حـديــث فــي فـــــرع المينــــــاء 2018

 رينيه أنطون  


في ندوة حول المؤسسات الارثوذكسية في فرع الميناء تاريخها غير محفوظ لديّ، أما تاريخ جمع الحديث في هذا النصّ فهو شباط 2018 


بداية يجب التوضيح أن ما سأطرحه على هذا الصعيد هو رأي ايمانيّ اجتهادي شخصيّ وليس رأي حركيّ رسمي

أقول هذا أولاً لقناعتي أننا لا نزال نفتقد، في كنيستنا الأرثوذكسية، الى رؤية كنسية ثابتة على هذا الصعيد. فنحن لا زلنا نعيش في فوضى رؤى وطروحات  وكثرة الاجتهادات، التي وإن تخلّلها بعض الثوابت المشتركة إلا أن آفاقها تختلف وتتعدّد. وما يخاف منه المرء على هذا الصعيد هو أن تنطلق بعض هذه الاجتهادات من الرغبة في التغطية على واقع  لا ينسجم  والهوية. 

ولعلّ عدم وضوح هذه الرؤية الكنسية هو ما يفسّر  غياب جدّيـة المواكبة الكنسية لعمل المؤسسات على الأرض.

السؤال المطروح  علينا اليوم يحمل عدّة تساؤلات  اسمح لنفسي باعادة صياغتها على الشكل التالي:

هل أن واقع المؤسسات الأرثوذكسية وعملها يعكسان أمانتها للغايـة من وجودها ؟

وهل أن توجّهات ادارات هذه المؤسسات تنسجم مع توجّهات الكنيسة ازاء مؤسساتها وتخدم الغاية التي من أجلها وجدت.

ولماذا يعكس لنا واقع المؤسسات تشرذماً وتفرّداً وغياباً للتنسيق والوجوه الوحدوية بينها. 

وبرأيي أنه قد يكون لهذه التساؤلات جواب واحد إن وضحت لدينا الرؤية. 

 أولاً  أشير الى أن  تقييمنا لأي حضور مؤسساتي في العالم لا يمكن أن يستقيم ما لم نحرّره من البُعد الشخصي، أيّ من التطلّعات الشخصية، ونطلقه قياساً على هوية ما يُنسب اليه وغايته. فمثالاً إن كنّا نتحدث عن مؤسسسة تجارية وجب علينا تقييمها قياساً على مفاهيم التجارة، علماً وغاية ربحية. ولأننا، هنا، نتحدّث عن مؤسسة كنسية وجب علينا التقييم قياساً على هوية  الكنيسة التي تنسب اليها وتعليمها  وطبيعتها وغاية وجودها على الأرض. 

 فالكنيسة في الكتاب المقدّس هي، ببشارتها، معبر للناس الى ملكوت الله بحيث أن ما تربطه أو تحلّه في الأرض يُربط أو يحلّ في السماء. (متى 16 : 19) –  (يوحنا 20 : 23)

 وهي جماعةٌ خاصّة الربّ مرعاة منه ( يوحنا 10 : 16)   

وهي عروس المسيح عذراء طاهرة (2 كورنثس 11 : 2) 

وهي المبنية على تعاليم الرسل وأساس واحد هو يسوع المسيح الذي به ترتفع لتكون هيكلاً مقدّسا للربّ (أفسس 2 : 20) و (أفسس 2 : 21) 

هي جسد المسيح (أفسس 1: 23) وجماعة مقدّسـة (أفسس 5 : 27)  

 وهي جسد المسيح وشركـة التأله (القديس غوريغوريوس بالاماس) لأن هذا التعريف يعبّر عن غاية وجودها في العالم التي هي قيادة الانسان الى التألّه. 

 بهذا  المعنى الكنيسة هي  وجه الحضور الالهي في الأرض، واحة لهذا الحضور، تنحدر من الله العليّ الى العالم لتمدّ الحضور الالهي فيه  وترتفع به من دنيويته الى الالوهة. وهي في علاقتها بالعالم في سياق هذا المسار  تحفظ تميّزها عنه  بكونها فيـه ملحاً (مرقس 9: 49-50)  وخميراً وليست منه.

 والمؤسسة الكنسية هي من تعابير الحضور الكنسيّ في العالم الهادف بشكل أساس الى رفع العالم الى الربّ. وأي تعبير عن حضور الكنيسة في العالم يفقد مبتغاه إن فقد تمايزه عن العالم. أما سبيل المؤسسة الكنسية الى تحقيق هذا الهدف (رفع العالم الى الربّ) الثابت بحسب ما كشف لنا الى اليوم،  أيّا كان اختصاصها، فهو ينبع من فعل المحبّة والرحمة. 

 أنا لا أختصر دور المؤسسة الكنسية بهذا الفعل  ولا أقول بوجوب أن  يتوقّف تطوّر الفكر الايماني وتعمّقه بسبل بشارة العالم  عند حدود هذا الدور للمؤسسة الكنسية، لكنّ  أقول أن هذا الفعل (المحبة والرحمة) هو المنبع والمنطلق الذي ينطلق منه أي سبيل أو دور آخر.

أؤكّد على هذا انطلاقاً من أمور أربع: 

الأول محورية خدمة المحتاجين والرحمة بهم في الكتاب المقدّس (انجيل الدينونة، السامري الشفوق الخ...) وصدارة هذا الهمّ لدى اباء الكنيسة القديسين عبر تاريخها، وحضوره، أي فعل المحبة، كاسأس وحيد في التجربة المؤسساتية الغنيّة للقديس باسيليوس الكبير، ووضوحه في ما كشفه لنا الكتاب في أعمال الرسل 6: 2-6 حيث كلّف الرسل سبعة من التلامذة بخدمة توزيع الارزاق اليومية على الأرامل (وهو ما يمكن اعتباره أول وجه لمؤسسة كنسية كُشف لنا) حيث نستشّف أن الكنيسة لا تستطيع أن تهمل  تلبية حاجة الناس (فعل المحبّة والرحمة) ولو كان السبب هو خدمتها للكلمة والبشارة.

وكي نستكمل الطرح المبدئي على صعيد الادارة لكونها شقّ من السؤال، برأيي أن الادارة في الكنيسة هي كأي ادارة في العالم. هي وسيلـة لاتمام الخدمة وتحقيق  غاية المؤسسة التي هي على رأسها. وشروط استقامتها ونجاحها هي نفسها شروط استقامة ونجاح أي ادارة أخرى. لكنّ الأمر الأساس الذي يجب أن تولد منه أي ادارة في الكنيسة وأن تتمايز فيه، بالضرورة، عن أيّ ادارة في العالم هو أن تكون معجونة بهمّ الكنيسة وشهاتها ووليدة هذا الهمّ. ذلك لكون من لا يحمل الهمّ لا يستطيع أن يقود مسيرة مدّه في اي مكان. والاصحاح ذاته من أعمال الرسل أشار لنا الى هذا  بشكل لا  يقبل الشكّ  حين تحدث عن أن الجماعة اختارت لهذه الخدمة من هو ممتلئ من الايمان والروح والحكمة. 

بهذه الافاق تمسي الجماعـة الكنسية معنية مباشرة بشجون المؤسسة الكنسية لأنها وجه شهادي لها وسبيل من سبل سعيها التقديسي وتقديس الكون. وبهذا المعنى تمسي مسؤوليـة الادارة الكنسية أو الادارة في الكنيسة أن تكون أمينـة  على اتمام هذه المهمّة – المسعى التقديسيّ. وأول سبل أمانتها هو تعميد وسائلها وتعاطيها وعلاقاتها بالروح الايمانيـة. 

لا شكّ أن نظرة موضوعيـة لواقع مؤسساتنا على ضوء هذه الرؤيـة  لا توحي لنا بالايجابية والارتياح. وهنا لا يمكن لأحد أن يتكلّم الا على ضوء ما تعكسه المؤسسات بمشهدها العام دون أن ينفي إمكان أن تتحلّى هذه المؤسسة أو تلك ببعض الومضات على هذا الصعيد. واذا شاء الشخص أن يتخطّى تقييمه الشخصي المرتكز الى معرفته بشؤون هذه المؤسسة أو تلك أو تجربته معها أو خبرته فيها  فلا يمكنه أن يتخطّى نبض الجماعة المؤمنـة عامّة ، مشاعر الجماعة الكنسية وضميرها متألّم مما يشعر به من غربـة هذه المؤسسات عن هذا السعي التقديسيّ وغربتها عن الروح الكنسية وهذا بحدّ ذاته دليل لا يدحض.  وأنا هنا اشير بشكل عام الى غياب المسعى الجدّي والعميق في مؤسساتنا للوصول الى المبتغى وليس الى عدم ملامسة مؤسساتنا هذا المبتغى. لأنّ المؤسسة هي على صورة الجماعة المنسوبة اليها.  فما لم تعكس حياة الجماعة في الكنيسة ملامستها لهذا المبتغى لا يمكن أن نطمح الى أن تعكس صورة المؤسسة الكنسية ملامستها اياه. ونحن دائما في سعي بسبب الضعفات والسقطات. 

لكنّ وكما أن معالم هذا السعي في حياة الجماعـة الكنسية يؤشّر اليها ببعض الوجوه ويمكن للمرء أن يلحظها هن أو هناك وهي : وجوه الصوم والصلاة والمشاركة في الأسرار والخطوات الشركوية وأطر الخدمة والرعاية  وما الى ما هنالك. فإن، برأيي، لمعالم هذا السعي في المؤسسة الكنسية وجوه يؤشّر اليها ولكنّ، مع الأسف، لا يمكننا ملاحظتها عامّة.

منها أن تغذّي المؤسسة الكنسية تواصلها مع هموم وهواجس الجماعة الكنسية وأن تحمل الجماعة الكنسية حاجات المؤسسة الكنسية وخدمتها في هواجسها. نحن على هذا الصعيد، اليوم، نعيش حال عربة وتغرّب. فالعلاقة بين الجماعة والمؤسسة غائبة والسمة الكنسية للمؤسسة يعبّر عنها بإيقونة الشفيع وصورة الاسقف أو البطريرك وبما تفترضه الأمور من علاقة ادارية. هذا ما ينعكس غياباً للهوية الكنسية الحقيقية عن المؤسسة وللبُعد البشاري المباشر وغير المباشر الأمر الذي يجعل المؤسسة غير محصّنة ازاء السقوط في مفاهيم وانماط دنيوية.  

لذلك لا تتميّز العلاقات في المؤسسة الكنسية عن العلاقات في غيرها من المؤسسات التي لا هويّة  كنسية لها. فتنمو النزعات الفردية في ادارتها وتتغذّى الانانيات الشخصية والمؤسساتية، ولا تشعر بارتباط رسالتها وخدمتها برسالة وخدمة المؤسسات الأخرى، وتضعف النقاوة في أجوائها. كما يتحكّم مفهوم السلطة بعلاقة الرئيس بالمرؤوس وتتحكّم المحاباة والبُعد الشخصي بهذه العلاقة. وأيضاً، في أكثر المؤسسات، تتحكّم القسوة في تطبيق القوانين وبعلاقة الادارة بأهل القطاع المخدوم أو، أيضاً، تتحكّم المحاباة والبُعد الشخصيّ.  

ولذلك، أيضاً، تغيب صدارة همّ الفقراء والمحتاجين . وهنا لا أعني أن ما يشير الى غياب الهمّ هو أن الفقراء والمحتاجين لا يستفيدون بالكامل من خدمات هذه المؤسسة أو تلك. ما أشير اليه أنّه ولو شاء المرء أن يتفهّم الأسباب الموضوعية التي قد لا تسمح بتلبية حاجات المحتاجين بالكامل، (علماً أن هذه الاسباب ليست هي وراء هذا الغياب في كلّ مؤسساتنا) الا أنّه لا يمكنك أن تتفهّم كون المؤسسة الكنسية هي مؤسّسة غير متألّمـة لعجزها عن الالمام بهذا الجانب ، وبهذا المعنى تجدها مؤسسات قادرة على أن تجد حلولاً مناسبة لهمومها الأخرى، أكانت هموم مالية أم تطويرية أم انمائيـة ولا تُدخل في مسعاها ايجاد حلول لهذا الهمّ أقلّه بنفس الزخم. وأنا هنا أطرح أن الكنيسة اذا شاءت أن تثبت جدّيتها والتزامها الحقيقي بهذا البُعد أقلّه لكانت ربطت قبولها للهبات المخصّصة للتنميـة بشرط اقتطاع نسبة تعشيرية منها لللفقراء. أو أقلّه لكانت رصدت مما تخصّصه هي لتطوير وتنمية المؤسسات نسب تعشيرية لتنمية هذا البعد. 

ولذلك، أيضاً وايضاً، تجدها مؤسسات لا تولي هذا البُعد أهميّة في مسألة التوظيف فيها. واقول هنا وبكل راحة ضمير  أن أولوية التوظيف في المؤسسة الكنسية يجب أن تكون للأكثر حاجة اذا توفّرت الكفاءة أو الشروط المطلوبة. وأن المؤسسة الكنسية مدعوة أن تتميّز بأن المقاييس فيها على هذا الصعيد تتميّز عن المقاييس التي  تحكم التوظيف في المؤسسات الأخرى.

 


  

المشاركات الشائعة