التوجّه ويضع آلية العمل المطلوبة لتحقيقه. ولنا في هذا الجانب رأي سنبلغه إلى صاحب السيادة عبر القنوات المتّبعة.

2.    التنبّه إلى ضرورة تجديد مجالس الرعايا القائمة، كلٌّ حسب مدّته ووفقًا للقانون، فلا نكتفي باستكمال تنفيذ القانون، أو نرتاح لمواقعنا حيث نحن، بل نسعى للحفاظ على فرادة قانون المجالس وخصوصيّته لناحية التغيير وإتاحة الفرص لجميع المؤمنين كي يشاركوا رعاتهم في الخدمة.

3.    أن يعتمد العاملون في الحقل الكنسيّ المصارحة سبيلاً والحقيقة شعارًا للوصول إلى ما نرجوه من إصلاح ونهضة، فلا يعتقد أحد أن الخدمة أو الحكمة تقضي بالتغاضي عن ثغرات وأخطاء هنا وهناك فيترجم هذا التغاضي بالتحبّب تارة والتهرّب تارة أخرى. خدمتنا الحقّة تكمن في وعينا مسؤوليتنا عن الواقع بسلبيّاته وإيجابيّاته ومواجهته بجرأة وصلابة وحبّ فنفعّل أطرنا ونجعلها ميادين شهادة وإخلاص.

4.    أن تعي مجالس الرعايا حجم المسؤوليّة المُلقاة على عاتقها في اختيار مندوبيها لمؤتمر الأبرشيّة فتنتقي من تراهم أهلاً لهذه المسؤوليّة بكلّ صدق وشفافيّة متخطّية مراعاة المصالح الشخصيّة والأنانيّات والتمثيل العائليّ الضيّق.

5.    ضرورة أن ينتدب الأتقياء الأنقياء وحدهم للمسؤوليّات في الكنيسة. الممارسة الليتورجيّة والعضويّة الفاعلة أي الناشطة في كنيسة المسيح والتواضع وعفّة الكفّ والنفس شروط يجب التمسّك بها أثناء اختيار من يسوس الأخوة، فوحدهم الأنقياء يصنعون نقاوة الكنيسة تمهيدًا لتنقية العالم.

ونحن ننتقي المسؤول الكنسيّ، علينا أن نسعى كي لا تُحَدّ خياراتنا فقط بمن انتصبت قامته أمامنا متمتّعًا بعلم أو موقع ومال ممّا يحجب عنّا طهارة البسطاء. تعالوا نشخص معًا إلى تلك القامات المنحنية صلاة في زوايا الكنائس وقد أغنى الإيمان روحها، فنأتي بمساكين الروح في الكنيسة إلى مراكز الخدمة، ونعلن ثقتنا بقدراتهم، ونصدرهم في المجالس والقلوب.

6.    أن نسعى كي لا يغيب الشباب عن هذه الأطر فنزجّه في المسؤوليّة الكنسيّة "لأنّه يحبّ أن يكون فاعلاً لا منفعلاً" حسب قول المؤسّس (المطران جورج خضر – الحركة ضياء ودعوة، ص 50). نحن نفخر ونشكر الله لأنّ إنجازات على هذا الصعيد في أبرشيتنا قد تحقّقت. ولكن ما يجب أن نلفت الشباب إليه هو أهميّة استمراره في تحصين نفسه بالتأصّل في حياة الصلاة والليتورجيّة ودراسة الكلمة، والتشبّث بهويّته، وتجسيد شغفه بالنقاوة والتجدّد، أيًّا كان موقعه. ما نرجوه من مشاركة الشباب في المسؤوليّة الكنسيّة هو أن نطبع المسؤوليّة بروح الشباب كي تتجدّد، لا أن نلبس العتاقة ثوبًا شبابيًّا فيفقد الشباب جدّته.

الكنيسة والشهادة:

تحقيق هذا التطلّع لأنماط علائقيّة مميّزة، ضمن أطر شاهدة محورها كهنة معلّمون يتمتّعون بشموليّة فكر وصدقيّة ممارسة، يسمح لنا بإطلالة على تحدّيات عالم اليوم هادفة لتعميد العلم وأنسنة المجتمعات والنظم.

تعميد العلم نترجمه بمواكبة الإنجازات العلميّة، والتعمّق في دراسة انعكاساتها على البشر كوننا في كنيسة الناصريّ أوّل المعنيّين بالمصير الإنسانيّ، وكون "الكنيسة تعرف على أساس حوار مع عالم يجدّد خلقه ويبني ذاته" (المطران جورج خضر – الكنيسة في العالم ص 131). أهميّة وعينا لحجم التحدّيات الإيمانيّة واستعدادنا للإجابة عن التساؤلات الكبيرة التي بدأت تطرحها علينا بعض الإنجازات المنتظرة كالاستنساخ وتحديد الجنس البشريّ وما إلى ذلك، تكمن في أنّه يبرهم لعالم اليوم أنّنا في صلب التحدّي لأنّ مسيحنا هو منبع كلّ خلق وإبداع وجمال.

أمّا أنسنة المجتمعات والنّظم فيبنيها حضور فاعل للكنيسة في مواجهة البنى الإجتماعيّة القائمة على منطق القوّة ترسيخًا لسلطة أو كسبًا لمال. كرامة الفقراء ستبقى جرحًا نازفًا في الضمير الكنسيّ حتّى يتخطّى المسيحيّون منطق الصدقة والإحسان ليتصدّروا السعي لبناء العدل في عالم يتبارى في صناعة الفقر، فيأتي سعيهم هذا عميقّا بعمق الطرح الكتابيّ وصلبًا بصلابة الموقف الآبائيّ. فانطلاقًا من قول المغبوط أغسطينوس "أنتَ تعطي الجائع خبزًا. لكن من الخير أن لا يكون جوع فلا تعطي أحدًا" (الكنيسة في العالم ص 126)، نحن ندعو إلى أن تستقيم خدمة الكلمة بأن يتميّز المؤمنون بفرادة ممارسة مجرّدة من الحقد تسعى لإزالة البنى الجائرة المنتجة للقهر الإجتماعيّ وتحقيق العدالة في الأرض، فيكون سعيهم هذا مباركًا لأنّه، أوّلاً، فعل حبّ لصانعي الفقر كي لا يشعروا يومًا أنّ لهم في ضمير الكنيسة ارتياحًا أو تكريمًا، ولأنّه ثانيًا، فعل إيمان بأنّ الملكوت من الأرض يبدأ.

سادتي الأجلاّء، يا أحبّة، متى أعينا أن نشرّع أبواب الملكوت في الأرض ليحيا العالم فيه، أمست الكنيسة عالمنا، واستحال العالم كلّه كنيسة والسلام.

 

 


المشاركات الشائعة