الكنيسة والانسان

 رينيه أنطون  

كلمة عيد الحركة في مركز طرابلس 1996


وإن بلغت السّنون منّا كمًّا، يبقى سعينا في مسيرة العشق أوحد: أن نشيخ لتشبّ العروس، أن نذبل لتتألّق وأن نموت لتحيا. حبّذا لو أُعطينا أن نبلغ ما نسعى إليه.

وكي يكتمل العشق فصولًا، شئنا عيدنا عرسًا لأنّ العرس مقام محبّة و"المحبّة لا تزول أبدًا" (1 كو 13 : 8) ونحن الذين شهدنا لقول الرّسول "المحبّة لا تفرح بالظّلم بل تفرح بالحقّ" (1 كو 13 : 6)، شئنا عيدنا صرخة حقّ. شئناه صدى لأنين إنسان اليوم، علّنا نعتقه ونُطلقه في الرحاب الإلهيّة ليستحيل الأنين جلجلة ونشهد معًا فجر القيامة.

العيد شئناه وقفة إنسانيّة التطلّع ونحن على درب القيامة لأنّ الألوهة حلّت بيننا فأمسى إنساننا معشوقًا إلهيًّا واستحلنا هياكل حيّة للرّبّ، "لأنّ هيكل الله مقدّس وأنتم أنفسكم هذا الهيكل" يقول بولس الرّسول (1 كور 3 : 17).

 قدسيّة الإنسان تدفعك للتأمّل في هذا المعشوق الإلهيّ، الذي خُلق على صورة الله حرًّا محبوبًا، فتراه يئنّ تحت وطأة معاناة تتعدّد وجوهًا وتتناغم أشكالًا، تَسبّب بها عالم اليوم في سعيه لخدمة إله كاذب، وإن بدا ساعيًا لخدمة جدّة إنسانيّة أو استقرار مجتمعيّ. فأيّ جدّة تنتجها العتاقة وأيّ استقرار ينتجه الظّلم. الجدّة تنتجها المحبّة والاستقرار يصنعه العدل.

معاناة إنساننا اليوم أنّه مرميّ بين أن يكون آسرًا أو مأسورًا، عبدًا للمال أو ضحيّة، ظالمًا أو مظلومًا. خيارات وأشكال نراها كلّها حاجبة نور الإله، معيقة حكمه في الأرض ومانعة بسط الملكوت. لذا كان يقيننا أنّ السعي لإحقاق الحقّ والعدل والحرّيّة هو سعي ملكوتيّ لا بدّ منه. لأنّه "شاء فولدنا بكلمة الحقّ لنكون باكورة لخلائقه" يقول يعقوب الرّسول (1 : 18).

ألم يقل الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية، ساعيًا لتحرير المؤمنين آنذاك من وطأة الشريعة: "الله خلقنا لنكون أحرارًا، فاثبتوا إذًا ولا تعودوا إلى نير العبوديّة" (5 : 1). الحرّيّة الإنسانيّة إذًا هي نعمة إلهيّة مكتَسبة بالفداء ولذا هي حرّيّة مطلقة لا تحدّها حدود عدا تلك المكتسبة من أجمل صفات الخالق، ألا وهي المحبّة. وحدها المحبّة ينبغي أن توجّه حرّيّة الإنسان ولا أيّ شيء آخر.

نستعيد هذا لأنّنا نرى حقوقًا إنسانيّة تُهدَر في عالم اليوم على مذبح الأنانيّات. نستعيد هذا لنقول إنّ حقّ الإنسانيّة في سعيها لمجتمع أفضل هو حقّ إلهيّ لا يحجبه بشر، فكلّما اقترب العدل دنا الملكوت، بخاصّة ونحن نرى منطق هذا العالم يسود بيننا، متوسِّلًا لترسيخ سيادته كلّ ما أُعطي مالًا وقوّة. صحيح أن هذه صغائر لا تقلقنا لأنّ الأرض تبقى صغيرة أمام رحابة الملكوت ويبقى ربّنا الأقوى، لكنّنا نقلق فعلًا لما نراه من توجّه هنا وهناك لنزع الصبغة الإلهيّة عن الإنسان، وتسخير قدسيّته في خدمة صغائر هذا العالم فنرى إنساننا يفقد سموّه، متهافتًا ومتهالكًا في سعيه لتطوّر زائف إن هدف لشيء فإنّما يهدف لاستهلاكه وتشييئه في خدمة المال. يقلقنا أن نعايش تزعزع القيم واستباحة الضمائر. يقلقنا أن يبطش الجوع في مجتمعنا والعالم وأن يُسلب إنساننا أدنى مقوّمات العيش، والكلّ على ذلك شاهد، فنرى الفقر يزداد وكرامات الصغار تُنتهك في كلّ حين ومكان وحتى في بعض المواضع المرجوّة شاهدة للمسيح. "فهنيئًا لمن يصبر على المحنة، لأنّه إذا امتُحن ينال إكليل الحياة الذي وعد الرّبّ به من يحبّونه" يقول يعقوب الرّسول (1 : 12).

على أيّ حال لن نقول في المال أكثر ممّا قاله الرّبّ. لكن المحن التي نعيش تدفعنا إلى تأكيد دور الجماعة المؤمنة، المتغنّية أبدًا بإله المحبّة، في تحرير إنسان اليوم من معاناته. كلّ إنسان، ظالمًا كان أم مظلومًا، فلا ننكر على أحد إنسانيّته لأنّنا نشأنا على أن الصورة الإلهيّة قائمة في كلّ إنسان، وأنّنا مدعوّون أبدًا لإحيائها كي يقوم المسيح في الكلّ، ولأنّنا نعي أن فرادة فداء المسيح لنا أنّه حرّرنا أيضًا من شهوات الحقد والتسلّط والشّرّ.

"إنّ الإنسان يتبرّر بالأعمال والإيمان لا بالإيمان وحده"، يقول الرّسول يعقوب (2 : 24)، وعليه نحن نقول من لا يعرف الناس لا يعرف الله. المعرفة التي نتحدّث عنها، هي المعرفة التي خطّها لنا المسيح بموته، ونقلها لنا الكتاب والآباء. هي معرفة تتخطّى كثيرًا حدود العطاء والإحسان لتصل إلى التزام كيانيّ لكلّ الآخر، يتجلّى باتّحاد إنسانيّ ثالوثيّ الأبعاد، يسعى لخلاص الإنسان من القهر ويبقي الأرض متوثّبة لاستقبال الملكوت. المسيحيّون مدعوّون إلى أن يتعرّفوا إنسان اليوم، بهذا المفهوم أي بمفهوم كتابهم. كلّ ادّعاء لمعرفة الله باطل ما لم يتعرّف أوّلًا إلى القامة الإنسانيّة المنتصبة في الأرض، وكلّ صلاة لا تستقيم حقًّا ما لم تحمل هاجس الآخر بآلامه ومآسيه. ولذا لأنّكم "تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم" (يو 8 : 32) الشهادة للحقّ نرجوها شهادة للمؤمنين أجمعين. أن نكتفي بما نحن عليه اليوم من انزواء أو تطهّر وتعالٍ متشبّثين بكوننا لسنا من هذا العالم أمرٌ لا يخدم المسيح. فحذار يا أحبّة أن ينطبق علينا قول الرّسول فنكون "ينابيع بلا ماء وغيوم تسوقها الرياح والعواصف" (2 بطرس 2 : 17) فما يجري يعيق قيامة المسيح في القلوب التي تعاني وكم هم الذين يعانون. ولذا فرادتنا اليوم أن نكون ضمير العالم مجسّدين هذا بحضور لنا مضيء وسط المحن، في سعي حثيث لمجتمع أفضل شاهد لإنسانه، متميّزين بأن يكون الإنسان وحده همّنا وخلاصه سعينا. علينا كجماعات مصلّية أن نتناسى يومًا أنّ الكنيسة لا تقف عند حدود الحجارة. فهي جسد المسيح الذي يظلّل الكون، هي كنيسة لأنّها أوّلًا فعل روح وفعل حبّ. حينها فقط نستحقّ اسمه ونستحيل جسرًا لحضور كنيسته في الكون.

"للكنيسة كلمة في العدل والحرّيّة وفي اقتراب الناس من المساواة"، يقول المطران جورج خضر، وهذا ما نتلمّسه حينًا ونرجوه أحيانًا أخرى. أن تدع الكنيسة ما لقيصر لقيصر لهو أمر مقدّس، لأنّ الحبّ دائمًا نقيض الأهواء، غير أنّه أيضًا حضور أبديّ في قلب المحبوب، يرتكض منتفضًا لحظة يتزعزع الحبيب ويُستباح. المسيح يا أحبّة قَلِقٌ يوم يقلق الإنسان، وصارخٌ لحظة يتألّم البشر، ولذا رجاؤنا أن تعكس الكنيسة صوت ربّها فيعلو في الحقّ فوق كلّ صوت. الكنيسة معنيّة أوّلًا اليوم، لأنّ إنسانيّة الإنسان مُستَباحة. 

نرجو أن يصدح صوت كنيستنا داعيًا إلى أنسنةٍ أكثر للمجتمع الذي نعيش، ورافضًا تحطيم الآمال الإنسانيّة فيه. نرجو أن يعلو صوت الكنيسة وسط الضمائر الحيّة، منيرًا طريق الشهادة للحقّ أمام الأبناء، مجدِّدًا تاريخ العطاء وبذل الذات في خدمة الفقراء والحقّ، فيُتَرجَم هذا الصوت في حضور خلاصيّ للكنيسة في الكون.

حضور الكنيسة في الكون نرجوه أيضًا امتدادًا حيًّا لمحبّة المسيح، نرجوه حضورًا معلّمًا، موجِّهًا وراعيًا، حضورًا خلاّقًا لواحات ملكوتيّة في صحراء العالم، إن هدفت تلك الواحات لشيء فإنّما لدعوة المتعَبين في الأرض لينهلوا من الماء الحيّ وينعموا بمحبّة الله والحرّيّة في المسيح. وعلَّ الكثير من مؤسّساتنا القائمة اليوم والمرجوّة أبدًا تعكس بعضًا من جمال ملكوتيّ ولهذا نشكر الله.

الفرادة التي نرى للمؤسّسة الكنسيّة أن تكون أوّلًا واحة خدمة وحرّيّة وفرح تعكس صورة ملكوتيّة إذا عمّمت عمّ الملكوت. فرادتها أن تنعم بحكم المحبّة فتتحرَّر هي أوّلًا وتحرّر إنسانها من كل قيود القوانين والعوائق البشريّة الخاطئة والتي هي من صنع البشر لتكون المحبّة وحدها مرجعها. تلك هي الغاية وبهذا نتميّز إن بلغنا إليه. وفي معرض السّعي، نفرح ونشكر الله لما نراه من المؤسّسات التي أنعم علينا بها عبر جهود أصحاب السّيادة والمؤمنين والتي تسعى مخلصة لتكون خادمة للمسيح في وجه كلّ إنسان، حيث نتلمّس هذا السعي بشائر فرح وحرّيّة في الوجوه.

ونتألّم لما نسمعه ونعاينه من سوء تصرّف وإذلال للناس في بعض المؤسّسات الأخرى وقد أمسى التطوّر وحده غايتها ولو على حساب الإنسان. أحيانًا تنذهل وتصمّ أذنَيك من صراخ المتعَبين لما يعانونه في بعض هذه المؤسّسات وكأنّ معاناتهم الإنسانيّة لا تكفي. فتجد نفسك متسائلًا: أَلِخِدمةِ المال وُجِدَت أم لخِدمة الله؟ يؤلمنا يا أحبّة أن لا يكون للفقراء مركز الصدارة في هذه المؤسّسات، ويؤلمنا أن لا ينعم إنسانها بالحرّيّة فتغدو كباقي الناس لا تعني المسيح بشيء. حاجتنا للمؤسّسات تنطلق أساسًا من حاجة إنساننا للخدمة، فإن لم تكن لأجل هذه الخدمة فلماذا تكون؟

صاحب السيادة، أيّها الآباء الأجلاّء، يا أحبّة، علّنا قُلنا كلامًا غير مُباح لكن العيد أيقظ في محبّتنا جوانب راقدة، نحن الذين تسلّل إلينا منطق هذا العالم في كثير من الأحيان وأمسَيْنا جماعة فاترة لا تستحقّ اسمها.

كي نكون أبناء لله والكنيسة، كي نستعيد فرادتنا النبويّة، كي يسمو الإنسان إلى ربّه ويتصدّر الفقراء هواجسنا ومجالسنا أيضًا وكي نكون أُمناء لربّنا قُلنا هذا. تكلّمنا، ونحن في ذروة المسيرة الخلاصيّة كي نكون شهودًا لقول الرّسول "ولو كان لي الإيمان الكامل أنقل به الجبال ولا محبّة عندي، فما أنا بشيء" (1 كو 13 : 2). علّ الكلام يستحيل فعلًا فنقوم كلّنا مع المسيح.

 

 

 

 

 

المشاركات الشائعة