مقدّمـة كتاب "لماذا أتلهّف كمسيحيّ الى ولادة لبنان الجديد"

رينيه أنطون - 2019

                   

كانت الحرب، وكان هناك تلاميذ. كانت ساحات الوطن، وشرفاته الاعلامية، مُشرَّعةً لكلّ من يتآكله الحقد ويقول بالثأر وتحصيل الحقوق والحفاظ على المكاسب عبر العنف والمجازر واستباحة الآخر. ووسط هذا المشهد كانت المصالح والقضايا الكُبرى تلعب سعيًا الى تحقيق كثرة من الأهداف عبر التسلّل من فجوات الوطن، الطائفية، الواسعة. أمّا التلاميذ فبقوا في حبّهم. إجتاحَهم الألم وشغلَهم، وسطَ الرعب وتصاعد اللغة الغريبة عن لغتهم وامتداد المشهد البعيد عن ملكوتهم، كيف يَرسَخون في لغة الحقّ ويُعطَوا أن يسدّوا بعضًا من تلك الفجوات بتحصيناتٍ إنجيلية تفدي العالم ولا تُفدى به. تحصينات يبنونها، بنور الههم، في قلب العالم خدمة للحقّ وبوحيٍ من فوق.

من رحم هذا الألم، وحيرة هذه التساؤلات، أطلّ كوستي بندلي بوهج القائد المختلف عن قادة ذلك الزمن، المحاور للصوت المنفلش من فوهة المدافع بالكلمة والنبرة. أطلّ بهموم ٍثلاث. أولّها ألا يتسرّب الحقد المنتشر الى داخل البيت المجاور للكنيسة، الذي يحضن قضيةَ يسوع، لئلاّ تحلّ الطائفةُ، ومصالحها، في حركة الشبيبة الأرثوذكسية بدلًا عن الجماعة. همَّه، ثانيًا، أن ينخرط الكنسيّون، بما فيهم الحركيين، في مسيرة إبطال البُعد الطائفيّ للحرب ومنع ترسيخه عبر مبادرات وحضور مجتمعي خادم لا تحدّه حدود طائفتهم. وهمَّه، ثالثًا، أن يولد الوطن من معمودية الدم جسدًا جديدًا معافى من الأوبئة التي قادته الى مآسٍ متكرّرة والتي منها الوباء الطائفي. أن يولدَ هيكلًا مُحصَّنًا بعدالةٍ تناصر المهمَّشين وانصهارٍ يرتقي بشعبه الى أن يكون حرًّا في إيمانه، الايمان الذي يخدم الربّ، والآخر، في الوطن وليس ذلك الذي يسخّر الله لنُصرة هذا أو ذاك في مسعاه الى قضم الوطن والآخر.

آلم كوستي بندلي، ذلك اليوم، أن يجعل الكلّ من الربّ خادمًا له، وخصوصًا أن يُصارَ بالصليب، رمز الفداء، سلاحُ صراعٍ وحربةٌ في جسدٍ مظلوم. هو ربّه "الذي أحبّه أولًا"، وأحبّه حتى الموت، فكيفَ لا يختنق بالشهادة للحقيقة الايمانية التي كُشفت له، لحقيقة سيّده غاسل الأرجل، إن لم يصرخَ بها. فبات لا يهمّه أين يصرخ وكيف قدر ما يهمّه ضرورة الصراخ، فأتت صرخته بهذا العنوان. لهذا، "لماذا أتلهف كمسيحي الى ولادة لبنان الجديد"، كتّيبٌ لا يُقرأ كسؤالٍ في سياق أسئلة كثرت يومًا. ولا يُقرأ  كموقفٍ، في زمن الحرب، أدلى به كوستي بندلي تلبيةً لدعوة هذا أو ذاك من أطرافها. مَن عرف بندلي وواكَبه يشهد أنّ سُخط هذا التلميذ على اللاعبين في ساحات الحرب لم يستثني أحدًا، وأن نزفًا منه كان يواكب كلّ نزف واستشهاد أيًا كانت الجهة المعنية. فالحرب رسّخت كوستي في بنوّته للكلمة، الكلمة الذي تسبق دمعتُه كلّ ألم يُصيب البشر، ولم تنزلق به الى التحزّب والانحياز الى غير الحقّ الانجيلي. 

المنحازون الى هذا الحقّ، وكوستي بندلي معلّم بينهم، يدركون أن الأرض لن تشهدَ العدالة المشتهاة، ولن تعاين الشعوب الفرحَ والسلم الحقيقيّين إلا يومَ يغسل المسيح الكون بضيائه ويحلّ الملكوت. ولكنهم يعون، ويتحسّسون، أن كلَّ ركن عدالة في الأرض هو موقعٌ مريحٌ لسيّدهم، وأن كلّ ومضة حقّ هي صلاةٌ له للاسراع في مجيئه الثاني، وأن العدالة والحقّ، إن تمدَدا، بانَ نسيج الملكوت أكثر فأكثر في الأرض. فإن شاؤوا أن يعاينوا هذا المجد، إن يتلهّفون له، ولبصمةٍ من حبّهم للمسيح فيه، وجبَ ألا يغفلوا عن أيّ شهادة حيث يجب، وخصوصًا حيث يُشوَه الهُهم ويُجرَح الفقراء ويغربَ العدل وتُنتَهك الحياة، أيّ حيث يبكي معلّمهم. كوستي بندلي، بكتيّبه هذا شاء أن ينظر الى فوق ويتمتم: ها أنذا أقف وأشهد يا ربّ، ها أنذا أخبرهم، حقًّا، من أنت علّهم يُشاركوني الرجاء بأن يعمّ وهج نورك في ظلمة الأرض اليومَ قبل الغد. "لماذا أتلهف كمسيحي الى ولادة لبنان الجديد" يُقرأ في هذا السياق، كصلاة من تلميذٍ اشتاق الى معلّمه في الأرض وخافَ، بسبب تصاعد البشاعة فيها، أن يغرب فاديه عنها الى الأبد.

 ويبقى لماذا هذه الصلاة اليوم. لأن فجوات الوطن، الطائفية والمذهبية، تتسّع ولا تضيق. لأن شمسَ العدالة لا تُشرق عليه. لأن الحربَ، وإن دون سلاح، ما زالت قائمة. لأن كثرةً من شعبنا تتألّم. لأن في بلادنا ما ينادينا، كمؤمنين، ولا نستجيب. لأن الحاجة، وسط هذا كلّه، تشتدّ الى صوتٍ خارجٍ عن المألوف، يصرخ بما هو غريبٌ عمّا نسمع، ينشدّ الى الخلاص الآتي من فوق وهو شاخصٌ الى المهمَّشين هنا. 

لماذا؟ لنعمّد الوطن بالكلمة الشافي، الكلّ، كي لا يعمّده المتصارعون، مجدّدًا، بالدماء.

__________
* المؤلّف: الدكتور كوستي بندلي       

 


المشاركات الشائعة